المرأة في المجتمع العربي...بين الظهور والإخفاء



أحمد عدلي أحمد
2004 / 9 / 10

يبدو أن المجتمعات العربية تشهد حاليا حالة شديدة من الفصام الثقافي ، ذلك الفصام الذي يتجلى من خلال تناقض ما هو موجود على أرض الواقع مع القيم التي تسيطر على عقول الغالبية الساحقة من الأفراد، وتتحكم في رؤيتهم للعالم بحيث أصبحنا داخل دوامة كبيرة من المتناقضات بين ما هو رسمي ، وما هو شعبي ، وبين ما يقال وبين ما يفعل ، ولعل المساحة المتعلقة بدور المرأة في المجتمع العربي تبرز ذلك التناقض بشكل لافت للغاية ، فبينما تشكل النساء في مصر طبقا لدراسة نسبة أعلى بكثير بين أعضاء هيئات التدريس بالجامعات مقارنة بدول كثيرة على رأسها بريطانيا ، وفرنسا ، والولايات المتحدة ، وبينما أصبح احتلال الإناث لمعظم المراكز المتقدمة في جميع الصفوف الدراسية أمرا معتادا لدرجة أنه لم يعد يلفت الانتباه ، وبينما لا تزال النساء تشكل نسبة كبيرة من سوق العمل بمصر ، وكثير من البلدان العربية { برغم تراجع فكرة عمل المرأة في السنوات الأخيرة مع تراجع الأفكار التحررية بشكل عام في المجتمعات العربية ، و مع تزايد معدلات البطالة ، وممارسة أصحاب الأعمال لألوان من استغلال العمالة} إلا أن قيم المجتمع الذكوري التي تعتبر الرجل مركز الحياة لا تزال هي المسيطرة على عقول الرجال والنساء كليهما في مصر ، وسائر المجتمعات العربية ، فكلمة حريم لا تزال شائعة لوصف النساء رغم اختفاء تلك المؤسسة من معظم البلدان العربية منذ نحو نصف قرن على الأقل ، و لا يزال النموذج البطريركي للأسرة هو النموذج المقبول اجتماعيا ، فحتى في الأسر التي يشكل دخل النساء فيها جزءا رئيسيا من دخل الأسرة تحرص النساء غالبا على إظهار الرجل بمظهر رب الأسرة القابض على أمورها حتى لو كانت المرأة تمارس فعليا الدور المحوري داخل الأسرة بحكم الدور الاقتصادي الذي تلعبه إلا أن رغبتها في إظهار أسرتها ، ونفسها بالشكل المقبول اجتماعيا يدفعها دائما لإخفاء ذلك . إن هذين المثالين من بين نماذج عديدة تكشف لنا مدى خداع النفس الذي نمارسه من أجل إقناع أنفسنا بأننا نخضع بشكل كلي للقيم الذكورية التي تمثل المنهج القويم اجتماعيا، وتعليل ذلك عندي أن هذه القيم لا تزال تكون جزءا رئيسيا من وعينا الجمعي لدرجة أنها تشكل محور الطريقة التي نفهم بها النساء والرجال والعلاقات التي يجب أن تحكم علاقتهم ، ومهما حدث من تغيرات اجتماعية واقتصادية فهي لم تؤثر على طريقة الفهم السائدة حول هذه الأمور بحيث أصبح كل تغير لا ينسجم مع هذه القيم لا يفهم كتطور، وإنما بمثابة اختلال وتشوه اجتماعي، ولا شك أن القيم الذكورية جزء لا يتجزأ من التراث القيمي العالمي ، وتعود إلى العصور ما قبل الحديثة حيث تم تقسيم المهام عرفيا بين الجنسين بحيث أسند للذكور القيام بالمهام التي رؤي أنها تتطلب المزيد من المجهود العضلي مثل توفير الطعام ، وتأمين المسكن ، { والوطن فيما بعد } وما إلى ذلك ، بينما أصبح من