الإسلام والحريم



أحمد عدلي أحمد
2004 / 9 / 11

يوجد اعتقاد شائع بين المسلمين وغيرهم بأن الإسلام يدعو إلى إخفاء النساء بدرجة أو أخرى ، فهناك من يعتقد بأن الأصل للمرأة أن تقر في بيتها ، وأن خروجها استثنائي للضرورة ، وهي عندما تخرج فيجب أن تلبس زيا يغطيها بالكامل بحيث لا يظهر منها شيء ، ويجب ألا تختلط بالرجال ، وألا تتحادث معهم فصوتها عورة ، وهناك من يعتقد بمقدار دون ذلك من الخفاء ، فلا ينبغي لها أن تعمل في أعمال معينة ، وينبغي إذا خرجت أن تلبس ما يسمى بالحجاب الشرعي ، وأن تكتفي في علاقتها مع الرجال بالحديث الضروري دون استطراد ، أو مجاملة ، أو فضل حوار ، أو حتى سلام باليد ، والمرأة في الفكر الديني السائد غير كاملة الأهلية فشهادتها تعدل شهادة نصف رجل ، ولا ينبغي أن تتزوج إلا بولي ، ولا يجب أن تتقلد مناصب حيوية مثل الوزارات السيادية ، والرئاسة ، والقضاء ، كما يجب ألا تتقدم لإمامة صلاة أو لخطبة جمعة ،و إذا قتلت فديتها نصف دية الرجل.
إن هذا الفكر السائد يستند كما بقول المؤمنون به على ظاهر الكتاب والسنة الذي ينبغي العمل به مالم يقم الدليل على تخصيصه ، والأدلة النقلية التي يعتمدون عليها أشهر من أن تذكر فهناك آية الحجاب ، وآية القرار في المنزل ، وآية الدين ، وآية القصاص ، وآية "الرجال قوامون على النساء" وحديث "إني لا أصافح النساء" ، و" لئن يطعن أحدكم بمخيط في رأسه...." ، وحديث أسماء فيما يبدو من المرأة إذا بلغت المحيض ، وحديث "خاب قوم...." ، وحديث "أخروهن حيث أخرهن الله " ، و "حديث صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في المسجد " ، وربما آيات وأحاديث أخرى أقل دلالة يؤكد بها الأئمة مقالاتهم ، ولا شك أنها أقوال مقنعة إذا سلمنا بصحة المنهج المتبع ، وهو وجوب العمل الأبدي بالنصوص على دلالتها الأصلية مالم يوجد دليل على نسخها، أو تخصيصها مما يعني بالضرورة إهدار السياق التاريخي وذلك بتصور أن القرآن نص قانوني شرع للناس في كافة المجتمعات ، والأزمان وأنصار ذلك المفهوم وهم الغالبية يستندون إلى سلطة السلف الذين اعتمدوا هذا المنهج اللاتاريخي ، كما ينتقدون المناهج التاريخية باعتبارها تدميرا للدين الإسلامي عندما يضع نصوصه في متحف التاريخ مبعدا إياه عن المشاكل المعاصرة ، وتحت وطأة الخضوع لسلطة السلف ولشهرة أسمائهم ، ومع الخوف من ضياع الإسلام ، ومع هاجس المؤامرة ضده يسقط منطق الأقلية دون الالتفات إلى أدلته ، والحقيقة أنه لا يوجد سبب عقلي أو شرعي لافتراض أن منهج القدماء هو الأكثر صوابا إلا المبالغة في احترامهم ، و يعتبر احترام القدماء من الصحابة ، ومؤسسي المذاهب الإسلامية المختلفة لدرجة تقديس مناهجهم وعدم الاقتراب لها بالنقد مما يشترك فيه المسلمون مع غيرهم من أصحاب الديانات الكتابية ، وربما سبقهم في ذلك المسيحيون الأرثوذكس والكاثوليك في تمجيد آباء الكنيسة الأول ، لكن هذا الاحترام الواجب تضمن دوما اعتناقا تلقائيا لمبادئ القدماء ، وطرائقهم في التفكير ، ونتائج هذا التفكير حتى أصبح استحداث قول لم يسبق إليه مما يقبح ، ويبرر ذلك تصور أن هؤلاء القدماء باقترابهم من الفترة الزمنية للوحي هم الأكثر قدرة على التوصل للفهم الحقيقي للرسالة ، وهو منطق متهافت لأنه إذا كان للقدماء فضل الاقتراب الزمني فقد أصبح لدينا من وسائل التحليل اللغوي ، ومن الفهم لطبيعة النصوص الأدبية ، ومن المعارف المختلفة المتعلقة بوسائل تحليل النص ، والكشف عن بنيته السطحية والعميقة ما يجعلنا الأقدر على إنجاز اقتراب أكثر للحقيقة علما بأن الكتب قد حفظت لنا من الأحداث التاريخية