بين النور والظلام زاوية ضيقة للنظر



عبدالجليل الكناني
2010 / 6 / 21

مالذي أيقضني هذه المرة عند الرابعة صباحا رغم التعب ؟ فكرة ناكدت مخيلتي حينما نظرت صوب اصغر بناتي وهي تغط بنوم عابث فشعرت ، لا اعرف أول الأمر مبعث هذا الشعور ، أنني ظلمتها وأخواتها ، بدعوى أشياء لا قيمة لها البتة ، إنما لها قيمة سالبة في عصر الحساب ومنطق النتائج المحققة . وهو منطق عقلي لا يخضع لعواطف غبية وردود أفعال متشنجة تحت مسميات مثل الكرامة والشرف . ولكن أية كرامة التي نحيى بها تحت هذا السقف الذي لا يستر ولا يحمي وأي شرف إذا كنا نختصر الشرف ببكارة امرأة أو بماسورة التصريف ؟ !
لماذا ادعي أنني تركت مدينتي بدواعي الخوف على بناتي ؟؟ حين احلل الأمور، نعم ، لابد أن يكون الأمر كذلك ، وحين أراجع ما كنت عليه أدرك أنني كنت أخشى على حياتي وهنا كالعادة يقف المتهم أمام القاضي وأنا كلاهما قاض لا يرحم ومتهم مسحوق بتأنيب الضمير وبخذلان الفشل . وكالعادة أيضا لا اصل إلى منطق الحكم الذي يريح كليهما والمحصلة مجموعة من الضحايا هم أفراد عائلتي وبالذات بناتي . ماذا تعلّم ابني الوحيد وريث اسمي ومسؤولية العائلة والذي تدرب ومارس مهنة السجان على أيدي سجانين أغبياء بلا رحمة ؟ . فحين اطل على الشارع لا أرى سوى مجاميع كالجراء السائبة من الشبان والصبيان هذا يلقي نكات سمجة وذاك يعلق بفجور . أقول يا الله لقد كثر الأطفال وكبر الصغار ولكن أين البنات أين الصبيات والصغيرات ؟؟ لا أرى سوى جدران وارى خلفها بناتي ، جدران صماء صلبة ولابد بقدر هذه الجراء السائبة ثمة عصافير في أقفاصها الساخنة . أقفاص ما إن تفتح حتى يهدر كلب ، بما له من حاسة شم ، بالعواء . يقف ابني حارسا أمينا ظالما كما يقف أصحابه لأخواتهم وهم يتباهون برجولتهم أشياء تعلموها من سيل الحرام الذي يصب في آذانهم عبر مكبرات الصوت ومن خلال القنوات الإعلامية . لذا هم يعرفون جيدا أن المرة تكرم عن طاريها أو النسوان ، حشاك ، عامة ، عورة ولابد للرجل الذي يحافظ على كرامته أن يسترها . ولقد رأيت هذا الستر أمس وقد تجلى بابهى صورة على قناة العربية حينما عرضت خبر ابتكار أزياء تناسب المونديال وهي عبارة عن صداري وقبعات تحمل ألوان وأعلام الدول المشاركة ، تُلبس فوق الدشاديش ، وطبعا هذا الزي رجالي فقط لا يصلح للنساء ليس لان النساء يصنعنه كما اظهر التقرير ولكن لكون النساء اللائي يقمن بصناعته أشبه بمكائن سوداء مبرمجة مغطاة بعناية فائقة عن الأتربة وتطل بعدساتها على الزي من خلال شق عرضي . أدركت أن ذلك سيسعد ابني وأصدقاءه لو أن أخواتهم يظهرن هكذا لوفرن عليهم عناء المراقبة والترصد والوقوع في المحظور الذي يلوكه لسان الصديق قبل العدو .
