في الطوطمية السياسية وحضور الوصاية: الحقيقة والسياسة



أحمد دلباني
2011 / 3 / 16

في الطوطميَّة السياسيَّة وحضُور الوصَاية:

الحَقيقة ُوَالسِّياسة

أحمد دلباني

1


ما الغاية من وُجودِ الدّولة؟ ما الغاية من وُجود المجتمع السّياسيِّ المُنظم؟ ما مشروعيّة الحكم والسلطة؟ هذه الأسئلة – كما نعلمُ – كانت في أساس انبثاق الفكر السّياسيِّ الحديث وهو يُعيدُ تأسيسَ السلطة السياسيَّة على مشروعيّة جديدةٍ أرادَ بها تجاوزَ أفكار التفويض الإلهيّ والعلاقاتِ القائمة بين الحاكم والمحكوم في " مدينة الله ". أصبحَ العقدُ الاجتماعيُّ مُنطلقا في النظر إلى مسألةِ الشرعيّة بكلّ ما يترتبُ على ذلك من اعتباراتٍ سياسيّةٍ وقانونيّة وأخلاقيّة. لم يعُد البشرُ رعايا وإنما مُواطنين. لم يعُد هناك تراتبٌ هرميٌّ وإنما مُساواة قانونيّة. لم تعُد السلطة روحيّة وإنما شأنا مدنيّا ينبثقُ عن التعاقد بين الأفراد الأحرار من أجل حماية حقوقهم الطبيعيّة وهُم يهجُرونَ حالة الطبيعة إلى الحالة المدنيّة / السياسيّة. لقد كان هذا الفكرُ السياسيُّ الجديدُ في أوروبا تجسيدًا للحداثة الظافرة التي انتصرَ فيها العقلُ على اللاهوت وانتصرت فيها الفردانيّة على الطائفيّة.

إن تأسيسَ " مدينة الإنسان " الحديثة على أنقاض " مدينة الله " القروسطيّة تمَّ بفعل انشقاق كبير في دائرة الحقيقة الأنطولوجيّة الدينية التي لم تعُد أساسًا ناجزًا تُبنى عليه الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة. فاستقلالُ دائرة الطبيعة – شيئا فشيئا - بقوانينها عن السّماء جعلَ التفكيرَ في الحقوق الطبيعيّة المُتساوية للبشر أمرًا ممكنا. هكذا وُلدت الأرضُ ووُلدَ التاريخُ ليحُلاَّ محلَّ السماءِ الآفلة بفعل تقدُّم العقل والعلم، وبفعل التطور السوسيو- سياسيّ الذي عرفتهُ أوروبا في نهاية العُصور الوسطى. من هُنا نفهمُ ارتباط الحداثة العميق بالعلمنة مفهومة ً باعتبارها مسارًا تاريخيا جسَّد استقلال الذات والعقل والمُجتمع عن دائرة الوصاية الدينية والمنظوماتِ اللاهوتية التي احتكرت، طويلا، حقيقة العالم والأشياء من أجل تبرير هيمنةِ الفئاتِ الكهنوتيّة على الفضاء السوسيو- سياسيّ. من هُنا نفهمُ، أيضا، كيف اعتبرَ فيلسوفُ الحداثةِ الكبير الألماني كانط " الأنوار " الأوروبية في القرن الثامن عشر خروجا من الوصاية إلى طور النضج. لم يتمَّ التفكيرُ في الحداثة إلا بوصفها استقلالا وتحرُّرًا من سطوة المرجعياتِ التي لم يعُد لها مشروعيّة ٌ في زمن الرُّشد العقلي للإنسان. من الوصاية إلى الحماية: هذا هو، رُبما، المسارُ العام الذي وجَّه الفكر السياسيَّ الحديث في مسألة الدولة ووظائفها منذ اعتبرها نتاجا للتعاقد الاجتماعيِّ وأناط بها مهمَّة حماية الحقوق الإنسانية الأساسيّة كالحرية والأمن والمِلكيّة. هذا يعني أن الدولة الحديثة قامت على فلسفةٍ ابتعدت – شيئا فشيئا – عن مهام الوصاية التقليدية وعن الوظيفةِ الخلاصية التي جعلت منها في الماضي مُنقذا أو جسرًا واثقا إلى النجاةِ في الدَّار الآخرة. إذ نعلمُ أن ثمنَ ذلك كان باهظا جدًا: من الإخضاع والقمع ومُراقبةِ الضمائر إلى سطوةِ الإكليروس المَعرُوفة.