مهام النساء تربية الأطفال ، و إدارة الشئون المنزلية ، وقد أدى ذلك إلى تركز الثروة { التي نتجت عن العمل الفردي والجماعي لتوفير الطعام} ، والقوة {التي نتجت عبر الصراع البشري على القوت والأرض} في أيدي الرجال ، مما أكسبهم السلطة الاقتصادية داخل الأسرة وفي المجتمع والسلطة السياسية بالتالي ، وهكذا استطاع الرجال صياغة التاريخ ، وصياغة القيم كذلك ، كما أدى ذلك التقسيم إلى إكساب الرجل لخبرات ، و قدرات جديدة ، بينما ساد الاعتقاد بأن ما تقوم به المرأة من أعمال ذو طبيعة أكثر فطرية ، وبالتالي أقل أهمية وإبداعا مما يقوم به الرجال، وقد أدى كل ذلك إلى سيادة فكرة مركزية الرجل داخل الحياة الخاصة والعامة للبشر ، ومن ناحية بيولوجية بحتة قد يبدو ذلك التقسيم للوهلة الأولى فطريا ، وحتميا فالرجل هو الجنس الأقوى من الناحية الجسمية ، وبالتالي الأقدر على تحمل صعوبات الكفاح ، بينما تبدو الطبيعة كأنها أعدت المرأة للجهود المنزلية، كما يكتسب هذا التقسيم قوة هائلة بحكم قدمه ، وانتشاره في شتى المجتمعات تقريبا ، إذ يبدو بالتالي كتقسيم غريزي أكثر منه تقسيما واعيا ، ولكن ذلك لا يبدو دقيقا تماما ، فالرجل قد لا يكون الأقوى جسميا إلا إذا اعتبرنا قوة العضلات كمعيار وحيد ، فمناعة الرجل أقل كثيرا من النساء حيث يعمل هرمون "تيستسترون" كمثبط مناعي ، ويعتبر ذلك عاملا أساسيا في إصابة الرجل بالأمراض المعدية و معظم السرطانات بنسب تفوق نظيرتها عند النساء ، كما يعتبر الرجال بصفة عامة ، وبفعل "تيستسترون" الأكثر انفعالا، وبالتالي الأقل قدرة على تحليل المشكلات والتوصل لحلول أكثر ذكاء ، ولعل ذلك يفسر ما يسمى بكيد النساء ، فما ما هو شائع عن مكر النساء قد لا يكون ناتجا إلا عن قدرتهن على الاستخدام الأفضل لعقولهن مقارنة بالرجال الذين يمتازون بصفة عامة بالاستخدام الأقل ذكاء للقوة ، ولسبب ما لا أستطيع مقاومة إغراء المقارنة بين موقف ملكة سبأ من رسالة سليمان ، وبين موقفي "النمرود" و "فرعون" من دعوتي "إبراهيم" و"موسى" ، فبينما أعملت الأولى عقلها ، وأرسلت الرسل لمعرفة قوة "سليمان" و مدى صدقيته ، فقد سقط الأخيرين في الإغراء الكاذب للقوة{ ولكن البيئة تلعب دورا رئيسيا في تطوير هذه الصفات ، فالمرأة المعزولة اجتماعيا تتآكل مواهبها الفطرية بينما يكتسب الرجل بحكم نشاطه خبرات أفضل في إعمال عقله، كما أن المرأة التي تفتقد إلى الحد المقبول من التوازن الغذائي ، والتي تتعرض لمخاطر التلوث والعدوى أثناء الولادة تكون أكثر عرضة للمرض والموت} ، كما أن ذلك التقسيم الاجتماعي لا يبدو أنه السائد بين الأنواع الحيوانية الأخرى ، ففي معظم الحيوانات تبدو الإناث أهم اجتماعيا ، فبالإضافة إلى رعاية الأبناء تقوم الإناث في كثير من الأنواع بالبحث عن الطعام للصغار ، وحمايتهم ، بينما يقتصر دور الذكور تقريبا على التلقيح ، ومن ناحية أخرى فلا دليل على فطرية ذلك التنظيم الاجتماعي رغم التسليم بقدمه التاريخي الفريد ، بل إن بعض الباحثين يحاول تفسير الآلهة الأنثوية في معظم الثقافات بأنها تعود إلى مرحلة المجتمعات الأمية{نسبة إلى سيادة الأم} ، ولكن وجود مثل هذه المجتمعات يوما ما يزال أمرا محاطا بالشكوك ، وعلى أي حال فإن المجتمعات الأبوية قديمة جدا ، وفي ظلها قامت الحضارة المعروفة ، ولوقت طويل كان تفوق الرجل ، وسيادته أمرا بديهيا في جميع الثقافات تقريبا حتى ظهرت الثورة الصناعية في أوروبا ، والتي ارتبطت بثلاثة تغيرات الأول تكنولوجي بظهور الآلات الحديثة والتي يحتاج تشغيلها مجهود بدني أقل مما سمح للنساء بالاندماج في قوة العمل ، والثاني ديموغرافي برحيل عدد كبير من الذكور إلى المدن للالتحاق بالعمل الصناعي الأكثر ربحا تاركين خلفهم الحقول تبحث عن عمالة زراعية من النساء ، والثالث تغير ثقافي مع انهيار سلطة المؤسسة الدينية التقليدية التي كانت تصوغ القيم الأوروبية في القرون الوسطى ، وتصاعد الفلسفات الإنسانية {التي تضع الإنسان لا الله هدفا لها} وعلى رأسها العلمانية ، والتبشير بقيم الحرية والمساواة ، وقد أدى ذلك التغير الاقتصادي{ من خلال تزايد معدلات الاستقلال المالي للنساء}مرتبطا بالتغير الثقافي{ من خلال انهيار المؤسسات التقليدية وما يرتبط بها من قيم ، وتشكل ثقافة جديدة قائمة على المساواة}إلى نشأة دعوات خروج المرأة للعمل والدراسة ، و مساواتها بالرجال على يد جماعة من النساء والرجال ، وفي الفترة بين بدايات القرن 19 وبدايات القرن20 استطاعت النساء الأوروبيات الحصول على العديد من الميزات التي كانت تعتبر حكرا على الرجال مثل حق التعليم العالي ، وحق الانتخاب ، والعديد من الحقوق المالية والأسرية ، وأشركوا كذلك في واجب التجنيد ، وكانت النساء على قدر ما أعطي لهن فتقدمن صفوف الدراسة ، و منابر السياسة ، وصارت منهن الطبيبات ، والأكاديميات ، و عضوات مجالس الإدارات ، والسياسيات والوزيرات ، وغير ذلك ، ولكن علامات الثقافات الذكورية لم تختفي من هذه الدول بعد ، فالمتتبع لبرامج التلفزيونات الغربية ، والأفلام ، ومواقع الجنس على الإنترنت يذهل لذلك الحجم الكبير من المواد الجنسية والمثيرة الموجهة للرجال {male-oriented} بشكل يجعل من المرأة مجرد جسم للمتعة ، متعة الرجل لا متعة المرأة ، والمتتبع للدراسات الإحصائية يذهل كذلك لأن نسبة ضرب الزوجات والصديقات في بعض المجتمعات الغربية مرتفعة إلى حد ما ، وكذا معدلات الاغتصاب الأسري غير أن ذلك ليس بسبب تدهور وضع النساء في القيم الثقافية الغربية ، ولا ضعف ما يوفره القانون هناك من حماية للنساء ، ولكن يبدو أن هذه المجتمعات تعاني من عكس ما تعاني منه مجتمعاتنا ، فبينما نلاحظ في مجتمعاتنا أن ما يتحقق لكثير من النساء من احترام يفوق بكثير ذلك الكم من تقدير النساء المتوفر في القيم الاجتماعية التي يحيين في ظلها ، فإن بعض النساء في الغرب لا يتاح لهن الاستفادة الكاملة مما تتضمنه القيم الاجتماعية الغربية من مفاهيم المساواة واحترام النساء.

