ارواح الشهداء سيارات تيوتا وبرازيلي ..!!



سلام كوبع العتيبي
2004 / 10 / 13

يزدحم الشارع الرئيسي بالمارة بعد نهاية الدوام الرسمي لدوائر الدولة ونهاية دوام المدارس الثانوية للبنين والبنات ومن البعض من الشباب المراهقين الذين يقفون امام وبجانب مدارس الثانوية للبنات وهم في كامل اناقتهم الجميلة من اجل مغازلة الفتيات ذات النهود النافرة التي تتراقص مع خطى الاقدام التائهة بين الزحام البشري والروحي أيام الحرب العراقية الايرانية .. خلف احدى مدارس البنات يقع متنزه صغير يستخدمه الاطفال لالعابهم المختلفة بعد ان تحول الى ملعب رياضي صغير ونصبت في اطرافه عوارض للعبة كرة القدم والجانب الاخر منه استخدم لاغراض لعبة كرة السلة والطائرة .. تتراصف على جوانب المتنزة خارج سياجه الحديدي الكثير من العربات التي يعرض عليها الباعة ما يبتاعه المارة من المقبلات والحلوى .
تنهدت رباب بعد ان مرت بجانب اربعة من الفتيان الذين تتراوح اعمارهم بين السادسة عشر والثامنة عشر كانوا يقفون في الركن الشمالي لمدرسة البنات بجانب سيارة زرقاء اللون تصدح من سماعاتها الداخلية اغنية لعبد الحليم ( فاتت جنبنا ) كانت هذه السيارة قد وزعت الحكومة العراقية السابقة منها مئات الآلاف لذوي الشهداء والمفقودين خلال الحرب العراقية الايرانية مع مبلغ من المال واراضي سكنية لا يستطيعون اصحابها ان يسكنوها بعد ان قبرهم ( ابو السعد ) في مقابر الشهداء في وادي السلام ؛ والقسم الاخر من هؤلاء مازالت اسمائهم ظمن قوائم المفقودين الذين تعفنت اجسادهم في الصحاري وفوق الجبال ؛ الامر الذي جعل ليث الاخ الاصغر لاحد الشهداء يستخدم السيارة التي كانت البديل عن روح اخيه لتصدح منها اغاني عبد الحليم اثناء مغازلته للصبايا الناهدات .. كان مرور رباب جنب الشباب الاربعة وسماع تنهداتها وهي تطيل النظر في شخص ليث يدعو الى الاهتمام والشك ؛ بعد ان تاكد ليث ورفاقه ان هذه النظرات لم تكن من باب الاعجاب او المبادرة التي يسوقها الشوق عند اول ظربة من ظربات القلب امام فاجعت الحب وانهيار كبريائه او التمني لليالي حالمة يمزقها صهيل الروح وغثيان القمر بعد ان يفقد ضوئه امام نور الاجساد المتلاحمة . حاول ان يتبعها بعد ان انتهى من ما تحاور به مع رفاقه الثلاثة .. لا تتبعها .. من الممكن انها تعيش مشكلة خاصة وهذا ما جعلها تتصرف بهذا الشكل الغريب ؛ لو كانت تقصد ما تتصوره انت لمالت براسها مرة اخرى ؛ انتظرها غدا وسوف تتاكد اكثر ؛ هذا ماقاله رفعت اليعقوبي صديق ليث ... بعد ساعتين من نهاية دوام الدوائر الرسمية ومدارس الثانويات .. كان هنالك بيان عسكري يردده التلفزيون العراقي واغاني حماسية ساذجة ينشدها رداحون السلطة بعد ان لقبوا بفيلق الانتصارات !! هؤلاء المغنين وشعرء الحروب كانوا يكتبون ما يتغزلون به لقائدهم حتى وهم في الحمامات او داخل بيوت البغاء ؛ يحلمون بسعادة الرئيس وذويه كما يحلمون بساعات ( هز الوز) بعد ان عمرت كروشهم بما لذ وطاب من خيرات البترول العراقي المنهوب والدعم الخليجي الوافر لحامي البوابة الشرقية بعد اتفاق حفر الباطن سنة 1979 بين حامي البوابه والعاهل السعودي ( منكم الرجال ومنا المال!!) سيارات مختلفت الالوان والاسماء والموديلات تتمايل في الشوارع العراقية مثلما تتمايل ارواح الشهداء بعد ان استبدلت ارواحهم باكوام الحديد ( السيارات ) وانواط الشجاعة المزيفة التي تعلق على صدور ذويهم ؛ كان ليث يعلق نوط الشجاعة داخل سيارة ( المرحوم ) يتمرجح النوط شمالا ويمينا مع نغمات الغناء الصادر من جهاز التسجيل ورقصاته وهو يقود السيارة بتراقص مخيف ( مصائب قوم عند قوم سيارة تيوتيا ) في اليوم الاخر كان ليث ينتظر رباب التي كانت شغله الشاغل ليلة امس ؛ بعد انتظار دام لاكثر من ساعة .. خرجت مع مجموعة من الفتيات تنقل خطواتها بتثاقل حزين بعد ان شاهدة ليث يتكيء على مقدمة روح اخيه التي مزقتها قنابل الحرب التي زج بها مئات السيارات من نوع تيوتيا والبرازيلي بعد ان اصبح الجندي العراقي العائد من جبهة الموت يتصور روحه بعد ايام تتحول الى سيارة اما برازيلي او تيوتتا بعد ان توقف توزيع المستوبيشي .!! وصلت رباب قرب ليث وبصقت امامه دون ان تتكلم بشيء ونقلت خطواتها مسرعة الى الجانب الاخر من الشارع الرئيسي.. جن جنون ليث ؛ لم يعرف ماذا يفعل بعد ما حصل هذا الشيء من رباب ؛ تغير لونه واحتقنت الدماء في عروق رقبته البيضاء ؛ لماذا تصرفت بهذا الشكل الغريب ؟ مالذي حصل مني حتى تتعامل معي بكل هذا الاستهتار والتدني ؟ هل يوجد شخص ما في قلبها ؟! هرول خلفها بجنون بعد ان تخلص من مقدمة احدى عربات النقل التي كانت من الممكن ان تأخذ روحه ؛ اوقفها امام احد المحلات التي كانت عامرة بالزبائن ؛ مسك في ذراعها اليمين بقوة... لماذا فعلتي هكذا؟ انت حقيرة ومغرورة وسافلة وسوف اكسر انفك ! رجفت مثل شجرة يصفعها الريح في الشتاء .. رشحت عينيها قطرات بلون المطر .. قالت : اين زهير ؟ تراجع ليث الى الخلف عندما سمع اسم زهير ؛ نزل اسم زهير على راسه مثل مطرقة تطرق الحديد ... اي زهير تقصدين ؟ ذلك زهير الذي تمتطي روحه لتغازل الفتيات من خلالها ؛ زهير اخوك ياليث الذي احبني واحببته بصدق زرقة السماء وقداسة الكون ؛ زهير الذي كنت انتظره ان يعود من جبهة الموت وعاد جثة مقطعة تستغلها انت الان من خلال هذه( الحديدة ) التي تطاردني بها ؛ انت مجرم – كافر – حقير- نذل .. تراجع الى الخلف بعد ان سمع ماسمعه من رباب .. التي خطفت ذراعها من يده بقوة واسرعت تسير الى دارها دون ان تتوقف دموعها وشريط الذكريات المسائية في المتنزه الصغير خلف المدرسه عندما كان ينتظرها من اجل اللقاء المعتاد والحديث عن الاحلام التي زرعها في قلبها مثلما زرعة في قلبه .. كانت تسافر مع ظوء الحياة من خلال بريق عينيه الى دوائر السعادة وحلم الاقتران والبيت والاطفال وكركراتهم الجميلة.. سانتظرك غدا زهير حاول تاتي قبل وقت لانه ساخرج من اجلك قبل نهاية الدوام ؛ لا تتاخر حبيبي .. لم اتاخر وسوف انتظرك هنا لانه سوف التحق بوحدتي هذه الليلة ولا بد ان اراك غدا وسوف اتحدث لابي عنك هذا اليوم كي يخطبك لي من اهلك هذا الشهر حتى نتزوج بسرعة يارباب ؛ انا احبك ؛ انا كلمت امي وهي الليلة سوف تتحدث مع ابي وبعدها سوف تكونين لي عن قريب جدا .. لم تستطيع ان توقف نزيف الدمع الذي انفجر من بركانها بشكل هستيري مع كل كلمة من كلمات زهير التي كانت تدور بها وتاخذها الى البعيد المزدحم بالاهات والارواح المتخاطفة فوق الرؤوس الحزينة...عاد ليث ليمتطي روح زهير مرة اخرى ( السيارة) ويعود مرة اخرى الى اغاني عبد الحليم الذي يرقص على انغامه نوط الشجاعة الذي كرم به ابو زهير على ضحيته التي قدمها لحارس البوابة الشرقية وحزب المخصيين... وصلت رباب منهكة الى دارهم دون ان يشعر بها احد سوى الاخت الصغرى التي مازالت لم تكمل عامها السادس ؛ دخلت الى المطبخ واحكمت اغلاق بابه من الداخل وأخذت تبلل ملابسها بالنفط واوقدت عود الثقاب لتصبح كتلة ملتهبة داخل المطبخ المغلق الابواب والنوافذ ؛ ليس هنالك من ياتي لانقاذها ؛ بعد دقائق طويلة من الصمت وصراخ رباب بداء الصراخ يعلو من داخل البيت بعد ان عجزوا عن كسر الباب .. تدخل الكثير من ابناء الجيران لغرض انقاذ رباب التي خرجت تترنح بعد ان قلع احد الشباب باب المطبخ لتقع كتلة متفحمة وسط البيت يعلو فوقها صراخ كل من كان داخل المنزل .. تحدث ليث لامه عن رباب لغرض الزواج منها دون ان يذكر لها شيئا عن علاقتها بزهير الاخ الذي اصبحت روحه سيارة لتنقلاته .. قالت له : اكمل دراستك وسوف ازوجك منها ؛ لكن ليث اصر على ان امه تذهب الى اهلها لغرض خطوبتها فقط ؛ وبعد ان ينهي دراسته يتزوجها وهذا ما اتفق عليه .. في اليوم الاخر تحدثت ام زهير مع والده واتفقا على ان تذهب الى اهلها اولا لغرض التعارف وبعدها يكون ما تتفق عليه من خلال هذه الزيارة .. في اليوم الاخر خرجت ام زهير واختها واخت زهير الكبرى لزيارة اهل رباب بعد ان دخلو جميعا داخل روح زهير لتنطلق بهم الى دار اهل حبيبته لغرض خطوبتها الى من يمتطي روحه .. لم يكن يعرف ليث اي بيت من تلك البيوت هو بيت اهل رباب .. نزل من السيارة لغرض ان يسال احد الصغار الذين كانوا يلعبون في منتصف الطريق : اين بيت رباب الح.......) ؟ رباب البنت التي انتحرت ليلة البارحة .؟ انتحرت رباب ؟ كيف !! نعم البارحة رباب انتحرت بعد ان رجعت من المدرسه .. رجع مسرعا ليدخل السيارة ويعود حيث اتى دون ان يرد على اسئلة امه ؛ سوى انتحرت وانا السبب ....