هذه هي – في اعتقادنا – الحداثة ُ السياسيّة التي عكست الانقلاباتِ المعرفيَّة والثقافية والسوسيولوجيّة التي عرفتها المجتمعاتُ الأوروبية منذ عهدِ النهضة. لقد نشأ العالمُ الجديدُ على أنقاض العالم القديم بعدَ أن احتلَّ الأنتروبوس مركز دائرةِ القيم والتشريع مكان المُقدَّس المُتعالي القديم. وهكذا تمَّ تحريرُ الحقيقة من دائرتها الدوغماتيَّة التقليدية لتصبحَ بحثا ومُغامرة ً في مفاوز المجهول البكر. لم تعُد الحقيقة استنباطا من المرجعيات والمُدوَّنات القديمة وإنما شأنا عقليًّا ينكشفُ بالبحث الحر واستقصاءِ المعنى في فضاء التجربة التاريخية للإنسان. من هُنا لم تأبه الحداثة بالدين كثيرًا واعتبرتهُ إيمانا غيرَ مُلزم ومُعتقدًا أصبحَ يشكّلُ عقبة ً أمام تماسُك المُجتمع في ظل الحُروب الدينية التي عرفتها أوروبا ومزقت أوصالها. ورُبما لم تكن العلمنة – بوصفها الوجهَ الحضاريَّ والسياسيَّ الأبرز للحداثة – إلا زحزحة ً للدين من مواقع المعرفة والتشريع والسِّياسة، لكي يُصبحَ تجربة شخصيّة في الإيمان والعلوّ والروحانيّة بعيدًا عن وجههِ المُؤسَّسي الذي ظل ينضحُ تعصُّبا وقهرًا واضطهادًا باسم عقيدة الطائفة الغالبة. كان يجبُ تحريرُ الدين من المُؤسسة، وتحريرُ " شهوة المُطلق " وإرادة الحقيقة من إرادة القوة والهيمنة التي تسكُنهَا كما بيَّن نيتشه. من هُنا تمَّ بناءُ الرّابطة السياسيّة على فكرة المُواطنة والمُساواة القانونيّة، وهُو ما تُرجمَ في الإعلان الشهير عن " حقوق الإنسان والمُواطن " مع الثورة الفرنسيّة الكبرى سنة 1789.

