في بلاغات النساء (2)



رضا الظاهر
2011 / 1 / 13

تأملات
في بلاغات النساء (2)

... وفي (بلاغات النساء) الكثير من الأمثلة المنيرة على قدرات النساء ومواقفهن الجريئة ... غير أن المجال لا يسمح إلا بعرض القليل على أمل أن يحفز هذا على قراءة كتاب ابن طيفور الممتع، وسواه من الكتب التي تنتصر للنساء، وبينها كتب قديمة وحديثة. ولعلنا نستطيع أن نشير، من بين الكتب الحديثة، الى كتاب (أعلام النساء) الذي ألفه المؤرخ الموسوعي السوري عمر رضا كحالة (1905 ـ 1987) ويقع في خمسة مجلدات.
ومن طريف ما يشير اليه الباحث الراحل هادي العلوي أن الخوارج ينفردون بكثرة النساء في صفوفهن. وكن يباشرن القتال ويقعن في الأسر. وكان زياد وإبنه عبيد الله والحجاج يقتلون الأسيرات الخارجيات على خلاف التقاليد العربية التي تمنع قتل المرأة لأي سبب. وقد أظهرن من البطولة في ساعة القتل ما يثير العجب إذا صدر من الرجال. ولم يردنا الكثير من أسمائهن سوى أم حكيم زوجة قطَري بن الفُجاءة، وغزالة زوجة شبيب بن يزيد، الذي يعد واحداً من أعظم الأبطال الذين أنجبهم تاريخ الاسلام، وكانت غزالة في مستوى عظمته. وإليها يشير شاعر حين يعيّر الحجاج بهروبه منها:
هلاّ برزتَ الى غزالة في الوغى
أم كان قلبك في جناحي طائر ؟
وكان المؤرخون قد كشفوا عن أسماء نساء مجهولات تولين إدارة التنظيم السري للشيعة في أوائل العهد الأموي، ومنهن هند الناعطية وكان بيتها وكراً للشيعة في البصرة، وليلى المُزَنية مثلها. وكان لليلى أخ يدعى رفاعة على نهجها إلا أنه معتدل فكانت لا تحبه بسبب اعتداله.
ومن المعلوم أن علي بن أبي طالب استعان بالنساء في معركة صفين لإثارة حماس المقاتلين، فكن يخطبن أو ينشدن الأشعار الحماسية عند احتدام القتال. وكانت منهن الزرقاء بنت عدي وسودة بنت عُمارة وعِكْرِشة بنت الأطرش وبُكارة الهلالية وأم الخير بنت الحُريش البارقية والدارمية الحَجونية ...
وبعد انفراد معاوية بالخلافة التقى ببعض هاته النسوة وجرت حوارات ساخنة بينه وبينهن، وكن صريحات معه لم يلتمسن عفواً ولا تراجعن عن موقف.
ومن بين الخطب التي اشتهرت خطبة الزرقاء بنت عدي في صفين، وفيها جاء:
"يا أيها الناس إنكم في فتنة غشّتكم جلابيب الظُلَم وجارت بكم عن قصد المحجّة، فيالها من فتنة عمياء صماء يُسمع لقائلها ولا يُنظر لسائقها.
أيها الناس إن المصباح لا يضيء في الشمس، وإن الكوكب لا يقِدُ في القمر، وإن البغل لا يسبق الفرس، وإن الزِفّ لا يوازن الحجر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد.
ألا من استرشَدَنا أرشدناه، ومن استخبرنا أخبرناه: إن الحق كان يطلب ضالة فأصابها، فصبراً يا معشر المهاجرين والأنصار، فكأنما قد اندمل شِعْب الشتات والتأمت كلمة العدل وغلب الحق باطله، فلا يعجلن أحد فيقول: كيف وأنّى ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
ألا وإن خضاب النساء الحِنّاء وخضاب الرجال الدماء
والصبر خير في الأمور عواقبا
إيهاً الى الحرب قُدُماً غير ناكصين، فهذا يوم له ما بعده ..."
(والمحجة: الطريق الواضح، والزِفّ: صغار الحصى، والضالة: الحاجة المفقودة).
أما سودة بنت عُمارة بن الأسك فمن هَمْدان. وكانت همدان فصيلاً أساسياً في معسكر علي الى جانب ربيعة.. وعندما تعرضت همدان للعسف من بُشر بن أرطأة أحد عتاة القواد والأعوان في معسكر معاوية، أوفدت سودة الى معاوية لعرض الأمر عليه، وجرى بينهما الحديث الشهير الذي أظهرت فيه نفس شجاعتها في صفين مع مناورات سفيرة متمرسة. وكان لها ما أرادت من عزل بشر بن أرطاة.
ومن طريف ما يروى في (بلاغات النساء) عن دهائهن ما قالته بثينة جميل لعبد الملك بن مروان حين سألها لما دخلت عليه:
ـ ما رجا فيك جميل حين قال فيك ما قال ؟
قالت: الذي رجت منك الأمة حين ولّتك أمورها !
فما رد عليها عبد الملك بكلمة ..
* * *
في (بلاغات النساء)، مثلما في كتب أخرى تنصفهن، رائدات طليعيات قدمن أمثلة وتحدين صعاباً قل نظيرها، فأنَرْن لأجيال لاحقة دروب الحق الذي لا يوهَب بل يُنتزَع انتزاعاً.
ولنا من الأمثلة الساطعة في تاريخ النساء ما لا يحصى. فمن بلاغة تراتيل أنخيدوانا لإنانا السومرية، مروراً ببلاغة خطبة زينب بنت علي بن أبي طالب في مجلس يزيد بن معاوية، حتى بلاغة نساء الفردوس في قلب دار السلام وفي سائر مدن العراق، حيث تنمو أعشاب السخط، وتشع مصابيح التنوير، وتصدح أغاني التحدي، وتتعالى أصوات النساء وأشقائهن المتضامنين معهن في مسير يمضي الى غاياته الساميات.
اليوم تضيف الرائدات الحفيدات أمثلة جديدة الى ذلك الكنز الذي لا يفنى والمعين الذي لا ينضب، هاتكات ستر الظلام الذي يريد سَدَنة فكر التخلف فرضه على الملايين من النساء والرجال في مسعىً لتأبيد الثقافة السائدة، حصن الحفاظ على امتيازاتهم ومغانمهم.
أحرّضكن يا بنات الرافدين: أنْ تقحّمنَ الدروب، وارفعن الرايات، وفجّرن الينابيع، وأطلقن أناشيد الاحتجاج والنور والأمل ..