العنف ضد المرأة في المجتمعات العربية



مية الرحبي
2004 / 7 / 19

لابد بداية من إيضاح مفهوم العنف ضد المرأة بأنه، كما أفهمه ، العنف الجسدي والمعنوي والنفسي الذي يمارس على المرأة , مناقضا لمفاهيم الحضارة و القيم الإنسانية , ومتعارضا مع إعلان حقوق الإنسان ومع اتفاقيات التمييز ضد المرأة .
من المعروف أنه لفهم أي ظاهرة اجتماعية , لابد من العودة إلى أصولها التاريخية وكيفية تطورها , فالبحث في ظاهرة العنف ضد المرأة في المجتمعات العربية يستدعي إلقاء نظرة متأنية و عميقة , على مكانة المرأة ووضعها في التاريخ والتراث العربيين ، و هو ما يستدعي دراسة وافية للمجتمع العربي منذ ظهور الإسلام , والتغييرات والتشريعات التي سنها الإسلام فيما يتعلق بالمرأة , ومن ثم التغييرات اللاحقة التي أسبغت على تلك التشريعات , بحكم التغيرات السياسية التي طرأت على المجتمعات العربية بعد الإسلام .
إن دراسة المجتمع العربي قبل الإسلام , تظهر أن صفته الأساسية كانت أنه مجتمع قبلي عشائري , لا يختلف في صفاته العامة عن أي مجتمع إنساني ما قبل الدولة , ساد فيه شكل العائلة البطريركية الأبوية .
إن الميزة الرئيسية التي تتميز بها هذه العائلة ليست تعدد الزوجات فقط وإنما بحسب مورغان
" تنظيم عدد معين من الأشخاص , الأحرار وغير الأحرار , في عائلة تخضع للسلطة الأبوية لرئيس العائلة , ففي العائلة السامية , يعيش رئيس العائلة هذا في ظل تعدد الزوجات , وللعبيد زوجات وأولاد , وغاية التنظيم كله رعاية القطعان , في حدود رقعة معينة من الأرض " .
إذا فالسلطة الأبوية وامتلاك العبيد هما الميزتان الأساسيتان لهذا الشكل من العائلة , فللأب سلطة أبوية مطلقة , على جميع الأشخاص الخاضعين له ، تشمل حق الحياة .
هذا الشكل من العائلة عند الشعوب الشرقية درجة انتقالية من العائلة التي انبثقت من الزواج الجماعي وقامت على الحق الأمي , إلى العائلة الفردية في العالم المعاصر .
في هذه المرحلة من التطور الاجتماعي يعتبر هذا الشكل من العائلة امتيازا للأغنياء والأعيان فقط , القادرين على شراء عدد من الزوجات والعبيد , ويكون لربة البيت وهي غالبا زوجة رب البيت مكانة خاصة , أما سواد الشعب فيعيش حالة أحادية الزواج .
وقد سمي هذا الشكل من الزواج من قبل علماء الاجتماع بالزواج الثنائي , لأن علاقات الزواج لا تكون وثيقة كما هي في حالة الزواج الأحادي , الشكل المتطور عن هذا النمط الاجتماعي , إذ يوجد في علاقات الزواج الثنائي تعدد الزوجات وتكثر حالات الطلاق , و الخيانات الزوجية .
و على الرغم من أن هذا الشكل الاجتماعي من العلاقات كان سائدا آنذاك , إلا أن أشكالا أخرى كانت موجودة في القبائل العربية بحسب درجة تطورها , وذلك يطابق تماما الدراسات الاجتماعية على مختلف المناطق ذات التجمعات البشرية القبلية السابقة لمرحلة الدولة .
في هذه المرحلة من التطور الاقتصادي والاجتماعي , تتطور وسائل الإنتاج , و تغدو الحروب حاجة مهمة للمجتمع لأنها الوسيلة الأساسية لتأمين حاجة المجتمع من الأيدي العاملة , بتحويل أسرى الحرب من الرجال إلى عبيد يعملون لدى ساداتهم , وتحويل السبايا من النساء إلى آلة لإنتاج الأولاد الذين يغدون أيدي عاملة لمصلحة رب العائلة , مما يؤدي إلى توسيع ثروة العشيرة , أو بالأحرى ثروة سادتها , لذا كان القتال ومهاجمة القبائل الأخرى أو الدول المجاورة أهم صنعة يقوم بها الإنسان وأكثرها احتراما , وبمقدار قدرة الفرد على القتال وجلب المزيد من الثروة والفائدة إلى مجتمعه ( عشيرته ) تقدر قيمته في المجتمع , مما جعل المرأة والطفل غير القادرين على القتال في أسفل السلم الاجتماعي , ولا أدل على ذلك من أن العرب آنذاك لم يكونوا يورثون المرأة والطفل , بل كانوا يقولون لا نورث من " لا يركب فرسا ولا يحمل كلا , ولا ينكأ عدوا " , وتحولت المرأة إما إلى عبدة تسبى أو سلعة تباع وتشترى , بالمهر الذي كان يقبضه وليها ثمنا لها , ولعل أكثر أشكال ذل المرأة وجد في بعض الحالات التي كان فيها الابن يرث زوجة أبيه إذ يلقي عليها ثوبه ليثبت ملكيته لها وبعد ذلك له الخيار في أن يتزوجها أو يعضلها إلا إذا افتدت نفسها منه , أي دفعت له ثمن نفسها , وكان يسمى ذلك بالضيزن أو المقت , كذلك كانت الأسيرة ذات المال يمكنها أن تفتدي نفسها بما يسمى المكاتبة أي تدفع لآسرها ثمن نفسها ليطلقها .
وعلى الرغم من أن تطور المجتمع في الجزيرة العربية آنذاك كان قد بلغ مرحلة السلطة البطريركية الأبوية ونظام العبودية ,مرحلة ما قبل الدولة , فإن أشكالا اجتماعية مختلفة كانت لا تزال تسود المجتمعات القبلية العربية , وهذه آثار اجتماعية باقية من العصر الأمومي , ومراحل التطور التالية له . فمن المعروف أن التطور الاجتماعي يحتاج إلى زمن أطول للحاق بالتطور الاقتصادي الذي يحكم تبدل العلاقات الاجتماعية , ومن تلك الآثار , علاقات اجتماعية مختلفة كانت تتبدى بأشكال من الزواج مختلفة عن الزواج السائد والمسمى زواج البعولة , فساد نكاح المتعة وهو تأكيد على لكون المرأة بضاعة لها ثمن , إذ يدفع الرجل للمرأة ثمن استمتاعه بها مدة من الزمن وإذا رزقت بولد من هذا الزواج تنسبه إليها , كذلك نكاح الاستبضاع وهو أن يرسل الزوج زوجته إلى شخص آخر كي يجامعها فتحمل منه والغرض من ذلك إنجاب الأولاد , ونكاح البدل بأن يتبادل رجلان زوجتيهما , ومن الملاحظ أن هذا الزواج يتم بلا مهر , لأنه نوع من مقايضة , و مثله نكاح الشغار وهو أن يزوج رجلان , كل منهما للآخر ابنته بلا مهر .كذلك كان هناك نكاح الذواق , بأن تتزوج المرأة رجلا لتجربه ثم تطلقه لتتزوج غيره حتى قيل إن إحداهن وتدعى أم خارجة جامعت أكثر من أربعين رجلا , ولا شك أن مثل هذا الزواج كان من مخلفات عصر الأمومة وأفترض أن من تقوم به كانت على منزلة اجتماعية أو اقتصادية مهمة , لأنها رغم زيجاتها المتكررة كانت تفرض احتراما اجتماعيا .ويشبه ذلك نكاح الخدن , بأن تتخذ إحداهن عشيقا , ثم تتزوجه بعد أن تنجب منه ولدا , أما من أكثر أشكال العلاقات الاجتماعية الدالة على بقايا العصر الأمومي فكان نكاح الرهط , إذ يجامع رهط من الرجال امرأة واحدةبموافقتها , وحين تنجب ولدا تجمعهم إليها وتختار من بينهم والدا لابنها ولا يستطيع الرجل إنكار أبوته له حتى ولو كان يشبه غيره وقد نتج عن هذه الزيجات بعض الشخصيات التي كان لها دور مهم في التاريخ العربي كعمرو ابن العاص وزياد ابن أبيه وذلك دلالة على قبول هذا الشكل من الزواج اجتماعيا , وتلك النسوة كن ذوات منزلة أعلى من البغايا , ربما لمكانة اجتماعية أو اقتصادية , في حين كان زواج البغايا شبيها بذلك الزواج إلا أن البغايا كن يقبضن ثمن المسافحة وينصبن رايات أمام أبوابهن , فإذا ولدت إحداهن ألحق ابنها بمن يقرر علماء القافة , ولا يحق للأب نكران الولد , أما أولاد الإماء اللاتي كن يكرهن على البغاء فيكونون عبيدا لمالك الأمة البغي .