أعتقدُ أن ما أتيتُ على ذكرهِ الآن لا يخرجُ عمَّا نسمّيه اليوم " العيش المُشترك ". ولكن هذه الصيغة السياسيّة الحديثة هي وليدة نضالاتٍ تاريخيّة عديدة وتغيُّر في مواقع القوة في المُجتمع الذي عرف انحسارَ البنية السوسيولوجية البطريركيّة / اللاهوتيّة وبروزَ الفضاء المدنيّ والمجال السياسيّ الذي تُهيمن عليه مُؤسَّسة الدولة. هُنا يبرز أمامنا الإنجاز الأبرز للعصُور الحديثة الذي يتمثلُ في انبثاق الدولة المدنيَّة، أعني تلك المُؤسسة التي تخلت عن مهمَّة حراسةِ الحقيقة المُطلقة وطفقت تحتكرُ العنفَ الشرعيَّ وتحمي حقوقَ الإنسان. فلم تعُد الحقيقة المُطلقة شأنا سياسيا، ولم تعُد قاعدة ً إيديولوجيَّة تبرّرُ إخضاعَ البشر أو اضطهادهُم، ولم تعُد سلاحًا في يدِ الطائفة الغالبة. أصبحت الحقيقة بحثا ووَجدت في العلم التجريبيِّ الناشئ وسيلتها وأداتها الواثقة في اكتناهِ ليل الطبيعةِ والعالم. ولكنني أراني مُلزمًا هُنا بالتنبيه إلى أنهُ رُبما لم تكن المُشكلة في الدِّين بذاتهِ ولا في الحقيقةِ المُطلقة بذاتها بقدر ما كانت تكمنُ في تحويل الحقيقة الدينية إلى إيديولوجيَّة أو إلى تعبير سياسيّ عن إرادة الهيمنة والقوة ضمن صراع سوسيو- سياسيّ عرفتهُ كل المُجتمعاتُ بكل تأكيد. تكمنُ المُشكلة، بالتالي، في مأسسةِ الحقيقة وفي فرضها باعتبارها تنزيلاً أو قراءة ً وحيدة للعالم والأشياء. على الحقيقة أن تتحرَّرَ من الاستخدام السياسيّ الضيق: هذا هُو ما يُشكل جوهرَ العلمنة الإيجابية. ولا داعي للتذكير، هُنا، بالفظائع التي ارتكبت باسم الإيديولوجيات الشموليَّة والعنصرية القائمة على مُعطيات العلم التاريخي والاقتصاديّ والبيولوجيّ في القرن العشرين المُنصرم. كانت الحقيقة ُ أداة لسحق الإنسان منذ تحوَّلت إلى علمويَّة وخانت " روح الأنوار " على ما يرى تودُوروف بحق. من هُنا كان الردُّ الأخلاقيّ على انحرافاتِ العلمويّة يتمثلُ في القول إن على العقل الإنسانيّ إخضاع البحث عن الحقيقة لأهداف الرُّقيّ البشريّ والأخوة الإنسانيّة.




2

أين الدولة العربية ممَّا أتينا على ذكره؟ هل وصلنا فعلا إلى تحقيق الهدفِ في بناءِ الدولة العربية المدنيّة؟ هل خرجنا من زمن الوصايةِ السياسيّة والفكرية والعقديّة إلى زمن الكيان السياسيّ القائم على حمايةِ حقوق الإنسان وترسيخ قيم المُواطنة؟ هل نجحنا – ولو نسبيًّا – في جعل السياسةِ ميدانا مُستقلا عن الحقيقةِ المورُوثة الضاغطة سُوسيولوجيًّا والمُستغلَّة بوصفها أداة ً للشرعيّة في ظل غياب التنمية البشريّة الفعليّة ودولة القانون؟ أعتقدُ أننا ما زلنا نتأرجحُ ولم نحقق الشيءَ الكثيرَ على دربِ الانعتاق من نظام الوصاية والانقذافِ في فضاءِ الدولة المدنيَّة والمُواطنة الفعليَّة. صحيحٌ أنهُ منذ " عهدِ النهضة " وزمن الأحلام الكبيرةِ - المُرتبطة بدخول العصر وامتلاك أبجديَّاتهِ العقلية والسياسيَّة - تغيَّرَ مُعجمنا الفكريّ وانفتحَ على قيم الحرية والعلم ومفاهيم الوطن والدُّستور، وهذا في صورةِ ردِّ فعل ثقافيّ وسياسيّ قادتهُ نخبٌ آمنت بضرورةِ الخروج من وصايةِ الخلافة والسلطنة وتعاليم الماضي المؤبَّدة في مُدوناتٍ فقهيَّة فقدت صلاحيتها في عصر العلم والقوة والأنسنة. صحيحٌ أن ذلك العهد كان ليبراليا حالمًا وجميلا قبل أن تجتاحَنا الإيديولوجياتُ الشموليَّة – في صُورها القومية والاشتراكيّة – وقبل أن نسقط من جديدٍ في أحابيل الاستبداد باسم الحقيقة العلميّة التي حلت محلَّ الحقيقة الدينية وأصبحت إيديولوجيَّة تحتكرُ المعنى. صحيحٌ كلّ ذلك. ولكنَّ المُشكلة تكمنُ في أننا، إلى اليوم، ما زلنا نتعلَّقُ بالطوطم الذي لم يغب عن حياتنا الثقافية والسياسيَّة وبقيَ يُبدِّلُُ من أقنعتِه. ما زالت حياتنا بعيدة ً عن الأنسنة ولم ينكمش المُقدَّسُ التقليديّ فيها.

