الكتابة النسوية: بين الحلم واضطهاد الواقع



فيروز شحرور
2010 / 7 / 20

أن تقرأ نصا لرجل كان أو إمرأة، أن تفتح مدارك وعيك جيدا لمفهوم النص الأدبي، عمقه، بنيته، دوافعه، هو أن ينتهي بك المطاف لا محالة للحكم على النص لا بناء على جنس كاتب النص وعدا ذلك هو سباحة فعلية في الفراغ والتعمد لولوج عصر الوأد الثقافي..
(1)
المنبع
للآن وللقادم لا أملك ولن أملك أية خلفية تفسر ذاك الإنغلاق والغموض المميت أحيانا الذي يكتنف " لماذا أكتب "؟! " ولم هذا كاتبا اوكاتبة دون ذاك"؟!، فكان من المستحيل إذن، بل من الخطورة المخيفة التنبؤ باستنتاجات أكانت نابعة من تجربة فردية شخصية أو من تفاعلي بالمحيط، إلا أنه صار بإمكاني تخفيف وطاة ذاك الغموض الشرس والساحر على الأقل لي بنعته كتفسير وهو أن الكتابة لعنة لعينة، هاجس مرهق، تصيب من تشتهي دون حسبان، هي حاجة لا تطاق تيقظك باصرار طفل رضيع، دون الانتباه أننا في منتصف الليل، وأننا ربما مدمرين نفسيا وجسديا، أو في سهرة مع العائلة، الأصدقاء، مؤتمر أو في العمل، فقط يولد فيك فجأة حنين للورقة وللقلم وكأنما لم ترهما منذ دهر. ذاك الاشتياق الغريب!!، حقا الكتابة لعنة.

(2)
الكتابة النسوية
ولأن الكتابة لعنة كما أردفت، ولأنها تصيب دون تمييز، كان للأنثى نصيب فيها. وهذا المصطلح " الكتابة النسوية"، لم ير الضوء ويفرد على السطح لأجل فرزه عن النصوص الذكرية، وإنما أتت لتكون وعاء شاملا لكل ما يسبح في دواخل المرأة وكيفية تفاعلها بمحيطها الإجتماعي والثقافي، كيف تعبر عنه لفظا وكتابة من عيون نسوية، كيف تفسر الأشياء والظواهر، المفاهيم والمشاهد المارة والعميقة في مرمى حياتها.
وأيا كان ما تخطه المرأة برأي خصوصا العربية، لمدى هطول العادات والتقاليد والتباين الاجتماعي بينها وبين الذكر من الاجيال السابقة لهذه اللحظة، فأعتقد أنه لا يجب على العقول التي تنفست شتى الحقول وتحللت عن القيود لأسباب إجتماعية موروثة، أن توسم لنفسها الحق وتضع النص النسوي تحت الفرامة وتحكم عليه بالإعدام، لذرائع كأن يكون رديء، فكره خاطئ أو ملوث، وأحيانا يصل النص لنيله فتاوى كأن يكون نصا خارجا عن النص، نص حرام!!. من حق النص من يكن كاتبه أن نقف وقفة تأمل ارتقائي له، نتحسس خباياه، ظلمته، قوته، ضعفه، دافعه، سياقه، ولم يريدنا أن نستدل إليه، أن نسأل ماذا يريد منا ولأين. ولربما في القرن الحالي مقارنة بالقرون الماضية سيوجد الكثيرون ممن سيعلقون أن المرأة بألف خير، وأنها أخذت ما يكفي قوت وجودها وربما أكثر أيضا، ولا مهرب من أقول نعم بافتخار، ولكن... !!

(3)
لم ولمن وممن الصمت??
تعددت الأسباب والموت واحد..
صدقا أيا كان السبب والذي عادة يتمختر وراء ذرائع يحاول قائلينها أن تبدو قدر الإمكان منطقية لنستسلم لها، هو بالحقيقة وأد لصوت المرأة، وجميعها تقود للتلاشي الأدبي و الفكري النسائي. ومن اقترابي واقتراب كاتبات أخريات للوهج الثقافي، حينما تأججت رغبتنا الجامحة للبوح فقد صار الصوت يانع، فكره يافع ويتمتع باللغة التي ستسكبه الى الوجود وتسجل ردود أفعاله، وجدنا أنفسنا ننصدم وتنام على وجوهنا قدرا كافيا من الدهشة والاستغراب أكان من المثقفين ذاتهم أم من الواقع الاجتماعي الذي أصلا دفعنا نتيجة محاكاته للصوت. فقد بدى لنا مدى الملاحقة الفعلية للعقلية الذكورية لنصوصنا ومدى شراستها وخبثها وهي تحاول تمويهنا عن الحقيقة التي نراها ونتنفسها والتي تلعب في بطوننا، وجعلنا نسرد نصوص مغايرة تماما لا تشبهنا، تشبهم. أو نعاقب بترك أقلامنا مفتوحة ليلتهما الجفاف ونضطر للموت. وليس سهلا أبدا الاعتراف بمرونة التمرد وقدرته على وضعنا من المحاولة الأولى على طريق الحرية، فنتمزق ليل نهار بين أن نكون أو لانكون، و يصير وجعنا عضو آخر نكتسبه بعد إكتمال الخلق.. نحن فقط دون غيرنا، نحن من آمنا كما تقول ريتا عودة في " ثورة على الصمت" معلنة بذلك رفضها للصمت الإجباري.