إلا أنه لابد من الإشارة إلى أن هذه الأشكال من الزواج كانت محدودة ومرفوضة من بعض القبائل , ومكروهة ممقوتة من بعضها الآخر .
ولكن في كل أشكال هذه العلاقات الاجتماعية , كانت المرأة في العصر الجاهلي بضاعة تباع وتشترى , ويرتفع ثمنها بارتفاع مواصفاتها , إلا في حالات نادرة كانت المرأة فيها ذات مكانة اجتماعية أو اقتصادية تعطيها بعض الحقوق , بل في بعض الأحيان تخولها احتلال مكانة اجتماعية مرموقة , ولكن ذلك كان مشروطا بعشيرتها ووضعها الاقتصادي , وصفاتها الشخصية , فكان منهن من لكلمتها مكانة في العشيرة , أو من لها ثروتها وتجارتها الخاصة , ومن كان لها مكانة تتيح لها تطليق زوجها إذا لم تعد ترغب فيه بإدارة باب خيمتها نحو جهة معاكسة , أو كسلمى بنت عمرو التي كانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها إلا على شرطها أن أمرها بيدها , إذا كرهت رجلا فارقته , والمثل الأكبر مثل السيدة خديجة التي كانت تاجرة محترمة في قريش والتي خطبت لنفسها الرسول الكريم , والأمثلة على ذلك كثيرة , ولكن يبقى الشيء الأكيد أن تلك كانت حالات نادرة , لا تعبر عن حال الغالبية العظمى من النساء , وذلك ما يذكرنا بوضع مجتمعات شرق آسيا اليوم والمسلمة منها تحديدا , حيث نجد نساء وصلن إلى سدة الحكم بحكم انتماءاتهن العائلية بالدرجة الأولى ومن ثم وضعهن الاقتصادي ومواصفاتهن الشخصية , لكنهن لا يعبرن عن وضع الغالبية العظمى من نساء بلادهن اللاتي يقبعن تحت وطأة الجهل والفقر و التخلف وانعدام القيمة الاجتماعية , بل الإنسانية .
وهنالك ملاحظة أساسية أخرى , هي أن المرأة في المجتمع العربي قبل الإسلام , كالرجل كانت تتمتع بحرية جنسية , تبدت بالزيجات المتكررة لذوات الحسب والنسب , وبلغت حدود الفوضى الاجتماعية لنساء العامة حد انتشار الخيانة الزوجية , أو أشكال الزيجات التي سبق ذكرها أو البغاء . وقد بقيت آثار هذه الفوضى في صدر الإسلام كما يتضح من السيرة النبوية , فقد نهى الرسول الكريم الرجال أن يطرقوا بيوتهم على نسائهم ليلا , كما روى ابن عباس , فطرق رجلان بعد نهي النبي فوجد كل واحد منهما مع امرأته رجلا .
إذا فقد كانت المرأة بالمحصلة في مجتمع ما قبل الإسلام , إذا استثنينا النساء الأرستقراطيات بضاعة يملكها الرجل منذ ولادتها , حتى إنه يحق له وأد بناته إذا رغب في ذلك , يحق له امتلاك المرأة الحرة بأن يدفع مهرها , وامتلاك العبدة بشرائها , وكلتا الحرة والعبدة في النتيجة ملك له يحق له ممارسة كل أشكال العنف والاضطهاد ضدهما مع اختلافات ضئيلة بينهما , في أنه ليس للعبدة من تلجأ إليه من جور سيدها , في حين كانت الحرة تستنجد بعشيرتها إذا بالغ الزوج في ظلمه , فكانت العشيرة تنجدها في حال كونها أقوى من عشيرة الزوج فقط .
وهنا لابد من التنويه أن كل ما ذكرناه عن مجتمع ما قبل الإسلام كان يختلف بين قبيلة وأخرى وعشيرة وأخرى , ففي حين كانت بعض القبائل تتسامح مع الزانيات , كن يرجمن , تشبها باليهود عند قبائل أخرى , وفي حين كان الضيزن أو المقت سائدا في بعض المجتمعات كيثرب , كان مكروها في أخرى , كما أن بعض القبائل كانت تستهجن وأد البنات , في حين كانت تمارسه قبائل أخرى , وكان التردد على البغايا متسامحا فيه في بعض المجتمعات يتباهى به الرجال كحادثة أبي سفيان الذي سمع زياد بن أبيه يخطب فأعجب به وقال لجليسه ( إنني الذي وضعه في رحم أمه ) , في حين كان التردد على البغايا معيبا في مجتمعات أخرى :
كما قالت العوراء بنت سبيع ترثي أخاها :
أبكـــــي لعبـــــــد الله إذ حشت قبيل الصبح ناره
طيان طاوي الكشح لا يرخــــــي لمظلمة إزاره
لم يأت الإسلام دينا فقط , وإلا لما كان العرب سكان الجزيرة آنذاك وقفوا ضده , إذ كان المجال مفتوحا لعشرات الديانات , وكان لأي كان الحرية في اعتناق الدين الذي يشاء , بل جاء الإسلام ثورة اجتماعية , ولم تعد الرسالة محصورة في الدعوة السلمية التي تجلت في السور الأولى " قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون , ولا أنتم عابدون ما أعبد , ولا أنا عابد ما عبدتم , ولا أنتم عابدون ما أعبد , لكم دينكم ولي دين " ( الكافرون ) , وإنما صار لزاما على معتنقي الدعوة الجديدة قتال المشركين ونشر الدين الجديد, وكان لابد لتدعيم تلك الثورة الاجتماعية , وترسيخ دعائم الدين الجديد , من القضاء على كل العلاقات الاجتماعية القائمة بشكلها القديم وترسيخ دعائم الدولة الجديدة على أنقاض المجتمع القبلي العشائري , وإلغاء الفوضى الاجتماعية التي كانت كما رأينا قائمة على أشكال متعددة من العلاقات المتبقية من جميع مراحل التطور الاقتصادي الاجتماعي , وإقامة مؤسسات اجتماعية جديدة , لا تحكمها العادات والأعراف , بل شرائع وقوانين محددة مكتوبة .
لاشك أن الإسلام كان خطوة متقدمة في سلم التطور الإنساني , بأحكامه التي حملت بعدا إنسانيا أكثر تطورا من النواحي الاقتصادية والسياسية و الاجتماعية . فقد رسخ الإسلام إضافة إلى تعاليمه السماوية قوانين دنيوية جديدة , أسست للدولة التي ستحمل راية الإسلام وتنشره في العالم , وربما كان المجتمع نفسه كان يتمخض عن بوادر هذا التطور من مجتمع ما قبل الحضارة إلى مجتمع الدولة و الحضارة .