الطوطميَّة السياسيّة؟ أقصدُ، هُنا، ما يجعلُ من الدولة كيانا يستجيرُ بالماضي والمُقدَّس من أجل كسب الشرعية. الطوطميَّة نزوعُ احتماءٍ من سَديم الحاضر بالأب الثقافيّ / الرمزيِّ الذي يستطيعُ، وحدهُ، ترميمَ شرعية الدولة الناقصة. توهمُنا الدولة أنها مُؤسّسة ٌ معنيَّة ٌ بالهوية والتراث والدِّين والمُقدَّس كلما رأت أنَّ هُناك هُوَّة ارتسمت بينها وبين مهامِها الأساسيَّة والأصيلة في الرعاية الاجتماعيّة وحماية حُقوق الإنسان وضمان العدل والمُساواة. إنَّ " سياسة الحقيقة " عندنا – إن استعرنا تعبير ميشال فوكو – تقومُ في مُجتمعاتنا على سلطة المرجعيَّة التي تمنحُ الشرعيّة في غيابِ العمل على تدشين قارة الأنسنة لأسبابٍ ثقافية وتاريخية. هذا هُو ما يُبيّن مشكلة تحوُّل الحقيقة إلى مُؤسّسةٍ للنبذ والاستبعاد وتورُّطها في مُناخ البنية اللاهوتيّة للفكر كما يشيرُ إلى ذلك الأستاذ علي حرب. من هُنا كانت الدولة الوطنيَّة العربية مؤسَّسة تدجين ومُؤسسة تخوين هائلة. كانت الحقيقة حربًا ضدَّ الحرية، وظلت تكنولوجيا إخضاع باسم النظريَّة التي تعلو على الواقع وتدَّعي العصمة العلمية. لذا لا نستغربُ أبدًا أن نكونَ قد أنتجنا – بقوانا الخاصّة - طبعة ًعربية من الغولاغ والغستابو. لم نفهم أن الدولة مؤسَّسة ٌ لا شأن لها بحراسةِ الحقيقة المطلقة وإنما بالارتقاءِ بالحياة الإنسانيَّة وحماية الحقوق وترسيخ قيم المُجتمع المدنيّ العادل. كانت مُجتمعاتنا بذلك زنازينَ لا مكانَ فيها للرأي الآخر وللإبداع الفكريّ خارجَ المتن الرَّسميّ في ظل سيادةِ الواحدية الفكرية / الإيديولوجيَّة وسُلطة الزعيم والقائدِ الأوحد. ظل فضاءُ حياتنا الرمزيّ يعجُّ بحُضور كل أشكال المُقدَّس، وكانت ثقافتنا نوعا من الابتهال إلى الطوطم السياسيِّ من أجل الخلاص الذي لبسَ قناعَ غودو كما نعلم.

رُبما بيَّن تاريخنا المُعاصرُ وجها من أوجهِ أزماتِ الحداثة وهي تسقطُ في النزعة الشموليَّة الكليانية التي وقعت تحتَ سِحر العلم والفكر التقنيّ كما أشار إلى ذلك يوما ما هيدغر. إذ تحوَّلت الدولة إلى آلةِ مراقبةٍ جبّارةٍ تحكمُ مُجتمعَ انضباطٍ – كما علمنا ميشال فوكو -، وحادت بأساليبها عن أحلام التنويريين الحالمين بالتحرُّر من الخوف ومن " حرب الكلّ ضدَّ الكل " في مُجتمع يضمنُ الأمنَ ويصونُ الحقوق. كان ذلك تحديدًا في عهدِ انتصار الفكر الإيديولوجيّ والعقائديات الكلاسيكيَّة التي مثلت الحقيقة وقد تصلبت شرايينُها وأصبحت منظومة ً فكرية مغلقة أمام العالم والتاريخ، وأصبحت حِرابا مُوجهة إلى صبوات الإنسان العميقة في تحسُّس الضوءِ خارج ظلمةِ الجاهز القمعيّ.