حول فترة البعثة والرسالة ما يمكننا من المعايشة الذهنية لهذه الفترة واستيعابها ، والأهم من ذلك هو أن تصور أن القدماء كانوا الأكثر حصانة من الإنحيازات الناتجة عن تأثير تباعد التاريخ هو محض وهم ، فمعظم الإنتاج الفقهي ، والأصولي القديم قد أنجز ابتداء من القرن الثاني وحتى القرن الرابع للهجرة ، وقد شهد المجتمع المسلم قبل وأثناء هذه الفترة الزمنية تغيرات اقتصادية/سياسية/اجتماعية عنيفة تركت آثارها في كل الفكر الديني ، والسياسي ، والفلسفي لهذه المرحلة بحيث أصبحت النظريات الفقهية والكلامية والأصولية المختلفة لا تمثل إلا استجابات مختلفة لهذه التغيرات حتى لو ادعت تعبيرها عن الحقيقة المستقاة من النصوص التي أصبحت تقول الشيء وعكسه تماما ، بل إن المتتبع للآليات المنهجية التي أنتجها العقل العربي /المسلم في محاولته استخراج الدلالة من النصوص الدينية مثل النسخ ، و الترجيح ، والجمع ، والبناء .....الخ لا يخفى عليه تأثرها الشديد بمبادئ المنطق اليوناني وخاصة المنطق الأرسطي حيث استفاد المتكلمون و الأصوليون بفكرة التقابلات عند أرسطو ، وما ينتج عنها من علاقات التناقض والتضاد والتداخل في الإثبات والنفي وعلاقة شبه التضاد ، ثم مبدأ الثالث المرفوع الذي يؤدي إلى منطق إما وإما الذي استخدم لإثبات وجود الله ، وفي الصراع حول الصفات ، بينما طبق مبدأ التداخل تحت مسمى العموم والخصوص كما استفاد الأصوليون من تجل آخر لفلسفة أرسطو وهو مبدأ الشوب أو الإضافة الذي وظف في تقنية الجمع ، وذلك مع التأكيد على افتراق كل من المتكلمين والفقهاء مع الفلاسفة في رؤيتهم لله وللعالم ، ذلك أن الاتفاق بينهم هو اتفاق في الإجراءات المنهجية لا اتفاق في المقدمات والنتائج ، ومع التأكيد أيضا أن بعض الصحابة والتابعين قد استخدموا النسخ أو الجمع في محاولة تفسير المتعارض من الآيات والأحاديث ولكن التطوير النهائي لهذه الآليات كما ورد في المراجع الأصولية كان مرتبطا بالتأكيد بتأثير فلسفة المشائين ، وقد أثبتنا ذلك تأكيدا على أن توسل المناهج الأجنبية من أجل فهم المقدس ليس بدعة استحدثها بعض هراطقة اليوم ، وللتأكيد أيضا على أن ما توصل إليه القدماء من نتائج على مستوى العقيدة أو الشريعة لم يستق من المقدس تلقائيا بل هو نتيجة عملية عقلية بشرية ، وهو ما يجعل نتائجها لا يمكن أن تنسب إلى المقدس ولا تتكافأ معه ، وكما تأثر المفكرون المسلمون القدماء بالمناهج الهلينية السائدة في ذلك الوقت ، فإن تأثرهم بالواقع السياسي/ الاجتماعي كان أشد أثرا على فكرهم ، ويمكننا أن نلاحظ ذلك عند مناقشة آراء القدماء من خروج المرأة واشتراكها في المجالات العامة ، وإذا كان المبرر الشائع للخوف من خروج المرأة هو الخوف من الفتنة الجنسية للنساء ، فإن تحليل الموقف التاريخي الذي بدأت فيه هذه الآراء في الظهور يكشف لنا أن فتنة النساء الحقيقية التي اختبرها المسلمون كانت فتنة الدم لا فتنة الماء ، تلك الفتنة التي فجرتها السيدة عائشة بعد تدخلها في الصراع السياسي بين علي وخصومه ، ذلك التدخل الذي تسبب في مأساة دموية عنيفة سالت فيها دماء ما بين عشرة آلاف إلى عشرين ألف رجل مسلم في صبيحة نهار واحد هو نهار الواقعة المشئومة المسماة بمعركة الجمل ، وتفاصيل تلك الواقعة المحزنة باختصار تعود إلى يوم مبايعة علي للخلافة إذ رفض كل من الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله المبايعة إلا مضطرين ، وكانت عائشة يومها في مكة فبلغها ما بلغها من بيعة علي وهي في طريق عودتها إلى المدينة ، فعادت من حيث أتت وقد قالت إن انطباق السماء على الأرض أحب إليها من