فما هي التغييرات الاجتماعية التي حملها الدين الجديد , وما هي قوانين الدولة الوليدة التي تأسست به ونشرته ؟ وما هي تأثيراتها على المرأة ؟
لقد كان من المفروض والبديهي أن يقود الشكل الجديد من النظام الاقتصادي السياسي , وهو الدولة الإسلامية , إلى ترسيخ الزواج الأحادي , كما هو معروف في سلم التطور لدى جميع الشعوب , إلا أنه من البديهي أيضا أن يقاوم الرجال خسارة الميزات التي نالوها في أحضان الأسرة الأبوية , فالرجل الذي كان يملك عددا من البشر يتحكم بحياتهم ومصائرهم , والذي كان يستمتع بعدد لامحدود من النساء بقدر ما تتيح له ثروته أن يشتري , لن يتخلى عن حقه مهما آمن بتعاليم الدين الجديد والتي انطوت ، في جزء كبير منها ، على معاملة البشر جميعا سواسية لا فضل لأحد منهم على الآخر إلا بالتقوى , وقد بقي هذا الصراع مستمرا إلى عصر النهضة وربما إلى يومنا هذا .
أساس لنظرة الدين الجديد للمرأة أنها إنسان كامل الأهلية , فقد ساوى بينها وبين الرجل في الأهلية والثواب والعقاب في 63 آية من القرآن الكريم , وحررها من مسؤولية الخطيئة الأولى وبذلك أعاد إليها اعتبارها إنسانة كاملة العقل مسؤولة عن تصرفاتها , وكان ذلك قفزة مهمة إلى الأمام . ولكن على مستوى الحياة اليومية , لم يكن من الممكن القيام بإجراء ثوري شامل فيما يتعلق بالنساء , لأن ذلك من شأنه أن يثير حفيظة الرجال الذين كان لابد من استرضائهم وعدم إثارة مشاعر عدوانية من قبلهم تجاه الدين الجديد , وهم المقاتلون حاملو لواء العقيدة وناشروها في أصقاع الأرض , لذا كانت الأحكام المتعلقة بالمرأة تمر بمراحل متعددة من شد ورخي , بين النسوة اللاتي أسهمن في الجهاد من أجل العقيدة الجديدة , واللاتي وجدن فيها خلاصهن , وبين الرجال الذين أبوا أن يتخلوا عن مكاسبهم السابقة , وكانوا عماد نشر الدعوة.
وكان الرسول الكريم كثوري وكسياسي حكيم يحاول دائما التوفيق بين تعاليم الدين التي حملت في مضمونها العميق الكثير من الرحمة والإنسانية خاصة فيما يتعلق بالمرأة , وبين المقاتلين الأشاوس , الذين رأوا في نيل المرأة حقوقها تمردا على سلطاتهم , و خسارة لمكاناتهم .
من ناحية أخرى كان لابد من تطبيق الأنظمة الاجتماعية للمجتمع الجديد بمنتهى الحزم والقوة , و من بينها تطوير شكل العلاقة بين الرجل والمرأة نحو الزواج الأحادي الذي كما يصفه مورغان " زواج أحادي للمرأة فقط " , وهنا كان لابد من الضغط على النساء لكبح حريتهن الجنسية .
فكيف غدا وضع المرأة في المجتمع الجديد , بعد أن استقرت الأمور وأخذ المجتمع الجديد شكل الدولة :
1ـ حصلت المرأة على مكاسب مهمة عززت مكانتها كمشاركتها في المعارك والمعاهدات , وفي ارتياد المساجد, شريكة أساسية في المجتمع الجديد .
2 ـ عززت مكانة الأم , وغدا البر بالوالدين أحد مقومات الدين الجديد .
3ـ حرم وأد البنات .
4 ـ أعطيت نصيبا من الإرث .
5 ـ أعطى المرأة الحق بالموافقة على الزواج ورفضه .
" " لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن "
" عن خنساء بنت خذام الأنصارية أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك فأتت رسول الله فرد نكاحه "
" الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها " ولنتخيل أهمية الولي آنذاك بالنسبة للبكر عندما نعلم أنهن كن يتزوجن صغيرات السن , فالسيدة عائشة تزوجت وهي في التاسعة من عمرها .
6 ـ أضفى الإسلام على المهر بعدا أكثر إنسانية , فوصفه بالهدية " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " النساء 4 بل إنه أعطى المهر قيمة معنوية , عندما لم يجد أحدهم مهرا يدفعه لعروسه فزوجها له النبي الكريم بما يحفظ من آيات القرآن أي جعل المهر هدية معنوية .
7 ـ حرم الضيزن .
8 ـحمى لليتيمة حقوقها .
9 ـ نهى عن عضل النساء والظهار.
10 ـ دعا إلى الرفق في معاملة الأزواج لزوجاتهم .
11 ـ نهى عن أن تضار والدة بولدها " لا تضار والدة بولدها " البقرة 233
12 ـ نهى عن تشغيل الإماء بالبغاء .
13 ـ نظم أمور الخطبة والزواج والطلاق والعدة , على نحو أكثر تقدما مما كان عليه .
14 ـ أباح للمرأة التصرف بمالها كما تشاء .
إلا أن ذلك قابله بقاء بعض الأمور التي كانت متناسبة مع درجة التطور الاجتماعي وبقي يمارس فيها ظلما وعسفا بل قهرا على النساء , وإن كان الدين الجديد قد أعطى إشارات لاحت ضمن تعاليمه وأعطت بدايات الطريق لمزيد من منح المرأة حقوقها استكمالا لكيانها الإنساني .
1ـ بقي تعدد الزوجات مباحا ومن المعروف ما في ذلك من اضطهاد نفسي للمرأة , وإن كان قد حد مسألة تعدد الزوجات إلى حدود دنيا وذلك بربطه بموضوع اليتامى , و اشتراطه العدل :
" وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى , فانكحوا ما طاب لكم من النساء , مثنى وثلاث ورباع , فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة " . النساء 3
" ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " النساء 129
ولكن يبدو أن الرجال لم يكونوا مستعدين للتقيد بأي شروط فيما يتعلق بتعدد الزوجات , بل إن الرسول نفسه لم يتقيد به , مع أنه أعطى إشارة للجيل القادم بالاقتصار على زوجة واحدة , عندما منع علي بن أبي طالب من الزواج بأخرى عندما كان زوجا لفاطمة بنت الرسول , بل أنه وقف على المنبر وقال :
" إن بني هاشم بن المغيرة استأذنوني أن ينكح ابنتهم علي بن أبي طالب , فلا آذن لهم أبدا , ثم لا آذن لهم , اللهم إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم , فإن فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها . وإني أتخوف أن تفتن في دينها " . ( البخاري ومسلم ) .
2 ـ بقي الزوج هو السيد والمسيطر , وحقه في الطلاق دون سبب مباح دائما , في حين قيد حق المرأة في الطلاق , وذلك ما يناسب الزواج الأحادي كما ذكرنا , وإن أعطيت إشارات للرجل لاتباع سبل اللطف والرحمة في المعاملة , هو الذي لم يتعامل مع المرأة إلا بعسف وجبروت :
" فإمساك بمعروف , أو تسريح بإحسان " البقرة 229
3 ـ بقي نظام العبودية ساريا , وإن أعطيت إشارات واضحة على رغبة الدين الجديد في التخلص منه تدريجيا سعيا نحو نظام إنساني اكثر تطورا , ومن المعروف أن معاناة الأمة كانت أكبر من معاناة العبد , فهي ملك يمين الرجل يحق له أن يجامعها متى شاء , وابنها التي تنجبه عبد ملك للسيد , بل كان للسيد الحق في تشغيلها بالبغاء وقبض أجورها , وقد وردت إشارات في الإسلام كمقدمات لإنهاء عصر العبودية , لكنه كان من المستحيل آنذاك إنهاء عهد الرق فجأة , وخاصة أن الحروب التي كان يخوضها المسلمون الأوائل كانت تعود عليهم بالعبيد والسبايا والغنائم , لكن الدين الجديد حاول تخفيف الوطأة على العبيد والأسرى وخاصة السبايا , فقد وضع كفارة للكثير من الأخطاء الدينية عتق الرقاب , كما منع تشغيل الإماء بالبغاء
" ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء " النور 330
ولم يعد المولود من أمة عبدا للسيد بل حرا .
