من هي - المومس - المجتمع .. أم بائعة الهوى ..؟



سيمون خوري
2010 / 4 / 27

" غابرييلا أوساكوفا " سيدة روسية الأصل ولدت العام 1916 في روسيا القيصرية ، هاجرت الى اليونان مع بدايات الحرب العالمية الثانية .
في تلك الفترة خضعت اليونان الى إحتلال متعدد الجنسيات في آن واحد ، البلغاري ، والتركي ، والألماني والإيطالي . ومثل باقي شعوب أوربا عاني الشعب اليوناني مرارة الجوع وقسوة الإحتلال معاً . حتى إختفت كافة الكلاب والقطط من الشوارع ، وتعرضت المدن اليونانية الى دمار غير عادي . بينما زج الإحتلال بالألاف من المناضلين الوطنيين في السجون ، الى جانب المذابح الجماعية على أيدي قوات الإحتلال النازي في مدن " كلماتا وكريت ، وتسالونيكي ، وأثينا "
في مواجهة الإحتلال نشطت المقاومة الوطنية اليونانية. وفي مقدمتها كان الحزب الشيوعي اليوناني الذي حمل راية الدفاع عن شعبه مثل كل الأحزاب الشيوعية الأوربية آبان فترة الإحتلال النازي . ويعتبر النموذج الفرنسي والبرتغالي وكذلك الإسباني هم أكثر النماذج سطوعاً في تاريخ مقاومة الديكتاتورية النازية .
في مواجهة تردي الأحوال على كافة المستويات في " أثينا " خلال فترة الإحتلال ، إفتتحت السيدة " غابرييلا أوساكوفا " مركزاً للدعارة . إستقطب مركزها العديد من ضباط الإحتلال الألماني . وتحول الى نوع من الكلوب ، بيد أن السيدة " غابرييلا " كانت تحول عائداتها المالية من هذا المركز الى المقاومة السرية اليونانية ضد الإحتلال . كما قامت بتوزيع المساعدات المادية والغذائية من مواد تموينية وخلافه التي كانت تحصل عليها من ضباط الإحتلال النازي ، على العديد من الفقراء حسب جدول يومي للإعانة . عدا عن المعلومات الأمنية والعسكرية التي كانت تقدمها لعناصر المقاومة اليونانية حول تحركات القوات الألمانية وسواها .
بعد هزيمة النازية ، وصعود الديكتاتورية الفاشية العسكرية في اليونان ، واصلت السيدة " غابرييلا " عملها حيث ساهمت بتهريب وإيواء العديد من العناصر الشيوعية ومناهضي الحكم العسكري ، وتقديم المعونة المادية لهم . بل وصل الأمر الى درجة تبني تعليم عدد من الطلبة الفقراء واليتامى على نفقتها الخاصة . وبعضهم تخرج من الجامعات أطباءاً ومهندسين .
في العام 1991 ، قتلت السيدة " غابرييلا " في منزلها ، على يد مجهولين من المهاجرين بقصد السرقة ، حسب تقرير البوليس اليوناني .
في الأسبوع الفائت ، عرض التلفزيون الحكومي اليوناني حلقة خاصة عن حياتها تكريماً لها , بيد أن كافة الشخصيات اليونانية من مثقفين وفنانيين وسياسيين من المشاركين في هذا البرنامج ، طالبوا بتكريم هذه السيدة رسمياً . فلا أحد كان يناقش سيرة حياتها من واقع كونها " داعرة أو مومس " بل سيدة مناضلة ضحت بحياتها لصالح شعب أخر، بسبب مبادئها التحررية التقدمية . وهناك عدد من الأغاني الشعبية التي تحي ذاكرتها ودورها في تاريخ النضال ضد النازية .
في بلدان اخرى مثل البرتغال او فرنسا وإسبانيا هناك العديد من هذه النماذج من السيدات اللواتي ساهمت أجسادهن في مقاومة الإحتلال . وحتى في تاريخ كافة الثورات الأخرى هناك نماذج مشابهة . في الثورة الفيتنامية ، ، كانت " سايغون " عاصمة الإحتلال الأمريكي ، العديد من الفتيات الفيتناميات قدمن أفضل المساهمات المعلوماتية للقوات الفيتنامية التي كانت تقاتل دفاعاً عن حقها في الإستقلال والتحرر . وهولاء الفتيات جرى تكريمهن لا حقاً من قبل قيادة الثورة الفيتنامية . في الثورة الجزائرية هناك حالات مشابهة ، ربما قد تأتي اللحظة التي قد يكشف فيها بعض من عاصر تلك الثورة عن هذه الحالات ، عندما يصل مستوى النضج المجتمعي الى درجة تقدير وفهم حقيقي لمعنى الوطن . حتى على صعيد الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة ، هناك حالات مشابهة كانت على صلة ببعض مراكز القرار الفلسطيني بصورة سرية . لأسباب وظروف ذاتية وموضوعية . ولم يكشف عنها النقاب .