3

كان ذلك في الماضي القريب. أما اليوم فالأمُور تغيرت وبدَا واضحًا أنَّ السلطة السياسيَّة العربية أصبحت تُهرولُ وراءَ مرجعياتٍ أخرى تمنحُها شرعية الوجُود والحُضور في ظل النكساتِ المُتتالية والفشل العام في تحقيق التنمية والوُعود التي بقيت شعاراتٍ جوفاء. رُبما علمنا هذا الأمرُ شيئا مُهمًّا: هو أنَّ الدولة لا تلجأ إلى الحقيقة الإيديولوجيَّة والدينية إلا في ظل فشلها بوصفها مُؤسّسة لم تحقق ما هُو مطلوبٌ منها سياسيا واقتصاديا وتربويا، ولم تستطع تحمُّلَ مسؤولية التكفل بكل المطالب أو حل المشاكل الموروثة عن الماضي وعن الحقبة الكولونيالية. الحقيقة تمنحُ الشرعية وتعصِمُ الأنظمة الفاسدة الفاشلة من سقوطِ ورقة التوتِ الأخيرة التي تسترُ عوراتِها الكثيرة. وأشيرُ، هنا تحديدًا، إلى الحقيقةِ الدينية في مُجتمعاتنا التي ما زالت أسيرة ً لعودة المُقدَّس وانفجار الأصوليّات، وما زالت بعيدة عن الازدهار الثقافي والعقليّ. هذا ما يُفسّرُ التحالُفَ المُقدَّس بين السلطة السياسيّة العربية والمُؤسّسة الدينية العتيقةِ ضمن لُعبةِ المصَالح المُتبادلة اليوم. ولكن ما النتيجة؟ تراجعٌ كبيرٌ في مضمار حُقوق الإنسان وانتعاشٌ للخطاب التكفيريّ؛ مع ما رافقَ ذلك من إحكام القبضة على المُجتمع سياسيّا وثقافيا وإبداعيّا باسم الحقيقة الدينية المُطلقة والمُقدّسة كما فهمها فقهاءُ العصُور الوسطى ومُشرِّعُوها.

هكذا رأينا مصرَ العظيمة التي أنتجت لطفي السيّد وطه حُسين وعلي عبد الرَّازق في بدايات القرن العشرين تنحدرُ في أواخرهِ إلى تكفير الباحثِ النقديّ نصر حامد أبو زيد وتُطالبُ بفصل زوجتهِ عنه. كأن مُؤسّساتِ الأزهر والقضاءِ الشرعيّ لا تتورَّعُ عن إعادة إنتاج الإكليروس القروسطي وفي جعل غاليلي العربي أطول البشر عُمرًا بعدَ أن أصبح الاضطهادُ والتكفير مُجرَّد ذكرى تحت سماواتٍ أخر. هكذا رأينا الرئيسَ السُودانيّ يُدافعُ عن الحُكم بجلدِ امرأةٍ إعلامية بعد أن ارتدت سروالا ويرى في ذلك تطبيقا للشريعة. لم يستطع أن يفهمَ أنَّ عقلهُ السياسيَّ الطائفيّ الضيّق لا يُمكنهُ أن يحكمَ السودان – ذلك البلد الغنيّ والمُتعدّد دينيا وإثنيا - ولا يمكنهُ أن يُدافعَ عنهُ، بالتالي، أمام المطامع الخارجية التي مزقته وفصلت جنوبهُ عن شماله. هكذا رأينا الرئيسَ الجزائريّ يقولُ – يوم عيد المرأة العالميّ - إنهُ لا يستطيعُ أن يُوافقَ على جَواز زواج المرأة دون وليّ وهذا لأنهُ اختار إرضاءَ ربّه قبل العباد. لم يستطع أن يفهمَ أن العملَ السياسيَّ هُو فن الارتقاء بالبشر وتجذير تطلعاتهم إلى الحرية والمُساواة في ظل التحول الذي شهدهُ المُجتمع والمكاسب التي حققتها المرأة في كل مناحي الحياة. أما إرضاءُ الرب فهُو مسألة ٌ شخصيّة وليسَ عملا سياسيا. هكذا رأينا، أيضا، كيف تلاحقُ مصَالحُ الأمن والقضاء الجزائريّة من يُفطرُ في رمضانَ نهارًا باسم الدّفاع عن حُرمة الإسلام وقيمه. كأننا لم نعُد نُفرّقُ بين الخطيئة الدينيّة والجريمة القانونيَّة. ولكن من فوَّض الدولة الوطنية العربية يومًا للدفاع عن المُقدَّس بهذه الكيفية الممجُوجة؟ ألم تكن مُؤسّسة ً تحمَّلت أعباءَ الارتقاءِ بالحياة العربية وتحقيق الاستقلال والتنمية والعدالة؟ ألم تكن مُؤسّسة تهدفُ إلى إرساءِ أسُس الحياة المدنية وتعزيز وحدة الشعب خارجَ مفاهيم القبيلةِ والطائفة؟ ألم تكن الثوراتُ في أساس ظهُورها ضمن حُلم الانعتاق من أبجديّاتِ الماضي والحاضر الأمبريالي معا؟ هذا كلهُ يبينُ بجلاءٍ تراجعَ السلطة السياسيّة العربية أمام المدّ الأصُوليّ الذي كانت تقفُ – بمعنى أو بآخر – وراءَ ظهُوره وتناميه على خلفية الفشل في تحقيق التحديث المُتوازن والتنمية البشرية الفعلية كما ذكرنا آنفا.