كذلك فقد عرض الرسول الكريم الزواج على السبايا .
و أوصى الدين الجديد بالزواج من الإماء المؤمنات .
" ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " النساء 25 .
4 ـ إلا أن المشكلة الرئيسية التي واجهت الدعوة الجديدة في مجال التنظيم الاجتماعي هي الحد من الحرية الجنسية للمرأة , في مجتمع كان ,كما ذكرنا سابقا , مجرد دخول رجل على امرأة فيه أو اختلائه بها , يوحي بترجيح إقامة علاقة جنسية بينهما , لذا لم تكن حادثة الإفك واتهام السيدة عائشة بغريب في مثل ذلك الجو الاجتماعي الذي تجرأ على اتهام أم المؤمنين لمجرد تخلفها عن الركب وتبرع أحدهم بمرافقتها إلى المدينة , بل كان كما ذكرنا مجرد غياب الزوج عن منزله يرجح الشك بخيانة زوجته له , فالقاعدة كانت على ما يبدو الخيانة لا الإخلاص الزوجي كما سبق وذكرنا , لذا فقد تشدد الدين الجديد تجاه المرأة خاصة في هذه المسالة , وأباح استخدام كل الوسائل الممكنة للحد من هذه الحرية الجنسية فحض على الزواج , وقصر مدة عدة الأرملة , وأشادت آيات عدة بالقرآن الكريم بالمحصنين والمحصنات , والحافظين فروجهم والحافظات , ومع ذلك لم يكن من السهل الحد من هذه الحريات وبقي الصراع قائما وذلك ما نلحظه في حجة الوداع حيث قال الرسول الكريم
" أما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون , ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون "
وقد أباح الدين الجديد استخدام العنف ضد المرأة في هذه الحالة , وذلك ما ورد في الآية الكريمة
" واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن " النساء 34
وقد حار المصلحون الدينيون النهضويون , والمفكرون المستنيرون المعاصرون , في تفسير هذه الآية , التي فسرت تفسيرات شتى واستخدمت على طول التاريخ الإسلامي مسوغا لممارسة جميع أشكال العنف الجسدي ضد المرأة , وحاول هؤلاء المصلحون أن يجدوا لها تفسيرا إنسانيا , وصل بأحدهم ـ الصادق النيهوم ـ بأن قال إن كلمة اضربوهن , كانت قبل تنقيط القرآن ـ اعزبوهن ـ لكنها نقطت خطأ لتقرأ اضربوهن , كما فسرها محمد شحرور بأنها ليست بمعنى الضرب الجسدي وإنما بمعنى الضرب على الأيدي بسحب القوامة منهن , وفسر النشوز بأنه استعلاء المرأة على الرجل .
والحقيقة أن ضرب الرجال للنساء كان موجودا , بل يعتبر أمرا طبيعيا , في ظل مجتمع ذكوري , لم تكن المرأة فيه سوى سلعة , وعندما أتى الإسلام واعترف لها بإنسانيتها بدأت النساء يشتكين للرسول من ضرب أزواجهن لهن فأعلن الرسول الكريم " لا تضربوا إماء الله " و كما تقول عائشة " ما ضرب رسول الله ( ص ) شيئا قط بيده و لا امرأة ولا خادما " بل كان يعير الرجل بأنه " ضراب للنساء " ولا ينصح المرأة بالزواج منه , حتى جاء عمر إلى الرسول وقال "ذئرن النساء على أزواجهن فرخص في ضربهن " . فعادت النساء لتشتكين إلى رسول الله ضرب أزواجهن لهن .
وقد بقي الصراع قائما بين الرجال والنساء في صدر الإسلام حتى حجة الوداع , التي أرى أن الرسول حسم فيها هذا الصراع وأوضحه بتفسير هذه الآية الكريمة بقوله " ألا فاستوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة , فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا " .
إذا كان تفسير الآية السابقة واضحا بأن الناشز ـ وقد اختلف كثيرون في تفسير معناها ـ هي التي تأتي بالفاحشة المبينة , وعندئذ أبيح استخدام كل أشكال الردع حتى العنف الجسدي .
5 ـ ورغم تشدد الدين الجديد في تقييد الحرية الجنسية , فقد اشترط في إثبات الزنا على المرأة وجود أربعة شهود يشهدون العملية الجنسية بكاملها , وذلك من غير الممكن بل من المستحيل تحقيقه .
" واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا " النساء 15
" والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون " النور 4
" واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما , إن الله كان توابا رحيما " النساء 16
" الزاني والزانية فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة , ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " النور2
" الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة , والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين " النور 3
" واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله " الطلاق 1
ومن المعروف عدم وجود آية تثبت عقوبة الزنى بالرجم , وإن وجدت حادثتان في السيرة النبوية لم يأمر الرسول في أولاهما برجم الرجل إلا بعد إقراره وإصراره بأنه قد زنى , وإلا بأنه لم يتب ويعلن العودة , ومع هذا فإن الرسول عندما أخبر أن الرجل هرب من شدة وطأة الرجم , علق قائلا للصحابة " هلا تركتموه " , وحكاية المرأة الغامدية التي يقال أنها رجمت بعد أن عادها الرسول أن تستغفر وتتوب إلا أنها أصرت ومع هذا لم يرجمها إلا بعد أن وضعت , وقد صلى الرسول على هذه المرأة ولما سئل عن ذلك أجاب " لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم " , كما أن الرسول لم يشهد الرجم في الحالتين .
6 ـ الحجاب : لقد جهد الدين الجديد كما ذكرنا للحد من الحرية الجنسية للنساء , وقد كان الأمر بالغ الصعوبة في مجتمع تعود الناس فيه على أن أي احتكاك أو خلوة بين امرأة ورجل تحمل في طياتها غالبا اتصالا جنسيا , وقد بلغت الفوضى الاجتماعية حدا جعل الرجال لا يتورعون في قمة الدعوة وحميتها أن يتحرشوا بنساء النبي دون اعتبار لمكانتهن , ودون احترام لهيبة الرسول وقائد الأمة , مما حدا بالدعوة الجديدة , بمطالبة المتشددين فيها النبي الكريم بالتشدد في فصل الرجال عن النساء ,ومراعاة أصول وعادات جديدة في الدخول على المنازل , وغض البصر , وفرض قيود على النساء بالاحتشام , وعدم المبالغة في الزينة , والتستر بلباس يميز الحرة من العبدة , وذلك عندما بلغ التحرش بنساء المؤمنين حد أن كن يضايقن بهمجية في الشوارع , وفرض على نساء النبي أن يحتجبن ولا يراهن أحد بعد أن بلغت قحة بعض الرجال أن كانوا يغيظون الرسول الكريم بأنهم سيتزوجون من نسائه بعد وفاته , وقد وردت آيتان تدعوان نساء المؤمنين للاحتشام :
" وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن , ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها , وليضربن بخمرهن على جيوبهن , ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن , أو آباء بعولتهن , أو أبنائهن , أو أبناء بعولتهن , أو إخوانهن , أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن , أو نسائهن , أو ما ملكت أيمانهن , أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذي لم يظهروا على عورات النساء , ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون " النور 31
وقد أتت هذه الآية تالية لدعوة مماثلة للرجال
" قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم , إن الله خبير بما يصنعون " النور 30
" يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما " الأحزاب 59
وقد ذكر أن أسباب نزول الآية السابقة , كما روت السيدة عائشة : أن سودة خرجت بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها ـ وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها ـ فرآها عمر فقال يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين , قالت فانكفأت راجعة ورسول الله في بيتي , وإنه ليتعشى وفي يده عرق , فدخلت فقالت يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي , فقال لي عمر كذا وكذا , قالت فأوحي إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه , فقال : إنه أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن . ( البخاري )
وأخرج ابن سعد في الطبقات عن أبي مالك قال : كان نساء النبي يخرجن بالليل لحاجتهن , وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن فيؤذين , فشكون ذلك , فقيل ذلك للمنافقين فقالوا : إنما نفعله للإماء , فنزلت هذه الآية .