حرية المرأة في البلدان العربية....مصر نموذجا:
في المجتمعات العربية بدأت فكرة حرية المرأة كجزء من التبشير بالثقافة الغربية مع الثلث الثاني من القرن التاسع عشر تقريبا في كل من مصر ، والشام ، ولاحقا في مجتمعات عربية أخرى ، وربما كان أول نص يبشر بالثقافة الغربية هو كتاب "رفاعة الطهطاوي"" تخليص الإبريز" ورغم أن هذا الكتاب لا يتحدث كاتبه في أي من فقراته بالدعوة إلى خروج المرأة أو سفورها إلا أن حديثه الذي لا يخلو من الإعجاب بالمرأة الفرنسية الحرة السافرة يتضمن تعريضا مثل هذه الدعوة من خلال آلية الصمت المتواطئ ، فيقول:
"النساء الفرنساويات بارعات الجمال و اللطافة ، حسان المسايرة والملاطفة ، يتبرجن دائما لزينة ، ويختلطن مع الرجال في المتنزهات ، وربما حدث التعارف بينهن وبين بعض الرجال "
"وملابس النساء ببلاد الفرنسيين لطيفة بها نوع من الخلاعة .... ومن عوائدهن أن يحتزمن بحزام رفيع فوق أثوابهن حتى يظهر الخصر نحيفا ، ويبرز الردف كثيفا....... "
لكن الصمت المتواطئ بدأ يتحول إلى فعل مع قدوم الخديوي إسماعيل إلى السلطة ومعه حلمه بتحويل مصر إلى قطعة من أوروبا ، ورغم أن مشروع إسماعيل كان ممتلئا بالتناقضات ، و مفهومه للحداثة كان سذاجا وملتبسا للغاية ، وتغلب عليه النزعة الدعائية والسطحية إلا أنه {وربما لذلك} كان حريصا على إنشاء أول مدرسة للإناث وهي المدرسة السنية ، ولا شك أن هذه كانت خطوة كبيرة ، وإن كانت محدودة للغاية غير أنها كانت بمثابة القطرة التي تسبق الغيث ، ولعل أشهر قطرات الغيث كان كتاب المرأة الجديدة لقاسم أمين ، ورغم شهرة ذلك الكتاب إلا أن تأثيره في دفع حركة المساواة ربما كان أقل مما يعتقد ، فقد كتبه أمين والذي لم يكن زعيما جماهيريا أو قائدا سياسيا باللغة الفرنسية لجمهور نخبوي ممن يقرؤون بهذه اللغة وفيه طالب للمرأة بالتعليم الابتدائي ، وجادل بعدم شرعية النقاب ، وطالب بإلغاء الحريم من البيوت ، وأخذ يدلل على فائدة ما طالب به للرجال والبيوت والمجتمعات ، غير أن ما هو أهم من النصوص التي كتبت كان التغير الاجتماعي الذي طرأ بتزايد الأجانب في مصر خاصة بالقاهرة والإسكندرية و الإسماعيلية ، وانفتاح بعض الطبقات المصرية على الغرب إذ خالطوا الأجانب الوافدين ، وأدخلوا أبناءهم مدارس الإرساليات ، وأرسلت بعض الأسر من الأرستقراطية ، والبرجوازية المصرية أبناءها إلى أوروبا للدراسة ، وهو اتجاه دعمته الحكومة منذ عهد "محمد علي" ، وقد نتج عن كل ذلك أن تأثرت أجيال من المصريين في الطبقات الغنية بالثقافة الأوروبية والفرنسية بالذات ، وكان ينظر إليها باعتبارها الأقوى والأجدر بالإتباع ، فانتشر تعلم اللغات الأجنبية وانتشرت الملابس الإفرنجية بين رجال ونساء هذه الطبقات على السواء ، كما انتشرت الأنماط الغربية في هندسة البيوت والعلاقات الاجتماعية فاندثر الحريم ، وبدأت تظهر الأندية غربية الطراز ، والصالونات ، وما يتبع ذلك من تعارف الرجال والنساء ، وتزامن ذلك مع خلع الحجاب على استحياء في البداية ، ثم ما لبثت الظاهرة أن انفجرت ، وربما كان الإعلان الرسمي عن سقوط الحجاب كمظهر ضروري من مظاهر المرأة المحترمة عندما خرجت مظاهرة النساء الشهيرة بقيادة الزعيمة النسائية الأشهر "هدى هانم شعراوي" تأييدا لسعد زغلول ، وقد نزعن حجبهن وكشفن عن وجوههن ، ورؤوسهن في ميدان الإسماعيلية "الذي أصبح