ولاية علي ، وكان بينها وبين علي ما بينهما ، ولما رجعت إلى مكة نصبت ستارا لها في الحجر ، وأخذت تحدث الناس ، وتحرضهم على علي ، وتدعو للثأر من قتلة عثمان ، والناس يأتون للعمرة فيستمعون إليها فتنقلب قلبوهم على أميرهم ، فهي أم المؤمنين ، والأحب للنبي {ص} من كل نسائه ، والتي مات النبي {ص} نحرها وسحرها ، وهي فوق ذلك فقيهة راسخة ، ومحدثة حافظة ، ومتكلمة بارعة ، وبينما هي على ذلك إذ وصل إلى مكة الزبير وطلحة وقد أضمرا شرا ، وصارت مكة بذلك ملجأ لكل أعداء علي من غير أهل الشام إذ كان قد وفد إليها أيضا بعض الولاة الذين عزلهم علي رضي الله عنه ، وقد تحالف الجميع وخرجوا وفيهم عائشة إلى العراق بدعوى الثأر لمقتل عثمان ، ولما علم علي بأمرهم أسرع للحاق بهم قبل أن يثيروا حربا بها وكان همه أن يلحق القوم بالطريق فيحاججهم ، ويسلب غل صدورهم ثم يعود بهم جميعا إلى المدينة لكنهم وصلوا العراق قبل أن يدخله علي وجيشه ، وطردوا أحد ولاة علي بعد أن حلقوا لحيته وأهانوه ، ولما تراءى الجمعان وقع القتال الأول الذي انتهى بقتل الزبير بن العوام ، فتفرق الناس وعمهم الحزن لمقتل أحد كبار الصحابة الذين مات النبي {ص} وهو عنهم راض ، ولكن عائشة لم تكتف بما جرى ، فخرجت إلى ميدان القتال في هودجها تحفز الناس ، وتدعوهم لمواصلة القتال ، فهم قوم من جيش علي نحو الهودج المحمول على جمله ، وانطلقت جماعة عائشة لتحميها ، فاشتد القتال حول الهودج ، ونترك وصف ذلك المشهد لطه حسين من كتابه "الفتنة الكبرى":
" واقتتل الفريقان قتالا شديدا منكرا ،يريد أصحاب علي ألا يفلت منهم النصر بعد أن أحرزوه ، ويريد أصحاب عائشة أن يحموا أم المؤمنين وأن يموتوا دونها واقتتل القوم حتى كره بعضهم بعضا وحتى مل بعضهم بعضا وحتى يئس بعضهم من بعض ، ثم هي صيحات ترتفع في الجو تأتي من هنا وهناك وتدعو القوم إلى أن يطرفوا أي إلى أن يقطع بعضهم أطراف بعض وهم يقبلون على هذا النكر من الأمر ..... ولا يكاد أحدهم تقطع يده رجله أو حتى يستقتل إلى أن يقتل . وقد كاد أصحاب عائشة أن ينهزموا ، ولكن الجمل قائم لا يريم ، وعليه هودجه لا يضطرب ، وفي الهودج أم المؤمنين تحرض الناس فتردهم إلى الحماسة والجرأة بعد الخوف والفرق ، وهم يثبتون حول الجمل ،وراجزهم يرتجز:
يا أمنا عائش لا تراعي كل بنيك بطل المصاع
وهي تتحدث إلى من عن يمينها محرضة وإلى من عن شمالها محمسة ، وإلى من أمامها مذكرة ،وأصحاب علي يلحون على هؤلاء المستقتلين وصاحبهم يرتجز :
يا أمنا أعق أم نعلم والأم تغذو ولدها وترحم
أما ترين كم شجاع يكلم و تختلى منه يد ومعصم
وما يزال أولئك يستقتلون وهؤلاء يشتدون عليهم حتى كان لا يأخذ بخطام الجمل أحد إلا قتل من دونه . وقد رأى علي هذا القتل الذريع فراعه نكر ما رأى وصاح بأصحابه اعقروا الجمل فإن في بقائه فناء العرب فيهوي إليه رجل من أصحابه بالسيف فيعقره ، ويخر الجمل على جنبه وله عجيج منكر وهنالك ، وهنالك فحسب يتفرق حماة الجمل كما ينتشر الجراد"
ثم يستطرد طه حسين:
" ورأى المسلمون يوما لم يروا مثله شناعة ولا بشاعة ولا نكرا سل المسلمون فيه سيوفهم على المسلمين ، وقتل خيار المسلمين خيار المسلمين ، فقتل من هؤلاء وأولئك ثلة من جلة أصحاب النبي {ص} ومن خيرة فقهاء المسلمين وقرائهم ......وقد كثر القتلى والجرحى من أولئك وهؤلاء واختلف الرواة في إحصائهم فمنهم من بلغ بهم عشرين ألفا ومنهم من لا يتجاوز العشرة آلاف وفي هذا الإحصاء ومثله إسراف لكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن كثيرا جدا من دور البصرة والكوفة قد سكنها الحزن والثكل والحداد ......."