إذا فالمناسبة مؤقتة لها علاقة بوضع خاص كان سائدا في المدينة إبان الدعوة الإسلامية , حين كانت الفوضى الاجتماعية سائدة .
أما الحجاب بمعنى عدم الظهور على الرجال مطلقا فقد كان محصورا بنساء النبي وذلك ما هو واضح في الآيات والسيرة النبوية :
" يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه , ولكن إذا دعيتم فادخلوا , فإذا طعمتم فانتشروا , ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما " الأحزاب 53
إذا فالخطاب موجه حصرا لنساء النبي
" يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول , فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا " الأحزاب 32
6 ـ وتتمة لمحاولة الدين الجديد لجم الحرية الجنسية والفوضى الاجتماعية , نهى الدين الجديد عن سفر النساء دون محرم , وطبق عليهن رقابة صارمة , تبدأ بالأزواج وتنتهي بالأبناء مرورا بكل ذوي العصبة .
و هذه الرقابة و تلك القيود من أشد أشكال العسف والضيم على المرأة , التي قاومتها المرأة في صدر الإسلام , وهي التي رأت في الدين الجديد خلاصا وتحريرا , وكان الرسول الكريم يحاول دائما التخفيف من آثارها على المرأة بتذكير الرجال دائما بما حمله الدين الحنيف من المودة والرحمة:
" ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " الروم 21
" يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " الحجرات 13 .
ولكن مع انتشار الدعوة الإسلامية وتأسيس دولة بل إمبراطورية ضخمة , وتمركز الثروة في أيدي ذوي السلطة والنفوذ , ذوي الإقطاعيات والثروات الهائلة , الذين كان بإمكانهم بذل المال لشراء بعض علماء الدين المتفقهين والمجتهدين الذين استطاعوا أن يسنوا تشريعات دينية تخدم رغبات أولئك المتنفذين حتى لو تعارضت مع المقدس , وبدأ التحوير والتغيير والتفسيرات المتنوعة المتعددة تطال تعاليم الدين الجديد , وقد تمكن هؤلاء العلماء من إغفال الإشارات الواضحة الصريحة والتعاليم الإنسانية التي جاء بها الدين الجديد ليحولوها إلى تعاليم جديدة تخدم أصحاب السلطة والمال والنفوذ اكتسبت طابعا مقدسا حتى لو خالفت بفحواها الروح الإنسانية التي حملها الدين الجديد, وقد توارثت الأجيال هذه التعليمات التي دونت في كتب لا تعد ولا تحصى , بات الدين الإسلامي يفهم من خلالها فقط و ويطبق من خلالها فقط , ومنع الإنسان المسلم بعد أن أغلق علماء الدين باب الاجتهاد , من استقاء تعاليم دينه من مصدره الأول في حال تعارضت تلك التشريعات المحدثة مع منبع الدين , بل اتهم كل من يحاول أن يشير بيده إلى مواقع الخلاف والشطط بالكفر والزندقة , وأبيح دمه بقرار بشري , لم يعدم من يضفي عليه طابع القدسية إلى يومنا هذا . ولعل أكثر الشرائح الاجتماعية التي طالها هذا العبث الواضح بالتعاليم النساء والعبيد , فقد أغفلت جميع الإشارات والمفاتيح التي أعطيت لمنح هاتين الفئتين حقوقا إنسانية و إنشيء كهنوت ديني جديد سخر هاتين الفئتين من البشر لخدمة السادة الجدد وحرمها حقوقها كافة , فقد استبدل عتق الرقاب بملكيات للعبيد تجاوزت المئات بل الآلاف لسيد واحد في بعض الحالات , واستخدمت الإماء وسيلة للمتعة والتسلية وإشباع النزوات الجنسية اللامحدودة , بل انشيء نظام استخدم فيه الغلمان لإشباع شهوات السادة الشاذة , وتحولت قصور السادة بأجنحتها الحريمية إلى مكان لاستعباد النساء ومقار لمكائد أودت بحياة الكثيرات منهن وجعلت حياة الأخريات جحيما لا يطاق , أما المرأة الحرة فقد حبست في أجنحة الحريم في قصور السلاطين , بل حتى في بيوت العامة , وشرعت نصوص دينية تمنع خروجها من المنزل , حتى غدا حبس المرأة في منزل زوجها إلى أن تنتقل إلى قبرها غير مستهجن , بل مبرر دينيا .
وأبيح تعدد الزوجات دون ضابط , وبما أن الزوجات حددن بأربعة , فقد ساد ت الطلاقات دون ضوابط أيضا لمجرد الاستبدال ، ومن الطبيعي أن تلك النصوص التفسيرية قد وضعت وطبقت لدى المتنفذين وعلية القوم فقط , فبما أن أعداد النساء في كل زمن وعصر مساوية تقريبا لأعداد الرجال فإن حصول رجل واحد على عشرات النساء يعني حرمان غيره من امرأة واحدة , أي بقاء العامة دون زواج , أو اكتفائهم بزوجة واحدة .
بل وصل الأمر إلى الدعوة إلى فضائل تعدد الزوجات , و اعتبار ذلك جزءا من إيمان الرجل وتقواه , و اعتبار معارضة الزوجة الأولى لزواج زوجها بأخرى كفرا وضلالا , وذلك ما سمعته من شيخ كان يخطب في أحد الجوامع اليوم , لا قبل ألف عام .
ولم تبح التفسيرات والتشريعات الجديدة الضغط على النساء في حال إيتاء الفاحشة فقط , بل استنبطت تشريعات جديدة جعلت من حق الرجل ضرب زوجته متى شاء وكيف شاء , بحجة تأديبها , بل أصبحت حياتها ملكا للرجل يتحكم فيها كيفما شاء , ولعل تبرئة مرتكبي جرائم الشرف لخير دليل على ذلك .
ولإتمام السيطرة على المرأة , ألزمت بالحجاب , والذي حار علماء الدين في وصفه , فقد قال بعضهم إنه تغطية الجسد كله بلباس فضفاض عدا الوجه والكفين , في حين دعا أحد شيوخنا المعروفين اليوم إلى تغطية الوجه كله في الشارع , لأن الشارع فتنة , وأجاز بعضهم إبراز العينين فقط , مع تغطية الكفين , وآخرون أجازوا تقصير الثوب لما فوق الكاحلين , ولسنا نعترض على شكل اللباس , فكل إنسان حر فيما يلبس , ولكننا نعترض أن تسود حتى أيامنا هذه فكرة اعتبار المرأة فتنة متنقلة , لا إنسانا يقيم بمواصفاته الإنسانية والعقلية والذهنية كما يجدر بنا أن نفعل في مطلع القرن الحادي والعشرين , كذلك نعترض على إجبار النساء على ارتداء ملابس تمنع عنهن الضوء والهواء والطعام .