تجبُ، هنا، الإشارة إلى أمر هام أيضا: هُو أن الدينَ في مُجتمعاتنا الخائبة - التي لم تحقق تحديثا مُتوازنا ولم تستطع بناءَ دولةِ المُواطنة والحقوق والمُساواة - ظل يمثلُ خطابا اجتماعيا جبَّارًا يكشفُ عن المكبوت التاريخيّ الهائل لمُجتمع لم يقطع بصُورة مُتوازنةٍ وهادئةٍ مع بنياتِ التقليد؛ وظل يُمثلُ " ملاذا " في عالم فقدت فيه الذاتُ الجمعيّة بوصلة الاتجاه تحتَ زلزال التغيّر غير المُسَيطر عليه كما يرى البروفيسُور محمد أركون. من هُنا نفهمُ كيف تحوَّل الدينُ إلى هُويّة ولم يعُد اعتقادًا أو تجربة روحية وأخلاقية. لقد أصبحَ طوق نجاةٍ في مُحيط العماءِ التاريخيّ وأصبحَ قوة إيديولوجية تقفُ أمام خطاب الدولة العربية التحديثيّ الذي أثبت فشلهُ وكساحه. هذا، رُبما، ما جعلَ الدولة العربيّة تهرعُ، منذ مُدة، إلى التركيز على خطاباتِ الخصُوصية والهُوية وتهجرُ – شيئا فشيئا – خطابها السابق عن التحديث والتنمية والثورة. لا يقفُ خطابُ الهوية، بالتالي، إلا على أرضية الأزمة: أزمة الذات في العالم الذي لم يعُد مَجلى لتطلعاتها أو مسرحًا لفاعلياتها.

من التخوين إلى التكفير: هذا هُو حصادُ العقل العربيِّ النقدي طيلة النصف الثاني من القرن العشرين. هذا هُو حصادُ الثقافة العربية الطليعية في الدولة الوطنية التي مارست الوصاية واعتقدت أنها تحمي قلعة الحقيقةِ المُطلقة من مُناوشاتِ صعاليكِ الفكر، وتحمي نُعاسَ جوادِ المدينةِ النبيل من لسعاتِ ذبابةِ الفكر المُشاكسة - كما يعبّرُ سقراط مُشيرًا إلى دور الفيلسُوف في المدينة. من تخوين الدولة الاستبدادية القائمةِ على إيديولوجية الحزب الواحد وأحلام الوهم البعثيّ، إلى تكفير الدولة الباحثة عن شرعيةٍ يائسةٍ في عهد انتعاش الأصوليات لحظة الفشل التاريخيّ في القطع مع الماضي المُعاد إنتاجهُ باعتباره قوة هيمنةٍ رمزية لا يمكنُ تخطيها أو قمعُها.