وعندما نتتبع ما صاغه المعاصرون للحدث والمؤرخون له حول تلك الموقعة الدموية البشعة نجدهم يجعلون خروج عائشة من بيتها ومخالفتها لأمر الله سبحانه لها بالقرار في البيت السبب الرئيسي لهذه الكارثة الدموية ، ونكتفي هنا بما ننقله مما نسب لعلي بن أبي طالب حول ذلك من إنكاره على الزبير وطلحة إخراجهما لحريم رسول الله {ص} ، كما لا نعجب إذا كان علي يرى أن النساء ناقصات عقل فيقول في خطبة له بعد الجمل "معاشر الناس إن النساء نواقص الإيمان نواقص الحظوظ نواقص العقول" ودعوة علي بن أبي طالب لإخفاء النساء وتجاهل آرائهن منتثرة في الكتاب الذي يجمع ما ينسب إليه من أقوال وهو" نهج البلاغة" ، وهو مرجع ديني ثان بعد القرآن عند الشيعة ، ويبدو أنه قدر لعلي أن يكون أشد أعدائه عليه من النساء ، فقد كان مصرعه بتحريض من امرأة ، و من الضروري هنا أن أنوه بأن الفتنة الكبرى لم تكن حدثا عابرا في تاريخ المسلمين ولم بنظر لها أبدا باعتبارها تاريخا ماضيا ، فقد كانت هذه الأحداث بداية لنهر طويل من الدم سال على طول التاريخ الإسلامي ، فقد تفرق المسلمون بعدها أشياعا يضرب بعضهم رؤوس بعض ، ولا تزال الصراعات التي تنفجر أحيانا بين الشيعة والسنة حتى اليوم تذكرنا بتلك اللحظة التاريخية المشئومة التي ابتدأ فيها تاريخ الإسلام السياسي يستحيل إلى فتن كقطع الليل المظلم لا يدرى أولها من آخرها ، ولقد كان د. عابد الجابري محقا حين شبه الفتنة الكبرى في الفكر الإسلامي بالخطيئة الأصلية في الفكر المسيحي ، فبينما يسعى المسيحي أبدا للخلاص من الخطيئة التي هي قدره منذ سقوط آدم فيها، فإن المفكر المسلم كان يسعى دائما للهروب من الفتنة التي تبدو كقدر جاثم على صدر الأمة الإسلامية منذ سقوط الجيل الأول من المسلمين فبها ، وكان الحرص على إخفاء النساء في البيوت في جانب رئيسي منه جزءا من هذا الطريق المرسوم للهروب من الفتنة، ولكن إذا كان لعلي {كرم الله وجهه} ذلك الرأي القاسي في عائشة و في بنات جنسها ، وهو رأي لا يخلو من تأثير العداوة الشخصية إلا أن ثلة أخرى من كبار الصحابة وعلى رأسهم الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وعائشة بالطبع كانوا يرون أمرا آخر ، والدليل أنهم قد قدموا عائشة ، وأخرجوها ، وحاربوا وماتوا من أجلها ،و رضوا بأن يكونوا جند المرأة على حد وصف علي نفسه لهم ، والحقيقة أن خروج عائشة واشتراكها في الحياة العامة لم يكن مفاجئا ، بل يرجع إلى اللحظة الأولى لوفاة النبي {ص} بدليل عدد روايات الحديث التي رويت عنها والتي روى كثير منها رجال ليسوا من محارمها ، وبدليل عدد الفتاوى التي نقلت عنها ، وعدد الأحداث العامة التي أدلت فيها برأي ، وخلافاتها الفقهية مع عدد من كبار الصحابة ، وتشكيكها في دقة بعض روايات أبي هريرة عن النبي {ص} شائع للغاية ، وهذا يدلل أن السيدة عائشة لم تكن ترى أن آية الحجاب"وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب" و آية القرار دليل على ضرورة اعتزال نساء النبي {ص} للحياة العامة ، وقد التزمت عائشة دوما بمنطوق الآية الأولى فلم تكن تكشف الحجاب ، ولكنها كانت دائما تقابل الناس وتتحدث إليهم من ورائه ، وقد سبق أن أشرنا أنها كانت تقيم في مكة في ستر في حجر إسماعيل تحرض الناس من خلاله على طلب دم عثمان ، وقبل ذلك فقد كانت من أشد من هاجم عثمان نفسه و قد أنكرت عليه من الأمور ما أنكرت ، ولم تكن ترى أن القرار في البيت يعني عدم الخروج لإحقاق ما تراه حقا وإبطال ما تراه باطلا ، وأداء ما تتصور أنه واجبها نحو أبنائها ، ولم يرو عن أحد من الصحابة بما فيهم علي استنكارا لميل عائشة للتدخل في الحياة العامة قبل أن تتورط في مأساة الجمل هذه ، والحقيقة أن إدلاء نساء النبي بدلوهن في أمور الدين والدنيا لم يكن قاصرا على عائشة ، بل امتد إلى الكثير