أما من ناحية الزواج , فقد أفتى ابن عباس أن لا نكاح إلا بولي وفسر معنى قول النبي ( ص ) الأيم أحق بنفسها من وليها عند أكثر أهل العلم أن الولي لا يزوجها إلا برضاها !
وبإبقاء المرأة داخل المنزل حرمت من التعليم والعمل , وزوجت النساء غصبا , من دون أخذ رأيهن , وقبض الأهل مهورهن , وعاد المهر ثمنا للمرأة , لا نحلة كما أقر لها القرآن ذلك , وحرمت النساء من الإرث جريا على ما كان سائدا في الجاهلية , وتحول الدين الجديد الذي كان يحمل في طياته الخلاص للفئات المحرومة المضطهدة , إلى سلاح في وجه المرأة استخدمه الرجل دون رحمة أو مودة , كما أوصى بذلك القرآن الكريم .
واستخدمت بعض الأحاديث التي لا يعرف مدى صحتها وخاصة أنها تخالف روح الإسلام الواضحة في الآيات القرآنية :
" النساء ناقصات عقل ودين " وذلك يخالف أكثر من ستين آية واضحة في القرآن الكريم .
" لا يسأل الرجل فيما ضرب امرأته " وذلك طبعا يناقض رؤية وأقوال الرسول الكريم والتي تتضح في أكثر من حديث ومناسبة .
" لو كنت آمر أحدا أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن "
" استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع و إن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج " علما بأنه لم يرد في أية آية في القرآن الكريم أن المرأة خلقت من ضلع آدم , بل ورد ذلك في التراث اليهودي , فمن أين أتى أبو هريرة راوي الحديث بذلك ؟
" تصدقن , فإن أكثركن حطب جهنم "
" إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان "
وكانت بعض المناسبات السياسية كمعركة الجمل مناسبات لترديد أحاديث تخدم أحد الطرفين ومنها الحديث الشهير :
" لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة "
والذي أفردت له الباحثة فاطمة المرنيسي جزءا مهما من كتابها الإسلام السياسي كي تثبت الشك بصحته , ورغم ذلك استخدم اليوم كسيف مسلط فوق رأس أي امرأة تبيح لنفسها الحلم باستلام السلطة , وهذا ما جعل ميغاواتي سوكارنو تفقد حقها في منصب رئيس الجمهورية رغم أنها حصلت في الانتخابات على أصوات أكثر من عبد الرحمن واحد في أندونيسيا , ولكن سوء حظه أو حسن حظها , فضح تورطه باختلاسات مالية وصفقات مشبوهة , مما أدى إلى تنحيته عن السلطة واستلامها , مثبتة أن الآخر ليس بالضرورة أكفا منها لأنه رجل فقط .
وقد ظهر الشرخ واضحا بين تعاليم الإسلام بما تحمله من إنسانية , والتشريعات التي كانت مطبقة , في بداية عصر النهضة , عندما هبت رياح الحضارة الغربية على المجتمع الإسلامي , الذي أوصله جموده وتناقض تشريعاته ـ التي وضعت خدمة لحكامه ـ مع تعاليمه الإنسانية العامة إلى مرحلة من الانحطاط والجمود , وكان لابد لهذه المجتمعات التي كانت تعاني من بؤسها وتخلفها من أن تتأثر بالأفكار الجديدة التي حملت في طياتها الحرية والعدالة والمساواة والتطور والتقدم , وبات لزاما على علماء الدين النهضويين إعادة الاجتهاد في تعاليم الدين الإسلامي , لاستنباط رؤاه الإنسانية , وتخليصه من الشوائب الطحلبية التي علقت به على مر السنين , وبذلك حاولوا العودة إلى الأصول , فجوبهوا دائما بالقوى السلفية الظلامية التي أصرت على إبقاء الدين محصورا بتفسيرات المجتهدين الأوائل والذين أصبح لنصوصهم قدسية تضاهي قدسية القرآن الكريم , في معركة لا تزال تدور رحاها حتى اليوم .
لاشك أن المرأة المعاصرة تدين بالكثير لعلماء الدين النهضويين المتنورين الذين كان لهم أكبر الأثر في الثورة الاجتماعية الحقيقة التي أخرجت النساء خارج مجتمعات الحريم وفتحت الطريق أمامهن كي يتعلمن ويعملن , ويكسرن جدر القمقم الذي حبسن به قرونا طويلة مظلمة .
ولكن هل حقا زال العسف وتقلص العنف ضد المرأة في عصرنا الحاضر ؟ الجواب الواضح والذي يعرفه الجميع ويحاول آخرون التستر عليه لأسباب مختلفة هو : ليس إلى حد كبير .
فما هو العنف الذي لا زال يطبق اليوم على المرأة سواء كان عنفا جسديا أم معنويا أم نفسيا .
إن أكبر عنف معنوي يطبق على المرأة في يومنا هذا هو قانون الأحوال الشخصية , والذي يتعارض بمجمله مع الدستور الذي أقر للمرأة كامل الحقوق كفرد فعال في المجتمع , ففي هذا القانون :
1 ـ لا تعتبر المرأة إنسانا عاقلا راشدا كامل الأهلية , فلا بد لها من ولي لعقد زواجها والقاضي ولي من لا ولي لها , ولا تعطى حق الولاية أو الوصاية على أولادها , حتى لو كانت تربيهم بمفردها , وحتى لو كانت قاضية , ولية من لا ولي له , لكنها ليست ولية نفسها أو أولادها .
2 ـ اشترط على الزوجة التي ترفع دعوى تفريق أن ترد للزوج المهر , أي أعيد للمهر صفته التي كانت سائدة قبل الإسلام كثمن للمرأة لا كهدية تقدم لها .
3 ـ أباح الطلاق التعسفي للرجل دون شروط , وقيده للمرأة .
4 ـ لا تنال المرأة بعد طلاقها ولو جزءا بسيطا من الثروة التي بنتها الأسرة في سنوات الزواج حتى لو كانت عاملة وأسهمت في تكوين هذه الثروة .
5 ـ تحرم المطلقة من حضانة أولادها بعد سن التاسعة للابن والحادية عشرة للبنت حتى لو كانت أكثر أهلية من الأب لحضانتهما , وذلك مناقض لأكثر من حادثة واضحة وصريحة في السنة النبوية
" فقد خير النبي ( ص ) رجلا وامرأة وابنا لهما فقال رسول الله يا غلام هذا أبوك وهذه أمك اختر "
" إن امرأة جاءت الرسول ( ص ) فقالت فداك أمي وأبي إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة فجاء زوجها وقال من يخاصمني في ابني فقال يا غلام هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به "
6 ـ يحق للزوج أن يمنع زوجته من السفر حتى لو كانت وزيرة , أو قاضية .
7 ـ يشترط في لزوم الزواج أن يكون الرجل كفؤا للمرأة . مادة 26
وإذا زوجت الكبيرة نفسها من غير موافقة الولي فإن كان الزوج كفؤا لزم العقد وإلا فللولي طلب فسخ النكاح . مادة 27 .
و العبرة في الكفاءة لعرف البلد . مادة 28 .
8 ـ لا توجد مواد تحمي الزوجة من اضطهاد الزوج إلا فيما يتعلق بالإنفاق .
9 ـ بقي الإرث مطبقا كما كان في السابق برغم عمل المرأة اليوم ومسؤوليتها عن نفسها وعدم مسؤولية الإخوة في الإنفاق عليها في حال طلاقها أو ترملها .