4

إن ما أتينا على ذكره يبيّنُ أن السياسة القمعيّة العربية كانت تستنجدُ دائما بالحقيقةِ من أجل الهيمنة على الفضاءِ السوسيو- سياسيّ ومن أجل إعادة إنعاش شرعيتها المُتآكلة. لم تكن المُشكلة كامنة في الحقيقة بذاتها، فكرية ً كانت أو دينية، وإنما في تحويلها إلى إيديولوجية وسلطةٍ قهريّةٍ وخلفية مرجعية تصادقُ على مشروعية النبذ والاستبعاد والتخوين والتكفير. ظلت الحقيقة ميدانا تتمُّ من خلاله إعادة إنتاج السلطة الواحدية وتبريرُ القمع. تكمنُ المُشكلة، بالتالي، في تحويل الحقيقة إلى مُؤسّسةِ إدانةٍ تطاردُ الحرية وتستقبحُ مُغامرة الفكر؛ وفي تحويلها إلى جلادٍ يملأ الفضاء المدنيَّ برائحة الجثث. إننا نعتقدُ، هنا، أن مأسَسة الحقيقةِ كانت تعني تحويلها إلى خادمةٍ في قصر الحاكم وجعلها واجهة ً تمنحُ الشرعيّة للقوة العمياء. وإذا كنا نفهمُ جيّدًا كيف أن العصُورَ الوسطى عاشت على ذلك قرُونا طويلة في ظل غياب حكم القانون والفكر الديمقراطيّ، فإننا لا نفهمُ كيفَ تستمرُّ هذه المُمارساتُ في الدَّولة الحديثة إلى اليوم.

نعتقدُ أن الدولة الحديثة مُؤسّسة تجدُ مبرّرَ وُجودها في حمايةِ حقوق الإنسان وعلى رأسها الحريّة والمُساواة والعدالة. إنها مُؤسَّسة تستندُ في أدبياتها إلى منظومةِ قيم تتمركز حول الإنسان فردًا كان أو جماعة. هذا الدورُ السياسيُّ تخلّى كما نعلمُ عن هاجس تمثيل الحقيقة الأنطولوجيّة منذ أصبحت الرابطة السياسيّة بين المُواطنين تقومُ على عقدٍ اجتماعيّ يُؤسِّس لشرعية السلطة ويجدُ مرجعيتهُ في الاختيار الشعبيّ والإرادة العامة. إلا أن هذا الأمرَ لم يكن لينتصرَ دائما حتى في الغرب الحداثيّ ذاتهِ، أي تحديدًا منذ أن كشفت إرادة المعرفة والحقيقةِ عن وجهها الفعليّ في السيطرة مع الإيديولوجيات الفاشية والشيوعيّة باسم الحقيقة. وهكذا أصبحت الحقيقة ُ مُتوَّجة ً بسيف إرادة القوة. هذه هي الشمولية. فليست الشمولية نزعة ً مُجردة من هاجس المعرفة والحقيقةِ وإنما هي نزوعٌ إلى الهيمنة ينهلُ من رؤية تقنية للعالم يُوفرُها العلم الوضعيُّ والنظرياتُ الإيديولوجية " العلمية ". لذا كان يجبُ تحريرُ " شهوة المُطلق " من امتداداتها السُّوسيولوجية ومن ارتباطها بالمُؤسسة السياسية كي تصبحَ بحثا حُرًّا وتجربة ً في اكتناه المعنى بعيدًا عن كل هاجس سلطويّ. كما كان يجبُ تأسيسُ صيغةِ " العيش المُشترك " على الرابطة القانونيّة التي تقومُ على القيم المدنيّة المُشتركة لا على ادّعاءِ احتكار وتمثيل الحقيقة أو على اعتقاد الطائفة الغالبة والناجية.

