النسوية والإنسانية في وعي المرأة العربية المعاصرة



ثائر العذاري
2010 / 3 / 24

لا أريد في هذه المقالة أن ألج مداخل نظرية أو مقاربات فلسفية توضح التعالق بين هذين المصطلحين، بل أريد أن أنقل للقارئ الكريم تجربة عملية مررت بها وسببت لي قدرا من التوتر والأسى، وأشعرتني بالإحباط.
أعمل في جامعة عراقية أمارس فيها تخصصي بتدريس الأدب العربي الحديث، حيث أدرس هذه المادة المقررة لطلبة المراحل المنتهية في قسمي اللغة العربية في كليتين في الجامعة هما الآداب والتربية. ولا أظنني بحاجة الى بيان مدى علاقة الأدب الحديث بالفكر والسياسة والاجتماع، هذه العلاقة الوثيقة التي تجبر من يدرس الأدب الحديث على أن يحث الطلبة على بناء فهم واضح للتاريخ السياسي العراقي والعربي الحديث.
ولعل من الموضوعات التقليدية التي لا مناص لنا من تدريسها لطلبتنا تلك الموجة التي ظهرت ما بين الحربين العالميتين التي كانت تنادي بتحرير المرأة التي أطلقها المصلح المصري قاسم أمين، وامتدت شرارتها الى البلاد العربية الأخرى، فكان نصيب العراق منها كبيرا، والموجة المضادة لها التي كانت تعد الداعين إلى تحرير المرأة من المفسدين والخارجين على الملة.
في هذا العام الدراسي اخترت أن أطرح هذا الموضوع عبر الحديث على شاعرين متشابهين بالأسلوب متضادين في نظرتهما للمرأة، الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي والشاعر المصري حافظ ابراهيم، فبينت للطلبة موقف الزهاوي في مقتبسات شهيرة من شعره مثل قوله:
اسفري فالحجاب يا ابنة فهر ھو داء في الاجتماع وخيم
كل شئ إلى التجدد ماض فلماذا يقر ھذا القديم ؟
اسفري فالسفورللناس صبح زاھر والحجاب ليل بهيم
اسفري فالسفور فيه صلاح للفريقين ثم نفع عميم
زعموا ان في السفور انثلاما كذبوا فالسفور طهر سليم
لا يقي عفة الفتاة حجاب بل يقيها تعليمها والعلوم

وقوله في موضع آخر:
قال هل في السفور نفع يرجّى قلت خير من الحجاب السفور
كيف يسمو إلى الحضارة شعب منه نصف عن نصفه محجور

وكنت حريصا هنا أن أبين للطلبة الحقيقة الاجتماعية لموقف الزهاوي، فالحجاب الذي يهاجمه هو ذلك الحجاب الذي كان مفروضا على المرأة البغدادية أوائل القرن العشرين، إذ لم يكن لها أن تغادر بيتها الا للضرورة القصوى فلا تعليم ولا عمل، فإذا خرجت كان عليها أن تضع فوق ملابسها خمس قطع من الملابس الإضافية هي مكونات الحجاب البغدادي؛ رداء يغطي قامة المرأة حتى أخمص القدمين يسمى (الهاشمي) وعباءة قصيرة توضع على الكتفين وعباءة طويلة توضع على الرأس وتلامس الأرض وتكون ملفوفة تماما على جسمها، على أنها لفت على رأسها قبل ذلك منديلا خاصا كان يسمى (الفوطة) وغطت وجهها بقماش نصف شفاف أسود يسمى (البوشي).
أما السفور الذي دعا إليه فهو التخلي عن هذا الشكل المتشدد من الحجاب والإسفار عن الوجه.
ثم قارنت موقف الزهاوي هذا بموقف حافظ إبراهيم في قصيدته الشهيرة:

كم ذا يكابد عاشق ويلاقي في حب مصر كثيرة العشاق

حيث قال:

من لي بتربية النساء فإنها في الشرق علة ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
الأم روض إن تعهده الحيا بالريّ أورق أيما إيراق
الأم أستاذ الأساتذة الألى شغلت مآثرهم مدى الآفاق
أنا لا أقول دعوا النساء سوافراً بين الرجال يجلن في الأسواق
يدرجن حيث أرَدن لا من وازع يحذرن رقبته ولا من واقي
يفعلن أفعال الرجال لواهيا عن واجبات نواعس الأحداق
في دورهن شؤونهن كثيرة كشؤون رب السيف والمزراق

فخلاصة قوله أن المكان الطبيعي للمرأة هو بيت زوجها، وعملها الأساسي هو خدمته والقيام برعاية الأبناء وتربيتهم، ونبهت طلبتي إلى الأبيات الأربعة الأخيرة وما فيها من احتقار للمرأة إذ يرى الشاعر أنها كائن لا يحسن التصرف بشؤونه ولذا وجب أن تكون تحت رقابة الرجال المستمرة، ويمكن ملاحظة الاعتقاد البدوي بمفهوم الأنوثة والذكورة في استخدامه عبارة (نواعس الأحداق) في موضع لا يقتضيها الا ليلمح بالنظرة الذكورية للمرأة على أنها موضوع للغريزة حسب، والبيت الأخير الذي يقرن الرجولة (بالسيف والمزراق) لإبراز مفهوم الذكورة البدوي. وحافظ يرى أن من حق رجل مثله قضى أكثر حياته في اللهو واللامبالاة والتشرد أن يفرض وصايته على أي امرأة مهما بلغت من العفة والمعرفة وقوة الشخصية.
ومن المفيد هنا أن أذكر أن الطالبات يشكلن ما يقرب من 90% من طلبة الجامعة، ولذلك كنت أتوسع في هذه القضية لتصحيح بعض المفاهيم التي تخلط بين الواجب الديني والموروث الشعبي الذي كثيرا ما يكون جائرا على المرأة.
وبعد تدريسي وتوسعي بتلك القضية بأسابيع حل الامتحان الفصلي، فوضعت بين أسئلتي هذا السؤال:
قارن بين موقف كل من الزهاوي وحافظ إبراهيم من قضية تحرير المرأة داعما إجابتك بما تحفظ من النصوص.
ووجدت نفسي وأنا أصحح إجابات الطلبة أمام ما لم أتوقع أبدا، فقد اتخذت معظم الطالبات موقفا مساندا لرأي حافظ ورأين فيه فكرا يرفع من منزلة المرأة بوضعها تحت حماية الرجل وتكليفها بمد المجتمع برجال صالحين. بينما رأى معظم الطلاب الذكور أن يساندوا الزهاوي في رأيه.
ومن الواضح أن كلا الطرفين اتخذ موقفه بدافع الغريزة لا الفكر، فالبنات انطلقن من اعتقادهن أن الرجال يطمعون بهن ويريد التغرير بهن متى سنحت الفرصة. وهي إذن تنظر إلى نفسها على أنها قيمة غريزية لا غير. ويرغب الطلاب الذكور برأي الزهاوي لأنه يسمح لهم بقدر أكثر من الاختلاط وتصيد الجنس الآخر.
ثمة مشكلة ثقافية بنيوية في وعينا،إذن. إذ لم يعد شبابنا من الذكور والإناث قادرين على فهم الإنسانية على أنها قيمة مشتركة بين الجنسين، وصار كل منهما ينظر إلى الأخر على أنه مخلوق من نوع يختلف عنه.
فكم من الزمن سنحتاج ونحن في الزمن صراع الحضارات لنصلح هذا الخلل؟