10 ـ في المادة 16 من القانون تكمل أهلية الزواج في الفتى بتمام الثامنة عشرة وفي الفتاة بتمام السابعة عشرة من العمر , وفي المادة 18 : إذا ادعى المراهق البلوغ بعد إكمال الخامسة عشرة والمراهقة البلوغ بعد إكمالها الثالثة عشرة وطلبا الزواج يأذن به القاضي إذا تبين له صدق دعواهما واحتمال جسديهما وفي المادة 19 إذا كان الخاطبان غير متناسبين سنا ولم يكن مصلحة في هذا الزواج فللقاضي ألا يأذن به , وعلى كل الأحوال يبيح القضاء زواج صغيرة السن مهما كان عمرها في حال الزواج العرفي وإثبات الحمل دون مؤيد جزائي لمخالفة القانون .
11 ـ في المادة 17 للقاضي أن لا يأذن للمتزوج بأن يتزوج على امرأته إلا إذا كان لديه مسوغ شرعي وكان الزوج قادرا على نفقتهما . وهنا أيضا يمكن تثبيت الزواج العرفي بسهولة دون أي مؤيد جزائي .
أما فيما يتعلق بالعنف الجسدي الذي يقع على المرأة من قبل الأب أو الأخ أو الزوج , بل حتى الابن , فهنالك قانون العقوبات الذي يطبق في هذه الحالات كما في أي حالة يقع فيها ضرب مواطن لآخر , ولكن من الناحية العملية كيف تجرؤ المرأة التي تتعرض للإيذاء الجسدي من قبل الأب أو الزوج على تقديم شكوى بحق أي منهما مادامت واقعة تحت سلطته وسيطرته , وهنا أذكر حادثة كانت تروى كطرفة , في بدايات عمل الاتحاد النسائي , فقد أقنعت إحدى العاملات فيه امرأة اعرفها على أن تشكو زوجها الذي ضربها للشرطة وعندما قامت المسكينة بذلك وتم استدعاء الزوج إلى المخفر , عاد إلى المنزل بعد أن تعهد بعدم ضرب زوجته , ليذيقها في الليل علقة ساخنة , ويستدعي أهلها الذين قبلوا قدميه كي لا يطلقها , وشاركوا في تعنيفها على جرأتها ووقاحتها .
إن عدد النساء اللاتي يتعرضن للعنف الجسدي من قبل الآباء والأخوة , و الأزواج خاصة في مجتمعاتنا أكثر بكثير مما نتصور , إذ هناك الكثير من النساء العاملات من طبيبات ومهندسات ومحاميات وغيرهن يتعرضن للضرب المبرح من قبل أزواجهن , ولا يصرحن بذلك حفاظا على مكانتهن وكرامتهن أمام المجتمع وحفاظا بالتالي على بيوتهن , وكم أدهش أحيانا عندما تسر إلي إحدى الصديقات التي أرى زوجها مثال التحضر والتقدم بأنه سبق أن ضربها في أكثر من مناسبة , ناهيك عن نساء الفئات المتدنية اجتماعيا ونساء الريف اللاتي يعتبر الضرب خبزهن اليومي , والسعيدة منهن من لا تضرب يوميا وإنما في المناسبات فقط , بل إن هؤلاء النسوة يعتبرن ضرب الرجال لهن حقا سماويا لا يحق لهن الاعتراض عليه , وقد حكت لي زوجة ناطور بنايتنا مرة أن زوجها يضربها ضربا مبرحا , ولما قلت لها أن ليس عليها تحمل ذلك خاصة أنها تكسب ماديا أضعاف ما يكسب من عملها اليومي في خدمة المنازل وهي التي تعيله , إضافة إلى أنها ضخمة قوية الساعد وهو ضئيل الجسم , ويمكنها أن تفعسه تحت إبطها , قالت لي : ولكنه الرجل .
هذا عدا عن أننا لا نزال نقرأ في جرائدنا اليوم عن أب أو أخ أو حتى عم أو ابن عم قتل قريبته لمجرد الشبهة في تصرفاتها , وآخر حادثة قرأناها في جريدة تشرين أن أخا وابن عم أقدما على قتل قريبتهما المتزوجة لأنهما شكا في تصرفاتها حين بدأت تتزين وتسمع أغاني أم كلثوم , مع أن الزوج كان يبكي ويحلف ببراءتها بعد موتها . والكل يعرف جيدا أن جزاء مثل هذه الجرائم لا يتعدى السجن بضعة أشهر .
أما حوادث الاغتصاب فمن المعروف أيضا أن التعتيم يجري عليها من قبل الأهل درءا للفضيحة , وحتى لو وصلت إلى المحاكم تسقط العقوبة بزواج المغتصب للمغتصبة , وتصوروا هذا الحل الرائع لمثل هذه الجريمة , وكيف هو شكل العلاقة الزوجية التي يمكن أن تقوم بين هذا المجرم وضحيته , والتي وصلت في كثير من الأحيان إلى تشغيلها من قبل المجرم نفسه في البغاء وقبض أتعابها .
أما سفاح المحارم وهو أكثر الجرائم البشرية إثارة للتقزز والاشمئزاز , خاصة أنها تقع على طفلات في عمر الزهور , فغالبا ما تكتم ويتستر عليها حتى من قبل الأم , وتعيش الطفلة بعقدتها مدى الحياة أو تنحرف غالبا في مثل هذه الأجواء غير الصحية وتزيد عدد البغايا واحدة .
هذا عدا عن استغلال النساء بل حتى الطفلات في البغاء , في بيوت منتشرة في أحياء المدن كلها , دون رقيب أو حسيب , ودون أي حماية لهؤلاء البائسات .
أما الأطفال الذين ينتجون عن هذه الحوادث المؤلمة فمصيرهم القتل أو ناصية شارع , وليس لدينا للأسف حتى اليوم أسوة ببعض الدول العربية مؤسسات اجتماعية للأمهات العازبات , اللاتي لا ينتظرهن سوى مصير أسود ومستقبل لا أفق له .
ولا يقتصر العسف الذي يطال المرأة على تقصير نصوص القانون في حمايتها , بل عجز هذا القانون عن الوقوف في وجه العادات الاجتماعية والأعراف التي تحتل مرتبة أعلى من القانون في كثير من الأحيان :
1 ـ ما زالت النساء في بعض أوساطنا الاجتماعية وخاصة في الريف لا ترث .
2 ـ ما زالت النسوة يزوجن بدون موافقتهن و ما زال الآباء يقبضون مهورهن ، في صفقات يكون المستفيد منها الأب والزوج , والضحية الوحيدة لها هي المرأة , ويحدث هذا خاصة في الريف السوري . وقد استغربت رأي أحد المحامين المشهورين بدراسة موضوع الأحوال الشخصية , عندما قال في محاضرة له , أن بإمكان الفتاة في الريف أن تلجأ إلى القاضي ليمنع زواجها ممن لا ترغب , و هي في الواقع لا تدري أساسا إن كان هناك قانون أو قاض أصلا يمكن أن يحميها .
3 ـ ما زالت المرأة وبخاصة في الريف تعمل ليل نهار في البيت أو في الأرض ولا تحصل على قرش من أجور عملها خصوصا إن كانت تعمل في أرض الأهل أو الزوج أو في مشغله أو دكانه . بل إن بعض الرجال في المدينة يضغطون على زوجاتهن العاملات , حتى حدود الضرب ليحصلوا على أجورهن كاملة , وتبقى المرأة تعمل في المنزل وخارجه ساعات عمل مضاعفة , بلا أجر .
4 ـ ما زالت المرأة تتعرض للعسف والظلم في المنزل الزوجي دون اعتراض خشية أن تطلق , فوضع المطلقة قبل الإسلام وفي صدر الإسلام كان أرحم , إذ لم يكن الطلاق كأيامنا هذه مهينا للمرأة وكانت لا تجد أي صعوبة في الزواج ثانية وبدء حياة جديدة . هذا عدا عن أن المرأة اليوم تعرف أنها بطلاقها تخرج من المؤسسة الزوجية بعد سنوات خاوية اليدين غير قادرة على بدء حياة مستقلة وحدها .
