ضرورة تجديد الخطاب العربي النسوي



نصر حامد أبو زيد
2010 / 7 / 8

الخطاب المنتج حول المرأة في العالم العربي المعاصر خطاب في مجمله طائفي عنصري، بمعنى أنه خطاب يتحدث عن مطلق المرأة/ الأنثى ويضعها في علاقة مقارنة مع مطلق الرجل/ الذكر، وحين تحدد علاقة ما بأنها بين طرفين متقابلين أو متعارضين، ويلزم منها ضرورة خضوع أحدهما للآخر واستسلامه له ودخوله طائعاً منطقة نفوذه، فإن من شأن الطرف الذي يتصور نفسه مهيمناً أن ينتج خطاباً طائفياً عنصرياً بكل معاني الألفاظ الثلاثة ودلالاتها، وليس من الصعب كذلك أن نجد في نبرة خطاب ((المساواة)) و((المشاركة)) إحساساً بالتفوق نابعاً من افتراض ضمني يحمله، الخطاب بمركزية الرجل/ المذكر، فالمرأة حين تتساوى فإنها تتساوى بالرجل، وحين يسمح لها بالمشاركة فإنما تشارك الرجل، وفي كل الأحوال يصبح الرجل مركز الحركة وبؤرة الفاعلية، ويبدو الأمر كأنما هو قدر ميتافيزيقي لا فكاك منه ولا مناص، وكأن مرحلة سيادة الأنثى في بعض المجتمعات الإنسانية، وكأن كل فاعلية للمرأة في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية فاعلية هامشية، لا تكتسب دلالتها إلا من خلال فاعلية الرجل.

وللخطاب العربي المعاصر جذوره في بنية اللغة العربية ذاتها، من حيث هي لغة تصر على التفرقة بين الاسم العربي والاسم الأعجمي بعلامة يطلق عليها فيع لم اللغة ((التنوين)) أو ((التصريف)) وهو ((نون)) صونية تلحق آخر الأسماء العربية على مستوى النطق لا على مستوى الكتابة، فيقال مثلاً: محمدٌ، عليٌّ، رجل في حالة الرفع، وكذلك في حالتي النصب والجر، لكن هذه ((النون)) لا تلحق الأسماء غير العربية فيقال ((بوش))، ((إبراهيم)) .. إلخ.

وعلينا أن نلاحظ بالإضافة إلى ذلك أن إطلاق اسم ((العجم)) أو ((الأعاجم)) على غير العرب هو من قبيل التصنيف القيمي الذي يعطي العرب مكانة التفوق، كما يعطي للغتهم مكانة ((اللغة)) بألف ولام العهد، كأن ما سواها من اللغات ليس كذلك، وكأن من يتحدثون بلغة غيرها هم بمثابة العجماوات التي لا تبين ولا تنطق.

هذا التمييز بين العربي وغير العربي على مستوى بنية اللغة وعلى مستوى دلالتها ينبع منه تميز آخر بين ((المذكر)) و ((المؤنث)) في الأسماء العربية، وهو تمييز يجعل من الاسم العربي المؤنث مساوياً للاسم الأعجمي من حيث القيمة التصنيفية، فبالإضافة إلى ((تاء التأنيث)) التي تميز بين المذكر والمؤنث على مستوى البنية الصرفية، يمنع ((التنوين)) عن اسم العلم المؤنث كما يمنع عن اسم العلم الأعجمي سواء بسواء، في هذه التسوية بين المؤنث العربي والمذكر الأعجمي نلاحظ أن اللغة تمارس نوعاً من الطائفية العنصرية لا ضد الأغيار فقط بل ضد الأنثى من نفس الجنس كذلك كذلك، وهذا أمر سنلاحظ امتداداً له على مستوى الخطاب السائد المعاصر، حيث تعامل المرأة معاملة ((الأقليات)) من حيث الإصرار على حاجتها للدخول تحت ((حماية)) أو ((نفوذ)) الرجل.

ولا تقف إيديولوجية اللغة عند حدود التمييز المشار إليه، بل تمتد لتشكل العالم بكل مفدراته من خلال ثنائية المذكر/ المؤنث، فكل أسماء اللغة إما مذكر أو مؤنث ولا مجال في اللغة العربية لما يسمى الأسماء المحايدة، أي التي ليست مذكراً ولا مؤنثاً، كما هو الشأن في بعض اللغات الأخرى كالألمانية مثلاً، صحيح أن علماء اللغة يميزون بين المؤنث الحقيقي والمؤنث المجازي، لكن هذا التمييز لا يعفي المؤنث المجازي من الخضوع لكل آليات التصنيف التي يخضع لها المؤنث الحقيقي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا نجد التمييز الحقيقي بين مذكر حقيقي ومذكر مجازي وهو أمر يكشف عن تصور أن ((التذكير)) هو الأصل الفاعل والمؤنث فرع لا فاعلية له، وبحكم هذه الفاعلية للمذكر من حيث هو الأصل، تصر اللغة العربية على أن يعامل الجمع اللغوي معاملة ((جمع المذكر)) حتى ولو كان المشار إليه بالصيغة جمعاً من النساء بشرط أن يكون بين الجمع رجل واحد، هكذا يلغي وجود رجل واحد مجتمعاً من النساء، فيشار إليه بصيغة جمع المذكر لا بصيغة جمع المؤنث.

وإذا كان من الممكن القول إن هذا ليس شأن اللغة العربية وحدها، بل هو شأن تشاركها فيه كثير من لغات الأرض، فإن هذا القول لا ينفي الدلالات المستنبطة من الظاهرة، بل لعله يؤكد تلك الدلالات على مستوى بنية الوعي الإنساني، وإذا كان الأمر كذلك على مستوى اللغة، فإنه ليس كذلك دائماً على مستوى وعي الجماعات التاريخية التي لا تكتفي بأن تكون حاملاً سلبياً لوعي اللغة ولأيديولوجيتها، ففي بعض المجتمعات المعاصرة المتحدثة بالإنكليزية على سبيل المثال ثمة وعي متزايد بأيديولوجية اللغة وبخطورة الخضوع لها، وثمة محاولات في التداول اللغوي لتجاوز هذا الوعي بوعي مغاير، هناك مثلاً محاولات لتحاشي الإشارة للإنسان بشكل عام بضمير المذكر He وذلك باستخدام الضميرين على سبيل التبادل he or she، وهناك تحاشي استخدام صيغة المذكر أو المؤنث في الإشارة إلى الوظائف فلا يقال Chaiman بل يقال chairperson، ولا يقال spokesman بل يقال spokesperson ـ إلخ. هذا الوعي الجديد لا وجود له على مستوى الاستخدام المعاصر للغة العربية، ولعل في ذلك ما يؤكد أن مسألة غياب هذا الوعي في الخطاب العربي هو ما يعنينا هنا أساساً، وهو غياب ممكن أن يفسره جزئياً التحول الذي أصاب أيديولوجية اللغة في بنيتها الأصلية، حيث صارت رؤية للعالم على مستوى الفكر