" أنا
أؤمن..
أن الصمت قاتل.."

فأمثلة حقيقة تدب فيها الحياة كهذه، مثل أن يقرأ نص، يصفق له بكثافة ويمدح إبداعه وقوة الفكرة والمعنى فيه، وبعدما تسترد الأنفس حماسها وتهدأ الغبطة التي انفجرت فجأة ويعاد قراءة النص لتعبد جماليته مرة أخرى ويكتشف لاحقا أن كاتب النص أنثى تستغرب كيف تعود اللحظة إلى الصفر!!، ويضطر النص أن يستفرغ كل المدح الذي تناوله ليبتلع غصبا الازدراء والامتعاض وبضع مسبات قاسية. ووقائع أخرى سأدعوها بالجميلة المضحكة، لحقيقة السخرية فيها، كمثل رجال يهجرون حبيباتهم لكونهن حلمن بالكتابة ولكونهم هم رجالا شرقيين لا تليق بهم حضور أنثاهم بعيني غيرهم، رغم أن الحضور ليس أية حضور، والكتابة ليست أي هدف والسلام. وكثير من الكاتبات اللواتي سمح لهن بالاقتراب من المستعمرة الكتابية، تخطينه حسب سياسة الحر السجين، فعوملت كتاباتهن بأنها حاجة ضرورية كمن بحاجة ملحة للتبول الآن وفورا، فحددت لها بذلك الحقول التي تكتب عنها وفيها واختصاصها العقلي، والطريف حقا حينما يتم تقييد المرأة بأغلال فطرتها الأمومية فتصير ذريعتهم أن ادب الأطفال يناسبك أكثر!!، وقد قمن كاتبات بفضح هذا العنف الثقافي عليهن بكتاباتهن، كما تصدح بتعب وتحدي عايدة حسنين في " رؤى الياسمين" وهي تدرك وترى أن المجتمع يحاول الانسياب ليلبس عنوة مفرادتها، لغتها، ويسرد وجعها وشتى ما يجول في دواخلها كما يريد لا هي.

" راية بيضاء مثلي
وصلت
تؤذن طاعة حاسوب صغير
برمجت
أكرر قاموسية الكلمات"

والشاعرة ريتا عودة، المتوهجة من خلال قراءتي لها، المفعمة بالحرية وتتميز كتاباتها بعكس ذلك الواقع أيضا بصدق وسلاسة كما في " حين تكتب المرأة "
حين تكتب المرأة..
وهي / تتحدى/ نفوذ أهل القبيلة..
بخروجها عن../ زوايا الصمت
حتى ولو كانت../ لا تتحدى
حتى ولو كانت/ تكتب قصيدة غزلية
حتى ولو كانت ../تصف .. أحاسيس .. طفولية...
فهي / لا محالة../ خارجة عن نطاق الفضيلة
شاذة../ عن تقبل../ دور الأمومة!.

كما أن هنالك بعض الكاتبات أيضا تتم مراقبة نصوصهم من بداية الإحساس بروحه فيهن، فتظل الأعين ملاحقة لعملية ولادته وبعدها فحصه بدقة واحتراز للتأكد من شرف النص!!، وعبرت عن ذلك غادة السمان بوصف جميل بنظري في " وهكذا أتكلم أنا " في مقطع " تشاؤم"، تقول:

" ثمة قلق ملح يدعوني للخوف
أن ترتطم حروفي نهاية المطاف
بعقول فجة.."

أكل ذلك بحجة أن للمجتمع قوانينه؟ والتي سأحترمها ما بقيت لو هي فعلا لنا و للجميع، أكل ذلك لإرهاقها ؟ ولاحقا تنعت بالمتخلفة أو قليلة الذكاء دون التنبه للأسباب التي تركتها بهذا الشكل، فأين حرية الإفصاح؟ حرية الجنون؟ العقلنة؟ التجريب والموت الحي؟ أين حق الإختيار؟ أين المرأة من الحياة، وليس أية حياة. لن تكون الأجوبة بسيطة بأية حال ولن أغور فيها، ولن يكون هنالك أيضا أفق طالما أننا لا نصمت للأسئلة.. طالما لا نعي لذواتنا.
ومع كل ذلك، مع كل ذلك الوجع.. قراءتنا لأسماء أديبات على المستوى الفلسطيني والعربي، أديبات تميزن بحضور النص والإبداع كفدوى طوقان، سميرة عزام، أسما طوبى، عنبرة الخالدي، غادة السمان، ريتا عودة، وفاتنة غرة.. أسماء كثيرة دلت على حضورهن، كما تدل بالضبط على تحدهن وإحياءنا، كما تغمر الشاعرة فدوى طوقان خوفنا بالمضي قدما، دون توقف وكلل، في " هو وهي"، تقول:

"..وانطلقت أودع شعري
خلجاتي الحرّى ونبض شعوري
وأغني الحياة أشواق روحي
من وراء الأغلال من تحت نيري
أتحدى السجان ، أسخر بالعرف
بما شادت التقاليد حولي
من جدار ضخم مضت أغنياتي
تتخطاه في تحدّ مثلي
كم فتاه رأت بشعري انتفاضات
رؤاها الحبيسة المكتومة
كان شعري مرآة كل فتاه
وأد الظلم روحها المحرومة.."