لا تقومُ الدولة المدنيّة الحديثة فعلا إلا على إحداثِ القطيعة الإبستيمولوجيّة والسياسيّة مع النزعاتِ العلمويّة ومع اللاهوت السياسيِّ معا: أعني أنها مُؤسسة تقطعُ مع مرجعيّة الوصاية على الضمائر وتقطعُ مع ادّعاءِ تمثيل الحقيقة والعيش في كنفها. هذا ما يُحرّرها من دور الوصاية الذي ظلت تلعبُه عندنا كلما كانت تعاني من أزمة الشرعيّة. على الدولة أن تبحث عن شرعيتها في الحمايةِ لا في الوصاية: أعني في حماية حُقوق الإنسان والعمل على ازدهاره وتفتحه لا في إخضاعهِ وتدجينهِ ومُراقبته بدعوى العمل على نجاتهِ وخلاصه. لقد أصبحَ هذا الأمرُ دورًا مفضوحا وبخاصّةٍ في ظل تآكل الشرعية القانونية والأخلاقية والسياسية للدولة الوطنيّة العربيّة.

من الواضح، أيضا، أنهُ لا يُمكنُ تخليصُ السلطة السّياسية من مرجعيّة الحقيقةِ بصُورةٍ كليّة. هذا وهمٌ. فالسلطة المدنيّة الحديثة ذاتها هي وليدة مفهوم للحقيقة يجعلها نتيجة ً للبحث العقليّ / العلميّ الموضوعيّ المُتخلص من كل أثر للحقيقة المُتعالية في أشكالها الطائفيّة والدوغماتيّة والخلاصيّة. السلطة الحديثة وليدة مفهوم جديدٍ للحقيقة كان في أساس انبثاق مفهوم الفرد / المُواطن ومفهوم دولةِ الرعاية والحماية مكان دولةِ الوصاية. ولكننا نستطيعُ أن نعملَ دائمًا من أجل التنبيهِ إلى انحرافاتِ إرادة القوة وهي تتقنعُ بالحقيقة من أجل إسباغ المعقوليّة على تكنولوجيا السَّيطرة على البشر. علينا دائما أن نجعلَ الحقيقة مَسعًى أخلاقيا حُرًّا يُمزقُ شرانقَ الاستلاب في آلة الهيمنة السوسيو- سياسيّة، ويمنعُ إطالة أمدِ الارتهان في أسمال الحقيقة المُستنفدة بأشكالها الإيديولوجية المُختلفة. علينا العملُ على ترسيخ علمنةٍ عربية إيجابيّةٍ في فضائنا الثقافيّ تخلّصُ الفكرَ من وصاية المرجعيات القديمةِ ومن أستاذيّة المذهبيّة التقليديّة. علينا تحريرُ الحقيقةِ من الضغطِ السُوسيولوجيّ المُمارَس على عمليّة إنتاجها، وعِتقُها من مُناخ المُجتمع الطقوسيِّ المُحتفي، دومًا، بالحياةِ الطفيلية في ظل دوحةِ الأب الوارفة. علينا تعليمُ الحقيقةِ أن تهجُرَ بلاط الحاكم والكهرمان، وأن تتخلَّى عن وظيفةِ الحَمام الزَّاجل كي تقيمَ في بيتِ السُّؤال وفي نشيدِ اليَمام البرّي.

5

يبدُو لنا أن حُضورَ الطوطم الثقافيّ والدينيّ، وانتعاشَ المُقدَّس المُعاد إنتاجهُ في حياتنا بوصفهِ قوة هيمنةٍ رمزية على الفضاءِ المدنيّ - لا يستمدُّ قوتهُ اليومَ إلا من تراجُع دور الدولة وتخليها عن مَهامِها المدنية. على فكرة الدولة أن تتجدَّد في العقل السياسيّ العربيِّ وفي المُمارسةِ معًا خارجَ محبس الوصاية الفكرية والدينية وخارجَ هاجس الدفاع عن الهُوية بوصفها ملاذا في عالم خائب. على الدولة العربيّة أن تتخلى عن كونها وسيطا بين السَّماء والأرض، وأن تُباشرَ عملها باعتبارها مُؤسّسة قائمة على عقدٍ مدنيّ يحمي حُقوقَ الإنسان وحُرياتهِ الأساسية وعلى رأسها حُرية التفكير والتعبير والمُعتقد. فليست الدولة طريقة ً سياسيّة في استرضاءِ الطوطم وإنما هي البيتُ المُشترك الذي لن تضِيئهُ غيرُ قناديل الحُرية.
15 آذار 2011
---------------------