بعد هذه الواقعة ميدان التحرير" ، وربما كان معظم الشعب المصري ينظر لهذه الأحداث نظرة الريبة غير أن ما توفر لأبناء هذه الطبقات المتعلمة المتحررة من امتلاك للسلطة {على الرغم من انطلاق الفترة الديموقراطية من تاريخ مصر بعد ثورة 1919} بسبب سيطرتها شبه الكاملة على الثروة قد مكن أبناءها من أن يجعلوا سلوكهم الاجتماعي مقبولا ، بل وينظر إليه باعتباره سلوكا رفيعا{ وغني عن التوضيح أن من يملك السلطة والثروة فقد صار بمقدوره أن يحدد خريطة القيم} ، و بدأت النساء تستفيد أكثر من فسحة الحرية التي أصبحت متاحة فدخلن إلى الجامعة ، وبدأن بالالتحاق بالأعمال بداية من التعليم والطب ونحوه ثم تدريجيا في أعمال أخرى غير أن ذلك السلوك المتحرر المستحدث لم يوازيه تغير مشابه في القيم التي تتحكم في عقول معظم المصريين والمصريات ، حتى بين الطبقات التي قادت التحرر السلوكي ، فقد ظل نمط القيم الذكوري قائما كأساس سائد للتفكير عند المصريين من كافة الطبقات ، مما جعل ما تحقق للمرأة من مكتسبات دائما في مهب الريح ، فغالبا ما ينظر للمرأة على أنها قد أخذت أكثر مما تستحق ، وأن المجتمع كان سيصبح أفضل لو ظلت المرأة مخفية ، ولعل تأثير القيم المعادية للمرأة يتجلى كأبرز ما يكون في قوانين الأسرة باعتبارها المجال الذي تعبر فيه القيم الذكورية عن نفسها كأفضل ما يكون ، ونلاحظ أن القارئ لتلك القوانين قي مصر سيلاحظ مدى التمييز الذي تمارسه ضد المرأة ، ولكن ذلك لا يعني أن معظم الزوجات يعاملن بشكل سيء في مصر ولكنه يعني أن القانون لا يوفر درجة حماية كافية للمرأة في حال معاملتها بشكل سيئ ، وربما يعود ذلك التباين بين النظام القيمي ، وبين مظاهر تحرر المرأة في المجتمع المصري كما في سائر المجتمعات العربية إلى أن هذه المظاهر قد نقلت من التجربة الغربية في إطار تجربة تحديث لم تكن تعي ضرورة التوافق بين لب الحداثة الفكري و القيمي ، وبين مظاهرها متصورة أن ارتداء ثوب شخص ما يجعل المرء يتحول تلقائيا إلى صورة منه ، بينما هو لا يتحول إلا إلى ممثل تافه وربما مهرج لا يثير إلا السخرية والضحك ، فبداية من تجربة إسماعيل {الذي تصور التحديث بناء حدائق وإنشاء شوارع وجسور وميادين ، ودار أوبرا و اتضح بعد ذلك أن تجربته لم تكن سوى نموذج قياسي للتخريب} تتجلى مظاهر فشل حداثتنا العربية أو رثاثتها إذا استخدمنا مصطلح "برهان غليون" ، فقد غاب عن بال إسماعيل أن الحداثة الأوروبية التي كان يحلم بها كانت موجهة أصلا لصالح المواطن {الإنسان العادي} بينما حداثة إسماعيل الرثة كانت قائمة على استغلال المواطن عبر وسائل الديكتاتورية السياسية و السخرة والأجور شبه المعدومة ، وغير ذلك . إن من شأن التجربة الإسماعيلية أن تنتج في أفضل الأحوال نظاما بغداديا {نسبة إلى بغداد في العصر العباسي} حيث تحتشد القصور والبضائع والإماء و مجالس الشعراء ، والفقراء والعبيد والشحاذين كذلك ، وفي أسوأ الأحوال {عندما لا تكفي الموارد لمواجهة الهوس الاستهلاكي والدعائي للطاغية وحاشيته} فهي لا تنتج إلا خرابا اقتصاديا ، وتدخلا دوليا ، واحتلالا عسكريا، ومنذ تجربة إسماعيل وكل مظاهر الحداثة تستورد استيرادا ، وتفرضها النخب الحاكمة فرضا دون بذل أي جهد يذكر في ترسيخ قيم الحداثة ممثلة في الديموقراطية ، والحرية ، والمساواة ، والمواطنة ، والعدالة ، والمنهج العلمي في التفكير، والإدارة