منهن و بالتحديد أم سلمة ، وقد كانت حفصة هي المؤتمنة على النسخة المعتمدة رسميا من القرآن الكريم منذ أن جمعها زيد بن ثابت في عهد أبي بكر الصديق، ولكن لشيء في طبيعة عائشة ، ولسعة علمها بالدين ، وطول صحبتها للنبي {ص} ، وحفظها لأحاديثه ولأشعار العرب وأمثالهم ، ولفصاحة لسانها ورجاحة عقلها ، فقد كانت الأبرز من بين جميع نساء النبي {ص} فكان ما تفتي به من أمور الدين يقف على قدم المساواة مع ما يفتي به كبار السابقين الأولين للإسلام كعمر بن الخطاب و علي بن أبي طالب ، وكان ما تقوله في أمور الحكم والخلافة كافيا لأن يجعل الأرض تميد من تحت أقدام أمير جليل كعثمان تمتد جيوشه من إفريقية إلى خرسان ، ولولا ما كان لها من شعبية سياسية بين المسلمين لما تصور أن يتجمع حولها الرجال هكذا ، ومن الواضح لكل من يقرأ التاريخ أن الزبير وطلحة ما كانا بقادرين على جمع ربع ما جمعوا من الرجال لولا عائشة ، لكن ما جمعت انقلب نكالا عليها وعلى المسلمين ، لتنضم عائشة ربما بدون قصد منها لسلسة من النساء الدمويات التي تقول المرويات العربية أنهن كن السبب في الكثير من الحروب الهائلة التي عصفت ببلاد العرب في الجاهلية وربما كان أشهرهن هي البسوس التي قيل أنها فجرت الحرب الرهيبة المسماة باسمها بين قبيلتي "تغلب" و"بكر" من قبائل شرق الجزيرة العربية ، والتي استمرت أربعين عاما ، والواقع أن الدم الذي أريق حول النساء كان كثيرا جدا في تاريخ المنطقة القديم والحديث بسبب فكرة الدفاع عن الشرف المتغلغلة في أعماق كل عربي ، والحقيقة أن السيدة عائشة وبغريزة امرأة ذكية قد حاولت استغلال حاسة الدفاع عن الأم المتضخمة في الثقافة من أجل جمع الرجال حولها ، وهو ما حدث ، لكن السيدة عائشة مع ذلك لم تكن تتصور أن يصير الأمر إلى ما صار إليه وأن يتحول الميدان إلى مجزرة فظيعة على هذا النحو ، و ظلت ما بقي من عمرها تعبر عن ندمها لخروجها في ذلك اليوم المشئوم ، ولعدم رجوعها عندما نبحتها كلاب الحوأب ، و ينبغي إحقاقا للحق أن نتذكر أن للفتنة أسبابا أكبر من خروج عائشة الذي لم يكن سوى فصلا من محنة قاسية لم يتورط فيها بعد عائشة سوى رجال لم يكونوا أعقل ولا أحرص على دماء المسلمين منها ، ولكن المهم في مجال بحثنا أن نشير إلى أن السيدة عائشة و سائر نساء النبي {ص}، لم يكن وحيدات في تاريخ إسهام النساء العربيات في الحياة العامة ، وتاريخ العرب يحفظ لنا أسماء بارزة ربما كان من أشهرهن أول من آمن بالنبي {ص} على الإطلاق السيدة "خديجة بنت خويلد" ، و اثنتين من عدوات النبي {ص} اللدودات ، وهن امرأة أبي لهب التي توعدها القرآن ، و"هند بنت عتبة" امرأة أبي سفيان التي نهشت من كبد "حمزة بين عبد المطلب" ، كما يحفظ لنا أن امرأة عربية أخرى قادت الجيوش ، و جمعت حولها الرجال ، وهي المتنبية الشهيرة "سجاح التغلبية" والتي دعت لنفسها أول الأمر، ثم تزوجت من الكذاب مسيلمة وتحالفت معه ، قبل أن تشهر إسلامها أخيرا بعد مقتل الكذاب باليمامة ، وبرغم أن الظاهر من المرويات أن الثقافة العربية لم تكن تقبل بتوريث النساء لأنهن لا يحملن سيفا ولا يدفعن عدوا ، وبرغم شيوع الوأد ووراثة النساء كرها إلا أن نساء استطعن أن يحققن نفوذا كبيرا إما عن طريق علاقات الزواج والبنوة التي تربطهن بكبار شيوخ القبائل {نموذج هند بنت عتبة} أو من خلال ثرائهن {نموذج السيدة خديجة} ، إلا أننا نحذر من خطأ التعميم بتصور أن فترة الجاهلية كانت فترة سعيدة للنساء اعتمادا على سير هؤلاء النساء اللائي حققن الثروة والنفوذ ، فالقراءة الدقيقة تؤكد أن هؤلاء النساء الناجحات لم يكن يشكلن القاعدة ، ولكن كن حالات شاذة {وإن تكررت} استطعن النفاذ عبر ثقوب المنظومة الاجتماعية ، تلك المنظومة المحكومة بنظام القيم الذكوري ، ذلك النظام الذي لم يكن يسيطر على العقول