السؤال المطروح عنها ، هل يمكن التعامل مع هذه الحالات بإعتبارهن " مومسات " أم مناضلات ..؟ أو بمعنى آخر هل الحكم على هذه الحالات هو حكماً أخلاقياً مستنداً الى قاعدة نصية جامدة " دينية " ومبنى على عادات وتقاليد تتعاطى مع قضية المرأة بإعتبارها أداة أنتاج وإستمتاع غرائزي حيواني . أم الحكم على أساس معايير تستند الى ثقافة وسياسة ومعرفة جديدة متغيرة حسب تطور الزمن ..؟ تأخذ بعين الإعتبار كافة الظروف الإجتماعية والإقتصادية ، وكذلك الإنسانية ..؟
ثم لنطرح سؤالاً أخر عندما " تنحرف " سيدة ما .. هل المسؤلية تتحملها فقط المرأة من واقع أن ما أقدمت عليه كان خياراً ذاتياً .. أم أن هناك ظروف إنسانية ومعيشية إضطرتها لدخول هذا المجال من العمل الذي يكفل لها تأمين لقمة عيشها .. ؟
للسيد المسيح قول جميل " من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر " فعندما يكون المجتمع هو المخطئ بنظامة الطبقي ، وأدوات حكمه الذكورية ، وأحكامة المتخلفة بحق المرأة ، في هذه الحالة من هي " الداعرة أو المومس " المرأة أم المجتمع الذي لم يوفر لا فرص العيش لأبناءه ، ولا المساواة الإجتماعية الكفيلة بضمان حقوق أفراده . .. فكيف هي الحال في مجتمع متخلف قائم على عقيدة إضطهاد المرأة . وإعتبارها شئ ملحق بملكية الذكر ، حتى لو كان مختل العقل .
إحدى أبرز إشكاليات " الثقافة " السائدة والمستمدة من نصوص تختلف زمناً عن العصر الحالي ، انها تتعامل مع الواقع من خلال الرمز ، وليس من خلال الواقع بكونه معاش وممارسه يومية . فالعديد من الأحكام التي تطلق في هذا المجال لا ترى من الواقع سوى النص الرمزي الذي تحول مع الزمن الماضي الى قوة القانون ، المفصول عن زمنه ، فعلى سبيل المثال ، كان يمكن إعتبار قطع يد السارق قبل ألف عام ونيف ، " حكماً مقبولاً " على سبيل الإفتراض عندما لم تتوفر سجون ومراكز إصلاح وإعادة تأهيل ، والبحث عن الأسباب التي أدت الى إرتكاب فعل السرقه . أما في العصر الحديث فهذا القانون القديم ، وهو إبن ظروفه الزمكانية لا يصلح بحال من الأحوال تطبيقة اليوم . وعليه أيضاً كافة الأحكام لا سيما الأخلاقية منها هي وليدة زمنها ، فما هو أخلاقي في مكان ما قد يعتبر غير أخلاقي في منطقة أخرى .
في بعض مناطق حوض " الأمازون " تقدم بعض القبائل للضيف إحدى نساء القبيلة كنوع تكريمي له ، بناء على تعاليم وطقوس " دينية " . وكذا بعض قبائل " الأسكيمو " أو حتى بعض القبائل الأفريقية والهندية . وحتى جزء من عادات العرب القدماء كان ممارسة الجنس الجماعي ، وتلك التي إصطلح على تسميتها " التبضع " من رجل آخر .؟ وفي الكتب الدينية عشرات الأمثلة " لفضائح " جنسية ، وحالات إغتصاب لقاصرات بقوة النص الوهمي المقدس .
الجميع يعرف أن أحد أسوء نتائج أية حرب تنعكس على المرأة ، ترى ماذا تحملت المرأة في حروب بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا، وهل يمكن إعتبار هذه المرأة التي فقدت زوجها أو عائلتها ولم تجد وسيلة أخرى للعيش سوى إستثمار جسدها لإعالة أطفالها .. هل يجرؤ أحداً ما أن يقول عنها أنها " عاهرة " أم هذا المجتمع الذي لم يحول دون إنضمامها الى جمعية أقدم مهنة في التاريخ ..؟ هو مجتمع عاهر .؟ . وبالمناسبة في أوربا هناك نقابة لهولاء السيدات من بائعات الهوى تدافع عن حقوقهن وصحافة خاصة بهن أو بهم . هناك فارق كبير بين التجارة المنظمة التي تقف خلفها مافيات كبرى تروج للدعارة والمخدرات ، وبين أحداهن ممن لم تجدن من وسيلة عيش مؤقته سوى اللجوء الى إستثمار جسدها بصورة مؤقته . وعالمنا العربي الذي يعيش حالة النفاق الأخلاقي هو أحد أهم مصادر تحويل ودفع المرأة الى الجنوح . ولولا عدم الرغبة بسرد تفاصيل حياة لاجئات الى هذا البلد أو ذاك ، لنشرنا سيرة مئات النماذج لنساء وقعن بسبب الجوع ضحية حماة أخلاقية النفاق والعهر الإجتماعي. في مجتمع لم يصل بعد إدراك معنى إحترام المرأة المهاجرة أو اللاجئة ، وواجب تقديم المساعدة لها ولعائلتها دون مقابل جسدي .
كافة القوانين الإخلاقية هي جزء من حلقة في مجرى تطور المجتمعات عبر التاريخ . وكل القوانين نسبية وليست مطلقة طالما أنها تخدم مرحلة معينة أفرزها الصراع الإجتماعي ، او صراع تقسيم العمل والطبقات . كل القيم الإخلاقية هي نسبية ، والخير والشر هي مجرد وصفات لسلوك بشر في مراحل معينة . فما تعتبره أنت من خير قد يعتبره أخر في مكان أخر شئ غير مفهوم أو مقبول . وهكذا هي الأخلاق هي قضية إتفاق شائع في بيئة محددة في زمن محدد .
هناك أغنية يونانية مشهورة للمغني " فاسيلي بابا كستندينو " تقول كلماتها " نشكر الله أنه لدينا عاهرات " ..؟ ومن كان منكم بلا خطيئة .. فليرمها بحجر ..؟ ترى كم عدد الذين سقطت الأحجار من يدهم نحو الأرض ، متأملين في أنفسهم ، ومراجعين لخطاياهم في إصدار الأحكام المطلقة على البشر ..؟