الخلاقة، وكما ساد التصور بأن التقدم الاقتصادي قادم بشراء المزيد من قطع الحديد دون الحاجة لتغيير تفكيرنا الذي يعود لما فبل العصر الحديدي ، فقد ساد الاعتقاد بأن حرية المرأة تعني فحسب الشعر المكشوف والوجه السافر و التنانير فوق الركبة ، وإدخال المرأة ضمن قطيع المتعلمين الجهال ، و البطالة المقنعة في أروقة الدواوين الحكومية ، ولم يلحظ دعاتها أن إدخال نمط ثقافي جديد يتطلب كفاحا من نوع خاص ، ففي بلادنا لم يكن تحرير المرأة وليد ظرف اقتصادي طبيعي {بحاجة سوق العمل لمزيد من العمالة } ، فدائما كان اقتصادنا المتدهور يعاني من فائض في العمالة ، ولم يحدث أن انهارت المؤسسة الدينية القائمة بما يرتبط بها من قيم ، فلا تزال حتى يومنا صاحبة الكلمة العليا في توجيه عقول الناس ، ولم يكن هناك ما يدعم حرية المرأة من انتشار لأفكار المساواة و الحرية ، فلا تزال الكلمتان كطائرين مهاجرين يتربص بهما الصيادون ، بل لعل الكثيرين ممن تحمسوا لحرية المرأة لم يلتفتوا أصلا لمساءلة قيمنا الاجتماعية الذكورية ، فقاسم أمين يدافع عن فكرة السفور وتعليم المرأة بأن ذلك سيكون أصلح للرجل وليس بأن ذلك حق طبيعي للمرأة، فالمرأة المتعلمة من وجه نظره ستكون أكثر فهما لزوجها ، و أرق في معاشرته ، وأكثر قدرة على إدارة شئون بيتها من تلك الجاهلة ، بينما انطلق البعض الآخر يهاجم المجتمع وتقاليده البالية الرجعية المتخلفة وترى أحدهم {ذكرا كان أو أنثى} وقد لبس لباس النبوءة ووقف يدين مجتمعه وقيمه ناظرا نظرة الاشمئزاز متجاهلا دور التقاليد في بنية أي مجتمع ، وغير واع إلى أن الوعي الجمعي للشعوب العربية ليس في طور النقد الذاتي ، ولا قريبا منه وبالتالي فإن ذلك الصراخ المتعالي لن يؤدي إلا إلى اكتساب الأعداء والإساءة لما يدعو إليه ثم لا يبقى له في النهاية إلا أن يترجل عن فرسه ويتساءل في يأس عن جدوى الكتابة. إن معظم ما تحقق في مجال ظهور المرأة في المجتمع قد تم من قبيل التقليد واستيراد المظاهر الغربية ، ولذلك فلا عجب عندما نلاحظ أن أي مكتسب للمرأة في هذا المجال قابل دوما للتراجع وبسهولة سواء من خلال إجبار المجتمع لها على التراجع ، أو من خلال الاختيار الشخصي، فالقيم الذكورية ساكنة في عقل كل أفراد المجتمع برجاله ونسائه.
وقد يثار تساؤل عن دور الدين والإسلام بالذات في الوقوف بوجه ظهور النساء ، ولكنني أعتقد أن النصوص الدينية الإسلامية ليست جزءا من هذا الصراع برغم مئات الفتاوى الدينية حول قرار المرأة في البيوت ، وتحريم الاختلاط ، و الحجاب ونحو ذلك ، فأنا على يقين بأن النص الديني الإسلامي كان ومنذ العقود الأولى بعد النبي{ص} خاضعا دائما للاستغلال من أجل تثبيت أو تغيير الأوضاع بما يتناسب مع مصالح قوى اجتماعية أو سياسية مختلفة ، وربما استخدم نفس النص لمصلحة قوتين متنافستين من خلال إمكانيات التأويل المختلفة ، وليس معنى ذلك أن يتم تجاهل البحث المنهجي عن موقف للإسلام من قضية ظهور المرأة أو إخفائها، بل إن ذلك يعتبر ضرورة للكشف عن زيف الأفكار الدينية السائدة والمستغلة لدعم سيادة القيم الذكورية باعتبارها القيم التي يتبناها الله عز وجل ، ولا شك أن ذلك سيؤدي لتوجيه ضربة قوية لتلك القيم ، ويكون تمهيدا لترسيخ القيم الإنسانية التي تعلي من شأن الإنسان من حيث كونه إنسانا دون التركيز على التمييزات و التفضيلات البيولوجية .