العربية فحسب بل كان جزءا أصيلا من أعرق الثقافات المعروفة ، ففي أثينا القديمة لم تكن الديموقراطية الإغريقية تسمح للنساء بالانتخاب ، أو الترشح للمجلس الحاكم ، كان الفكر الإغريقي ينظر للمرأة ككائن من الدرجة الثانية فطبقا لنظرية المثال للفيلسوف المقدس أفلاطون كان الرجل يمثل المثال القديم في عالم المثال ومنه انحدرت المخلوقات الأدنى مثل المرأة والحيوانات والأسماك ، وقد توارث العقل الهليني هذه الأفكار وورثها للعقل المسيحي ، فرغم أن الأناجيل توضح تعاطف المسيح مع النساء وتوضح أن النساء كن الأكثر إتباعا له ، بل إن بعض النصوص توحي بأن أتباع يسوع من النساء كن الأكثر دعما له ، فهذا "لوقا" يروي في إنجيله عن يسوع المسيح : "بعد ذلك أخذ يجول في كل مدينة وقرية واعظا ومبشرا بملكوت الله وكان يرافقه تلاميذه الإثنا عشر ، وبعض النساء اللواتي كن قد شفين من أرواح شريرة وأمراض كمريم المعروفة بالمجدلية .... و يونا زوجة خوزي وكيل هيرودس و سوسنة وغيرهن كثيرات ممن كن يساعدنه بأموالهن" ، وتروي الأناجيل أنه لما قبص على المسيح وصلب {أو رفع} فإن جميع تلاميذه أنكروا علاقتهم به إلا "مريم المجدلية" التي بكرت إلى فبره المفترض ، برغم ذلك كله إلا أن المسيحية لا تعطي للنساء أي حق في القيادة الدينية ، ففي جميع الكنائس لا يسمح للنساء بتولي أي منصب ديني ، وقد سمعت البابا شنودة يبرر ذلك بأن المسيح لو كان يسمح بذلك لكان أعطى هذه القيادة لأمه رغم أن المؤسسة الدينية المسيحية لم يؤسسها المسيح ، ولم ترو الأناجيل عنه إسناد أي دور كهنوتي لأي من أتباعه ، فالمؤسسة الدينية المسيحية طورت لاحقا متأثرة بنمط المؤسسة القيصرية الرومانية ، وورثت معها ما ورثت من القيم الذكورية الهلينية ، ويمكننا أن نتفهم ذلك التأثر إذا فهمنا أن أي دعوة لدين جديد تتضمن بالضرورة صراعا فكريا بين منهجين متعارضين ، وعندما ينتهي هذا الصراع بانتصار أحد المنهجين فهو أبدا لا يخرج من هذه المواجهة نقيا ، بل يخرج وقد تحمل ببعض تأثيرات النهج المعادي الذي يبدو أنه مات ، ولكن بعضا من روحه تبقى حية في وريثه المنتصر ، و يتضح ذلك في المسيحية كأجلى ما يكون ، فالجدال البيزنطي حول لاهوت المسيح و ناسوته تبرز فيه كل مميزات العقل الفلسفي الهليني رغم عداء الآباء المسيحيين الشديد للفلسفة ، ويمكن تفسير تأثر المنهج المنتصر بذلك المهزوم بعديد من العوامل التي تتشارك مع بعضها لإحداث ذلك منها استخدام دعاة الدين الجديد لبعض الإجراءات الفكرية لأصحاب الدين القديم في محاولة منهم لإقناع الخصوم مستخدمين نفس أسلوبهم ، ومنها أن معظم المتحولين الأوائل إلى الدين الجديد الذين يقومون بدور كبير في تأسيس التقاليد الدينية للدين الناشئ يحملون في وعيهم ولا وعيهم بقايا من الثقافة التي تربوا عليها ، هذه البقايا التي تعيد إنتاج نفسها في التفسيرات الدينية التي ينتجونها ، والتي تصبح مهمة للغاية وربما مقدسة للأجيال التالية ، إن ما سبق ينطبق على الإسلام إلى حد ما أيضا ،ويبرر جانب مهما من حرص تيار رئيس بين القدماء على إخفاء النساء ، فلقد أريد للإسلام أن يكون مؤيدا للسيادة الذكورية الموروثة من خلال اعتماد الآيات و الأحاديث التي يمكن لظاهرها أو مفهومها أن يدعم هذه السيادة كأساس ترد النصوص الأخرى المحررة للمرأة إليه حتى لو كانت هذه النصوص ضعيفة السند أو الدلالة ولا يؤخذ بمثلها في غير ذلك من الأمور ، ويمكننا أن نلاحظ ذلك في قول العديد من كبار العلماء بشرط الكفاءة في الزواج برغم ضعف أدلة السنة التي استدلوا بها لذلك الشرط تبعا لمناهجهم ، ولكن لأن الكفاءة تشكل وقاية اجتماعية تضمن للأسر الشريفة ألا يتلوث نسل بناتهن بالانتساب إلى نسب وضيع يهين الأسرة ، فقد كان ضروريا للبعض أن يتم تضمينها داخل القوانين الإسلامية للأسرة ، ولذلك كانت الكفاءة شرط للزوج فقط عندهم بما أن الزواج من نساء وضيعات الشرف ليس مما يضر وضع الأسرة الاجتماعي كثيرا ، فالأبناء سينسبون إلى آبائهم وليس إلى أمهاتهم ، ولا عزاء لصريح القرآن الذي يهدر أهمية شرف النسب و يجعل الناس سواسية لا يتفاضلون إلا بالتقوى غير أن بعض الأمهات {وإن كن وضيعات الأصل أو حتى إماء} قد استطعن الالتفاف على قيم المجتمع المتعلقة بسيادة الذكور والشرفاء ، وأوجدن لأنفسهن مكانا في صدر مجتمعاتهن {وربما كانت أشهرهن شجرة الدر المملوكية}، وهي ظاهرة لا ترجع إلى العصر المملوكي فقط ، بل وجدت في المجتمع العربي منذ القدم كما أوضحنا سابقا ، وقد وجدت أيضا في غير العرب فقد ظهرت دائما بين الهلينيات كما بين العربيات نساء استطعن تحدي هذه المنظومة القيمية مثل "كليوباترا " الملكة البطلمية الأخيرة ، ومثل "هيباتشا" الرياضية و الفيلسوفة السكندرية التي يعتبر إعدامها الوحشي على يد متطرفين مسيحيين آخر فصل في تاريخ جامعة الإسكندرية القديمة الشهيرة ، فبرغم القسوة الظاهرة للنظام الاجتماعي التقليدي وشروطه فإنه كان دائما يحتوي على ثقوب تمكن بعض أفراد الجماعات الاجتماعية المهمشة من تحقيق نجاحات استثنائية ، وغالبا كانت علاقات البنوة والأخوة و الزواج بمثابة الفجوات الرئيسية التي تمكنت النساء عبر العصور من استخدامها لدعم مكانتهن الاجتماعية ونفوذهن العائلي والسياسي ، لذلك لا تتعجب أبدا عندما تجد بلدا كبنجلاديش يمتلك أسوأ ملف في مجال اضطهاد المرأة ، والعنف ضدها ، وصاحب أعلى نسبة من جرائم الشرف والابتزاز الجنسي للنساء وتشويه وجوههن بالكيماويات الحارقة ، وقد اعتلت امرأة قمة السلطة التنفيذية فيه ، غير أن الإسلام لما جاء حاول أن يوسع هذه الثقوب داخل الثقافة الذكورية في المجتمع العربي ، فجعلها نوافذ تتنسم منها النساء نسائم الحرية ، و قد جعل الإسلام للنساء نصيبا ثابتا من الميراث بعد أن كانت تمنع من الميراث ، أو تعطى الفتات من قبيل الترضية ، ومنع استكراه النساء على النكاح ، وميراثهن ، وقد حمى أموال المرأة فلم يجعل من حق الرجل أن يأخذ من أموالها شيئا إلا برضاها بما في ذلك ما أعطاها من مهر للزواج طالما قد وقع النكاح ، ولكن هذه الحقوق تبدو منتقصة ، فلم يجعل القرآن المساواة كاملة بين الرجل والمرأة ، فهاهي المرأة لا ترث إلا نصف ما يرثه الرجل في معظم الحالات ، وها هي آية القصاص لا تساوي دماء الرجال بالنساء كما لا تساوي بين دماء الأحرار والعبيد ، وقد جعلت آية الدين شهادة المرأة تعدل نصف شهادة الرجل ، كما فضل القرآن الزوج على زوجه درجة وجعل له القوامة ، والإنفراد بالحق في الطلاق ، ومنحه الحق بضربها ، وقد دفع ذلك التفريق الصريح قدامى المفسرين و الفقهاء للفول بأن الرجل مقدم على المرأة شرعا ، وهو قول يتفق مع مذهبهم في إتباع ظاهر التنزيل والأحاديث ، واتبعهم في ذلك بعض السلفيين ، ولكن بعض العلماء المحدثين الذين أخذوا على عاتقهم مهمة تجديد الإسلام وجعله أكثر تلاؤما مع روح العصر {المحكوم بقيم الحداثة غربية النشأة، تلك القيم التي تتربع على رأسها قيمة المساواة التامة وعدم التمييز على أساس اللون ، أو الدين ، أو الجنس} لم يذهبوا هذا المذهب و حاولوا القول بأن الإسلام ساوى بين الرجل والمرأة ، وحاولوا التدليل على ذلك بما ورد من آيات تساوي بين الجنسين في الأصل والجزاء الأخروي ، ولكن لأن لكل من الذكور والنساء طبيعة خلقية مختلفة ، فقد اقتضت حكمة الله أن يفرق بينهما في بعض الأحكام بما يتناسب مع فطرة كل منهما ، وبهذا التبرير الذي يركز على الفروق البيولوجية بين الرجال والنساء ، وينظر لهما ككائنين مختلفين لا كوجهين مختلفين لعملة واحدة هي الإنسان يحاول هذا التيار الفكري إيجاد تبرير بيولوجي ساذج لكل آية تفرق بين الرجل والمرأة في