عباسيون وعارضات أزياء



لطيفة الشعلان
2004 / 9 / 8

في معرض التقييم السلبي لوسائل الاعلام المعاصرة وصناعة الدعاية والاعلان يكثر الخوض في، والاشارة الى، القضية التي أتفق على تسميتها بـ (استغلال المرأة) ويقصد منها التوظيف الرخيص للجسد المؤنث في شؤون الجذب والتسويق.
واحدى مسلمات الجدل الدائر بين المهتمين بهذا الموضوع، هي أن الحادث مع المرأة اليوم، هو (استغلال)، وان تلك البدعة في (الاستغلال) بدأت بها الثقافة الغربية الرأسمالية، لتتدرج في ما بعد، بدرجات متفاوتة، الى المجتمعات والثقافات الاخرى في الشرق والغرب.
ابتداء، فان كلمة (استغلال) غير دقيقة في تعبيرها عن واقع الحال، ناهيك عن ما تنطوي عليه من معان محطة بكرامة المرأة، بينما يبغي المعنيون تكريمها ورفع الابتذال عنها. ذلك لان الاستغلال يكون واضحا ومفهوما، حين يكون حديثنا بصدد مجاميع تفتقد أوليات الحرية أو البلوغ أو العقل، كالعبيد أو الاطفال أو ضعاف العقول أوالنساء اللواتي يوقعهن العوز والحظ العاثر في أسر وكالات الاتجار بالرقيق الابيض، في بعض دول آسيا وأوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية.
أما امرأة الدعاية والتسويق وأغلفة المجلات، التي ينصب اكثر المعنى عليها في نقاشات الصحافة حول (استغلال) المرأة، فمما يشينها، صراحة، أكثر من عملها، الادعاء بأن أحدا يستغلها، لانها ببساطة شخص حر (الحرية التي هي بالمعنى المناقض للعبودية) ومسئول. وبالتالي، فان ما يحدث لها ومعها، من ساعة اختيارها لمهنتها الى لحظة وقوفها أمام الكاميرا، هو بكامل اختيارها، لان لا احد يملك أن يستغلها مستخدما الجبر والارغام، على سبيل المثال، او العقود غير القانونية. ولو أفلت زمام الخيال الى أن فتيات الاعلان شكلن فجأة رابطة أو جماعة ضغط، قررت فرض معايير جديدة تنظم أعمالهن، وتحمي انسانية أجسادهن من الابتذال، فمن ذا الذي بيده أن يرغمهن على عكس ذلك؟
ان القاء الخطيئة في امتهان صورة المرأة، في وسائل الاعلام العربية المعاصرة، الى انجرار هذه الوسائل والقائمين عليها، الى تقليد النموذج الغربي، زعم متهافت تدحضه حقائق تاريخية بسيطة. صحيح ان توظيف المرأة الغربية لجسدها، تطور نحو الأسوأ، بتطور الصناعات والفنون ووسائل البث والاتصال والدعاية، وعلى خطاها ربما تأثرت نساء في بقية الاصقاع. لكن الحضارات القديمة كلها، بما فيها الحضارة العربية، عرفت صورا متنوعة ومزدهرة لامتهان الجسد الانثوي وتقديمه في قالب ترفيهي، يختلف شكلا عن الجاري اليوم، ولا يفارقه روحا ومضمونا. ولو عرف العباسيون الانترنت أو الفضائيات او ترويج المنتجات الاستهلاكية او صناعة الاغاني المصورة، لابتدعوا، ما لاعين رأت ولا أذن سمعت، بالنسبة الى عروض الاجساد، بشكل يجعل صناع اليوم امامهم مجرد تلاميذ فاشلون.
الفارق الوحيد في بضاعتنا التي ردت الينا، أن ثقافة العرب العباسية، وحتى الجاهلية، لم توظف غير أجساد الاماء، المتحدرات من أباء مستعبدين، أو اللواتي فقدن حريتهن في الحروب او صفقات البيع، أي انها بالفعل كانت عملية ينطبق عليها وصف الاستغلال، بينما بقيت المرأة الحرة في مكانة سامية، فهي لا توظف جسدها، ولا يجرؤ غيرها على التفكير في توظيفه. في حين أن جميع النساء اللواتي يمتهن أجسادهن، دعائيا وتسويقيا، في زمننا الحاضر، هن من الحرات، على الاقل، الحرية بمعناها القانوني.
