لماذا المواطنة الآن ؟



عصام عبدالله
2010 / 4 / 14

تلقيت دعوة كريمة من المجلس القومي للمرأة ، للمشاركة في برنامج تدريب الإعلاميين علي تناول قضايا المرأة والمجتمع ، في الفترة من 10-12 إبريل الجاري بقاعة المؤتمرات بمبني الإذاعة والتليفزيون. دارت محاضرتي حول هذا السؤال: لماذا المواطنة الآن؟ الأبعاد التاريخية والثقافية والاجتماعية. ففي مطلع الألفية الثالثة أصبحت المواطنة مفهوما إشكاليا، كما أنها علي مستوي الممارسة تعيش حالة هشة، بسبب التغيرات الأخيرة علي الصعيدين القومي والعالمي، وحسب تعبير د.علي ليلة في كتابه القيم" المجتمع المدني العربي، قضايا المواطنة وحقوق الإنسان»، فهي (مواطنة في أزمة).

والأزمة هي الحالة التي تسبق الانهيار أو العافية، ومن ثم فإن أزمة المواطنة يمكن أن تؤدي إلي الانهيار فتتقلص وتتراجع إلي أطر أو حدود الجماعة الإثنية، وإما ان تكتسب العافية فتتسع إلي نطاق انساني أرحب، خاصة ان العالم يسير في هذا الاتجاه. "فقد اخترقت العولمة مبدأ الإقليم كنطاق جغرافي وفضت الرابطة بين السلطة والمكان"، ولا مناص من أن تعمل دول هذه المنطقة علي الارتقاء بحالة "المواطنة الديموقراطية"، واستكمالها وتهجينها بأفضل العناصر التي تتيحها العولمة، حتي لا تظل المواطنة باقية في حالة أزمة، أو أن تنهار.

هكذا اتسع مدلول المواطنة اليوم متجاوزا دائرة (المدينة - الدولة) نحو (المواطنة العالمية) وهي صفة لكل إنسان يقطن هذا العالم ويتساوي مع الآخرين في هذه القيمة الإنسانية. القاعدة القانونية في الدولة العالمية: أن الإنسان ليس فقط مواطنا داخل دولة ذات سيادة بل هو مواطن عالمي وموجود في العالم، ويطلب من هذه الحكومة العالمية أن تصون كرامته إذا تعرض إلي أي اعتداء. ومعني أن يكون الواحد منا مواطنا عالميا هو أن يعرف وأن يفهم وأن يشارك في حوارات (المدينة الكبيرة) التي تمثلها اليوم «القرية العالمية» لم تجابه الولايات المتحدة كغيرها من الدول، سواء كانت عظمي أو صغري، أية مشاكل بالنسبة للمواطنة في عصر العولمة، خاصة مشكلة الأقليات. لأن تعبير الأقلية، في الأدب السياسي والدستوري، يشير إلي مجموعة غريبة تعيش في حمي وطن أو قوم يرعونها وهي، بالضرورة، منقوصة الحقوق والواجبات.

هذا التعبير لا يعني شيئا في بلد ديموقراطي حقيقي، يتميز دستوره بالمساواة، نصا وفعلا، بين مواطنيه جميعا. فأنت لا تستطيع، بهذا الفهم، الحديث - من الناحية الدستورية - عن الأقلية الزنجية في أمريكا، فهؤلاء أصحاب حق في الأرض لهم ما لأهلها كلهم من حقوق وعليهم ما علي أهلها جميعا من واجبات، ومنهم خرج اليوم الرئيس باراك أوباما.

أضف إلي ذلك ان تعبيري الأقلية والأغلبية اصطلاحان إحصائيان لا معني لأي واحد منهما دون توصيف: فقد تشير الأقلية والأغلبية إلي الدين، وقد تشير إلي اللغة، وقد تشير إلي المنبت العرقي، وقد تشير إلي الجنس (الرجال والنساء). لهذا فإن الاختيار الانتقائي لمثل هذه الاصطلاحات لن يفيد الوطن أو"المواطنة" في شيء بل يوقع الناس في محنة أبدية، فإن اختيار واحد، مثلا، الدين لتمييز أهل البلد فما الذي يمنع الآخر من اختيار الأصل العرقي. المشكلة الأساسية التي تواجهنا في مصر اليوم، أننا لم نحسم التساؤل الجوهري حول طبيعة الدولة في عصر العولمة وما بعد الحداثة السياسية، وما زلنا حائرين في ماهية تلك الدولة وهل هي حقا مدنية، أم دينية. وعدم الحسم هنا يضر بـ(المواطنة) و"العقد" الاجتماعي بالمعني الحديث. ولا سبيل لنجاح المشروع الوطني، إلا في ظل "الدولة المدنية" الديموقراطية الليبرالية، التي تضمن حقوق وحريات كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن الدين أوالجنس أوالفكر، فالمواطنة، تقوم علي قاعدة المساواة الكاملة بين الفاعلين الاجتماعيين.

والديمقراطية الليبرالية، هي ذلك النظام الذي يحترم عملياً ثلاثة مبادئ أساسية: التسامح الديني والسياسي، والفصل بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، والمساواة والعدل. وهي مبادئ لا يمكن ضمانها إلا في نظام تمثيلي برلماني. وهذه المبادئ لا تعود إلي اليونان، وإنما إلي ثلاثة فلاسفة محدثين هم: جون لوك فيما يخص المبدأ الأول، ثم جون لوك ومونتسيكيو فيما يخص المبدأ الثاني، ثم جان جاك روسو فيما يخص المبدأ الثالث. صحيح أن الضغوط المتزايدة والمتسارعة للعولمة اليوم أضعفت معظم الدول بنيويا، حيث تظهر عاجزة عن حماية مواطنيها من فوضي العولمة (الاقتصادية)، لكن هذا ليس إلا جزءا من الحكاية وليست الحكاية كلها، لأن "الهند" التي يتميز سكانها بعدم التجانس أصلا، ويشكلون أكبر فسيفساء تضم 1600 طائفة عرقية ودينية ولغوية، ويصل عدد لهجاتها المحلية إلي 1652 تقدم للعالم اليوم النموذج الأبرز للمواطنة الديموقراطية في الألفية الثالثة.