الحكم ، فشهادة المرأة تعدل نصف شهادة الرجل لأن المرأة تتعرض لتغيرات بيولوجية أثناء فترة الحمل والولادة قد تسبب لها تشوشا ذهنيا لا يمكنها من ضبط الأمور بدقة {رغم أن جلنا قد عاشر نساء ولم يلحظ إصابتهن بحالات جنون وقتي أو ألزهايمر مؤقت كل شهر }، وإذا انفرد الرجل بحق الطلاق فلأن المرأة عاطفية النزعة بالفطرة سريعة الغضب والإثارة مما قد يجعلها تخرب بيتها عند أول خلاف ، بينما تجاهلوا إيجاد تبرير لآية القصاص لما ثبت عن النبي من حديث يساوي بين دماء المسلمين وقد جعله الجمهور ناسخا لهذه الآية ، فقد كفاهم القدماء إذن أمر هذه الآية ، ويكفي أن يستندوا إلى رأي الجمهور إذا ما أثيرت من قبل أحد المتشددين ، أما إذا ما أعياهم البحث عن فارق بيولوجي فهم يبحثون عن سبب اجتماعي ، شرط أن يكون من النوع الذي يتصورون أنه دائم لا يتغير من زمان لزمان ، فإذا كانت النساء ترث غالبا النصف مما يرث الرجال ، فتفسير ذلك هو حرص الله على مساعدة الرجل ماديا فهو المسئول عن الإنفاق على المنزل ، وتوفير المهر لزوجته بينما المرأة مكفية ، ولا بأس هنا من المراوغة بأن هناك بضع عشرة حالة ترث فيها المرأة مثل الرجل متجاهلين أن معظم هذه الحالات نادرة الحدوث وبعضها لا يمكن أن يقع إلا في الكتب الصفراء حيث توجد بعض الأحاجي الفقهية التي اعتاد الفقهاء أن يوردونها مثل حكم الذي نام وهو قائم في الصلاة هل يفسد وضوؤه؟ ، أو حكم الصلاة على سطح الكعبة ، ومما يدلل على البعد التبريري لذلك الخطاب أنك لو استفتيت معظم أقطابه هل تتساوى المرأة المعيلة مع الرجل من نفس درجة القرابة في الميراث لما وجدته يفتي بذلك مع أنه مما يلزم مذهبه الذي ذهب إليه في تبرير افتراق الرجال عن النساء في هذا الأمر ، كذلك فهو لا يفتي بسحب حق الطلاق من الرجال الذي يطلقون زوجاتهم المرة بعد الأخرى ، ثم يعودون مما يؤكد عشوائية قرارهم واندفاعهم رغم أن ذلك أيضا مما يلزم مذهبه ، والحق إن من أسباب تهافت ذلك الفكر الذي يسمي نفسه بالتجديدي ، ومن أسباب عدم قرته على مواجهة الفكر المتطرف هو ذلك النمط من التفكير التلفيقي وغير المتسق والمدفوع بالتبرير ومراعاة صورة الإسلام أمام الغرب وما إلى ذلك ، وهو ما يدفع بعض رموزه الشهيرة لإنتاج أراء هزيلة ، بل وهزلية ، وبكفي أن نطالع بعض ما كتبه الشيخ "محمد الغزالي" وهو من أقطاب الفكر التجديدي هذا ، فنجده يجعل للمرأة الحق بتولي القضاء ، والوزارة ، والنيابة ، والرئاسة ، لكنه وفي نقس الكتاب يجعل للرجل الحق في أن يضرب زوجته إذا لم تطع رغباته الجنسية ، و لك أن تتصور زوجا يضرب زوجته رئيسة الجمهورية بعصا رفيعة على مؤخرتها أو قدمها ضربا لا يترك أثرا { طبقا للشروط الفقهية لضرب الزوجات} لأنها لم تجبه إلى فراش الزوجية ، ولن يغفر لها بالطبع إن كانت مشغولة بأمر حرب قد تقع على بلادها ، فواجب الزوج مقدم على كل واجب إلا صلاة الفريضة وصوم رمضان ، هذا التناقض المزري في فكر الشيخ الراحل "رحمه الله" يعكس في الواقع عقلا غير مبنين يمكن أن تتعايش فيه المتناقضات التي نشأت من عدم التناسق بين منهج التفكير ونتائجه ، فالشيخ لم يستخدم منهجا تجديديا في تفسير الآيات والأحاديث المتعلقة بالنساء قاده إلى نتائج مغايرة عن النتائج التي توصل إليها من يصفهم بالمتشددين ، فالشيخ ملتزم بما درس في الأزهر من مناهج أصولية وتفسيرية لا تختلف كثيرا عن مناهج السلفيين ، التي قادتهم إلى الآراء التي يعارضها، ولكنه لا يمد الخطوط إلى نهايتها ، ولا يصل بالمقدمات إلى النتائج ، بل يراوغ عبر آليات التلفيق والإظهار والإخفاء لكي يصل إلى ما يصبو إليه من صورة الإسلام المتحرر المؤيد لقيم الحرية والمساواة كما يفهمها ، ولكنها ليست نفس القيم الحداثية ، بل صور ممسوخة مكبلة بألف "لكن" ، وفاقدة لجل ما فيها من روح و زخم.