وحدهن هؤلاء اللواتي يتحدرن من أصول عرقية وقبائلية معينة، ويمتهن حرفة الرقص في الاعراس في بعض المجتمعات العربية المعاصرة، قد يصح وصفهن بالمستغلات، تستغلهن طبيعة الثقافة و منظومة القيم الخاصة، أو رجال العائلة، الذين يدفعونهن الى العمل بغرض المال.
ان قيام امرأة ما بتسليع جسدها (تحويله الى سلعة) مهما اختلفت درجة الحدة ، ابتداء من توظيفها له في الاغراض الدعائية والتسويقية، ومرورا بتمايلها به على منصات عروض الازياء وانتخاب ملكات الجمال، وانتهاء باخضاعها له الى التعري قطعة بعد قطعة في عروض الستريبتيز، انما يجري بارادتها الحرة، وان كان هناك استغلال فهو من نفسها لنفسها، فلا أحد بامكانه أن يستغل جسد انسان حر بالغ عاقل باستثناء صاحب الجسد ذاته.
فالوزر، بالدرجة الاولى، لا يقع على شهوانية الرجال، كما تقول الدعوى النسوية التقليدية، ولا على الثقافة الاستهلاكية، ولا على ما بينهما من أعذار وأوزار، وانما يقع على عاتق امرأة الخلاخل التي خاطبها نزار قباني وقد أسماها الدميه:
أخاطب عقلك من غير طائل
أخاطب فكرك من غير طائل
أخاطب فيك الثقافة من غير طائل
ولكنني لا أرى غير جسم مثير
وأسمع في قدميك رنين الخلاخل
ومسئولية المرأة الكاملة عن خيار الخلاخل لا يلغي كونها ( أي الخلاخل) مثل أي مهنة أخرى، لها شروط ترقيها ونجاحها، التي يسنها الرجل أو معايير السوق أو ثقافة العصر، وترجع المسئولية مرة أخرى، وبشكل كامل، الى المرأة، في قبولها بمهنة لها شروط من نوع خاص.
عارضات الازياء يتسابقن على اجادة مهنة الخلاخل، واخضاع الجسد لمقاييسها
المتشددة، الى الحد الذي تتهدد فيه صورهن الذهنية عن أجسامهن
وفي قرارة أنفسهن يشعرن أنهن يعوضن المعاناة ما بين البوليميا (الشره المرضي) والانوركسيا (فقدان الشهية العصبي) وتجاذب حصص ضئيلة من الهيروين الذي يوزع في نهاية العرض خلف الكواليس كمكافأة أولية على السهر والحرمان من الاكل، يعوضنها بمجد الشهرة من جهة، وبالمبالغ الطائلة التي يجنينها من وكالات العروض من جهة أخرى، ويهون عليهن الاحساس أن الاستغلال ان كان قائما فهو متبادل: العارضة بدورها تستغل وكالة الازياء التي تستغلها.
المرأة التي تكسب عيشها من توظيف جسدها، قد تحيطه بقلق عصابي، يغذيه شبح زيادة سنتيمترات قليلة في محيط الصدر أو الخصر، أو ذعر العطب، الذي متى ما أصبح حقيقة واقعة، لايمكن لأي عطار أن يخفيها، تحول القلق على الجسد الى شعور بالاشمئزاز منه، خاصة وان المهن المرتبطة بالجسد، هي الوحيدة، التي لا تحبذ ارتفاع سنوات الخبرة، لارتباط زيادتها بزيادة نسبة التغضن والارتخاء.
وهذا قانون لم تهتم الشرائع الدولية ولا منظمات حقوق الانسان بتحسينه .. وهو فاعل منذ أقدم مهنة عرفتها البشرية، وكان فيها لحم النساء أرخص قليلا من لحم بهيمة الانعام.