في السبعينات كنت شابا صغيرا وكانت النساء أكثر حرية وتحرر كنت أراقب أي فتاة يجلس إلى جانبها رجل ومنهن تلك التي لا تميل برأسها إنما تدحرج كرات عينيها إلى الجوانب لتنظر إلى الآخرين . كم شعرت أن الرجل قاس وظالم وسجان لا يرحم . وبعد أكثر من ثلاثين عام أقف متفرجا على بناتي السجينات اللائي يقضين يومهن بين الجدران الخشبية وجل ما أستطيع فعله هو أن اخرج بهن لنصف ساعة، أحيانا ، وليس كل يوم ، بالسيارة ، فالمدينة صغيرة وضيقة ولا يمكن أن تجد مكانا دون أن تصير في موضع رصد وتعقيب من قبل الصقور والغربان على حد سواء ناهيك عن الجراء العاوية . هل هذا ما ارقني ؟ إن كان هذا فلعلي أجد بعض العزاء في ابتكار وسائل تخفف وطأة السجن ، لعلي أجد ،لكن أفكاري ذهبت حيث بناتي الكبريات . فحين هاجرت أو هُجِّرت كما تشير بطاقة المهجرين . لم تقبل اثنتان منهما للدراسة هنا حيث لا يوجد اختصاصيهما. قال لي ذلك الشاب ( الأنيق ! ) في مديرية التربية لا يجوز لو كانت راسبة لقبلناها ولكنها نجحت وليس لدينا معهد فنون . قلت له ابنتي تجيد الرسم وأملها أن تكمل الدراسة . احتج الشاب ، ولعل مبعث ثورته كونها بنت تدرس الفنون ، فقال لي هذا المشاور القانوني الذي يعرف بالقانون جيدا :- أنت تريدها أن تكمل دراستها في إعدادية التجارة تصاميم الخياطة ولو كانت راسبة في المعهد لقبلناها في الصف الأول ولكنها ناجحة إلى الثاني – اقبلوها في الصف الأول لقد نجحت بالواسطة هي في الواقع راسبة في الصف الأول – لا يجوز . ومهما حاولت إقناع الشاب ظل مصرا على اللا يجوز . كان يتحدث بلهجة دارس مجد للفقه الديني مع أنني لم أر العمامة على رأسه ولكنها لابد كانت في داخله . قلت له – أنا لا اطلب منك الأمر كواجب ولكنه كما ترى مستحب !!
. وحُرمت ابنتي من الدراسة لأنها ناجحة وليست راسبة ، ولعل وراء الأمر أسباب أهم .
أمور عديدة جرت لا تصلح لمقال قصير إنما رواية معاناة وصراع احد أطرافه عناد غبي وطرفه الآخر عذاب أب . وفاز العناد واستسلم الأب إلا من تأنيب الضمير والإحساس بالخذلان .
ابني (علي ) الذي لم يبلغ السابعة عشرة شاب صغير طيب القلب ولعل سلوكه تجاه أخواته مبعثه الحفاظ على السمعة ( الشرف ) وعلى الكرامة . فهو مثلي إذن فمن منا اخطأ ؟؟ . إذا جعلنا النتائج مقياسا للخطأ والصح فانا مخطئ لا محالة . إذ أن نتائج تمسكي بتينك القيمتين الرمزيتين قد أورث العذاب والمعاناة لعائلتي وبالذات بناتي وحتى علي هو الآخر يدفع الثمن غاليا . ليس ثمن تمسكه بقيمه هو التي استقاها من بيئته الظالمة إنما قيمي المتطرفة ، هي الأخرى متطرفة ، مع أني صرت كما يقولون اشرف الشرفاء ولكن لهذا الشرف ثمن عظيم ادفعه لا اقبضه . وحتى أولئك الذين يمجدون قيمي ليسوا إلا من الخاسرين البائسين . حملت قيم الإمام علي ، فذبحني سيفه ، في حين لم أصبح من القديسين ، إنما على شفير الخذلان لأن من يمجد مبادئي يطل على الجانب المعتم عند الزاوية البعيدة ويرسم خيالاته هو ، و لو أبصر النور الوهاج لمرضت عيناه التي لم تعتد رؤية النور الحقيقي ، وحينها سيلعن مبادئي وسيضعني في قائمة الفاسقين . أنا أدرك تلك الحقيقة المرة ، لذا تركت لزوجتي تربية البنات كما يجب للموائمة مع بيئتنا المظللة وتركت لي التقويم بما ينمي عزة النفس والنقاء والصدق وأغفلت عن قصد إضاءة الأنوار بما يكفي لأبصار الحقيقة بكل جوانبها . وكم أتمنى لو أنني اصرخ ذات يوم كاشفا عن كل الجوانب لولا إن سيؤدي ذلك إلى تدمير شامل لحياتهن وحياة ابني ، وبالتالي لما تبقى من حياتي . انه لعذاب ماحق أن تساهم في صنع العماء لمن هن اعز من الروح ومن ثم تصرخ داعيا لهن بالحرية .