5 ـ ما زالت المرأة تحرم من التعليم إذا لم يرغب وليها في تعليمها بعد المرحلة الابتدائية .
6ـ يمكن للأب أن يمنع ابنته من العمل , و الزوج كذلك , كما يمكن أن يمنعاها من ممارسة أي نشاط اجتماعي حتى لو كان مؤسساتيا نافعا .
7 ـ ولعل أكبر اضطهاد اجتماعي يمارس على المرأة وبخاصة العاملة هو تحميلها وحدها عبء العمل المنزلي وتربية الأطفال دون أي مقابل أو تقدير لهذه الأعمال التي لا تحظى بتقدير اجتماعي و تستهلك عمر المرأة , حتى لو كان عملها نفس عمل الزوج خارج المنزل , علما أنني كطبيبة أعتبر العمل في المشفى أو العيادة نزهة قياسا للعمل المنزلي المرهق , كما تربى البنت في مجتمعاتنا منذ الصغر على خدمة الأسرة في حين يقبع الصبي دون عمل آمرا ناهيا في المنزل , حتى لو كانت البنت تدرس مثله في المدرسة أو الجامعة , بل إنها تطالب من قبل أسرتها بأن تكون على المستوى نفسه من النجاح والتفوق , كما تطالب المرأة في عملها أن تكون على القدر نفسه من الأهلية والكفاءة وهي المرهقة بأعمالها المنزلية وتقضي وقتها في الوظيفة تفكر في كيفية جلب الأولاد من المدرسة وإنجاز طبخة الغداء في موعدها , كي لا يثور الزوج إذا لم يكن غداؤه جاهزا .
8 ـ تلقى على المرأة اليوم أيضا حتى لو كانت عاملة ، مسؤولية العاجزين والمسنين من أفراد الأسرة سواء كانوا من ذويها أو ذوي زوجها , فيضاف إلى أعبائها اللامتناهية , عبئا تقوم به في دول أخرى مؤسسات أو موظفون متخصصون .
9 ـ ما زالت الفتاة تستقبل في أول لحظة تطل بها على الدنيا بالفتور إن كانت مولودا أول , وبإحساس الفجيعة إن سبقتها أخت أو عدة أخوات , وذلك تماما ما وصفت به الآية الكريمة الهمج من العرب قبل الإسلام
" وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم " النحل 58 .
10 ـ ولعل هناك عسفا يحدث يوميا , لا ينتبه إليه الباحثون , بل لا يعتبر حتى عنفا ضد المرأة , ففي الشعور الجمعي تعتبر أي امرأة تمشي في الشارع مستباحة من قبل الذكور الذين لا يجدون حرجا في ملاحقتها وإسماعها فاحش الكلام , والوقوف بسياراتهم أمام أي سيدة تقف في الشارع في انتظار وسيلة مواصلات في دعوة صريحة لها إلى الركوب , و اعتبارها بطريقة غير مباشرة عاهرة مادامت تقف في عرض الطريق , بل لا يتورع بعض الرجال عن استخدام أيديهم في التحرش بامرأة تصادف سوء حظها أن تمشي في شارع مقفر أو مظلم أو مزدحم , وفي كثير من النقاشات التي تدور بين مثقفين , ومهتمين , تتكرر دائما فكرة أن مجتمعنا آمن بما لا يقاس مقارنة بالمجتمعات الغربية التي تكثر فيها الاعتداءات الجنسية على النساء , من دون أن يفكر أحد بأن هذا التحرش هو شكل من أشكال التحرش الجنسي المهين للمرأة , ودون تمييز أن من يقوم بالاعتداءات هناك الشواذ من الرجال , في حين يقوم بها هنا الطبيعيون في عرف المجتمع . وهنالك حادثة ربما تكون جديرة بالذكر هنا هي أن فتاة أوروبية أتت إلى دمشق لدراسة اللغة العربية تلقيت توصية بها , فدعوتها إلى منزلي مرات واهتممت بها , وفي نهاية مدة دراستها شكرتني كما شكرت عدة أصدقاء على حسن استضافتها واصفة شعبنا بالكريم والمضياف , وعندما سألناها إن كانت ستعود إلى سورية ثانية , أجابت بالنفي القاطع ورددت أنها لن تعود إلى سورية أبدا , وقد استغربت موقفها هذا وطلبت منها تفسيرا , ففاجأتني أنها تعرضت لإهانات شديدة في الشوارع , من بينها تحرشات بالأيدي من قبل الرجال وذلك ما لا يمكنها تحمله أبدا , وكانت تحكي عن الموضوع وكأنها تحكي عن تعرضها لحادثة اغتصاب , عندها خطر ببالي , كم من المهانة والذل تتعرض له نساؤنا , ومن النادر أن تنجو منه واحدة منا , ما دامت كسرت المحرم في ضميرنا الجمعي وخرجت خارج منزلها , ودون أن تجرؤ على الاعتراض , لأن الجواب جاهز , الحق عليك بما أنك خرجت من البيت , ولم تغطي كامل جسدك , فمن الطبيعي أن تتعرضي لما تعرضت له .
من ناحية ثانية يتستر المجتمع كله بما فيه الأسر والمقربون , كما تتستر وسائل الإعلام , على حوادث العنف والاعتداء والاغتصاب مما يغطي على هذه المشكلات ويسهم في استفحالها ,فالاعتراف بالمشكلة وعرضها ودراستها هو أساس حلها والقضاء عليها .
إذا هذا جزء من العسف الذي تتعرض له النساء في بلادنا بغض النظر عن التفاصيل اليومية التي تعيشها المرأة في كل لحظة منذ أن تفتح عيونها على الدنيا وحتى نهاية عمرها .
والسؤال الآن هل مارست الحكومات المتعاقبة والمنظمات الشعبية دورها بما يتناسب مع ما دعا إليه الدستور من المساواة والحرية والعدالة لكل مواطن مهما كان جنسه ؟
إننا في احسن الأحوال لا يمكننا إلا أن نتحدث عن تقصير الدولة والمنظمات الشعبية في دعم المرأة وحقوقها , سواء بتعديل القانون أو إنشاء المؤسسات التي تخدم قضية المرأة وأوضاع النساء , أو إصلاح مناهج التعليم بما يتناسب ونظرة عصرية للمرأة , أو ممارسة الإعلام دوره في التوعية والتعريف بقضايا المرأة وحقوقها , أو تشجيع المنظمات الأهلية والسماح لها بممارسة دورها في خدمة قضايا المرأة , كما يتبدى تقصير الدولة في عدم مصادقتها على اتفاقيات التمييز ضد المرأة , وعدم التعاون الكافي مع المنظمات والمؤتمرات الدولية بغية منح المرأة حقوقها الكاملة .
أخيرا ألا يعوزنا الكثير الكثير كي نزيل الحيف الواقع على المرأة , علما بأن مطالب الحركات النسائية العربية لا تزال في حدها الأدنى فكل ما تطلبه القليل من العدل والإتصاف , فكيف إذا وصلت المطالب إلى حد قانون أحوال شخصية مدني يطبق فيه الزواج المدني والإرث المتساوي , ونصف ثروة الأسرة عند الطلاق , وحضانة الطفل لمن هو أهل لها من الوالدين أو لمن يختار الطفل , ورفع سن التعليم الإلزامي , ورفع سن الزواج للمرأة بعقوبات جزائية شديدة لمن يخالف ذلك , ومنع تعدد الزوجات , وإنشاء قانون للأسرة يقوم المجتمع فيه بسلطة مشروعة في التبليغ ومنع أي عنف يمارس على الزوج أو الزوجة أو الأولاد من قبل أي فرد في الأسرة , وإنشاء مؤسسات اجتماعية ترعى المسنين والعاجزين والأيتام والأمهات الوحيدات , أليس ذلك حلما رائعا ؟