التونسيات وبناء المسار الانتقالي نحو الديمقراطية



امال قرامي
2011 / 4 / 5

ما كنّا نريد التطرّق إلى وضع النساء في تونس- ما بعد ثورة 14 جانفي وإجراء فصل بين التونسيين والتونسيات، وذلك لأنّنا اعتقدنا للحظة (وقد كنّا نحلم كغيرنا من الحالمين) بأنّ الخطاب السياسيّ الذي سيصاغ هنا وهناك، في منابر الحوار أو في المجالس والهيئات وغيرها من الفضاءات سيكون خطابا عامّا يشمل وضع كلّ فرد في المجتمع التونسي بقطع النظر عن الجنس والمعتقد والطبقة... ومعبّرا عن حقيقة لا مريّة فيها تتعلّق بمشاركة التونسيات في المقاومة والنضال... فالثورة. يكفي أن نتذكّر في هذا الصدد، نضال سهام بن سدرين ونزيهة رجيبة، وكلثوم كنّو، وليلى بحرية، وروضة القرافي، وغيرهنّ من النساء المستقّلات والمنتميات إلى الجمعيات النسائية غير الحكومية فضلا عن المدوّنات مثل لينا بن مهني، وهناء الطرابلسي، و’فاطمة أرابيكا’ وغيرهنّ.

ولم يقتصر النضال على مقاومة النظام السابق وأجهزته القمعية، بما فيها صنف من الإعلام الذي انخرط في التشهير بفئة من المناضلات وتلويث صورتهن، بل استمر النضال... فساهمت النساء في المسيرات والمظاهرات وكنّ في الصفوف الأولى جنبا إلى جنب مع الرجال، وكانت المرأة شهيدة وأمّ الشهداء، ومغتصَبة، وناقلة للخبر في الشبكة الاجتماعية التفاعلية، ومنسّقة للمسيرات، ومتهكّمة على رموز النظام، ومنتقدة، ومشهّرة بالمفسدين.... ولم تشعر امرأة واحدة بأنّها شخص غير مرغوب فيه: في غير موقعها وأنّ الفضاء العمومي/الافتراضي لا يتحمّل وجود نساء ’يزاحمن الرجال’ على حدّ عبارة فقهائنا القدامى. لقد احتاجت تونس إلى جميع أبنائها حتى تتحرّر، فلبّوا جميعهم النداء.

ولكن...فوجئنا بعد الثورة، بمواقف وخطابات وسلوك وممارسات تعكس عقلية تروم إشعارنا بأنّ المواطنة قيمة منشودة يعسر تحقّقها اليوم، ذلك أنّ مواطنة النساء لا تتماثل مع مواطنة الرجال. وهذا يعني أنّ هناك مَن يروّج لمواطنة لا تشمل الجميع. وفوجئنا أيضا بقرارات تومئ إلى اجترار موروث خلنا أنّه ما عاد يفعل فعله في المجتمع التونسي بمثل تلك الفجاجة.

تشكّلت الحكومة الأولى وكانت تمثيليّة المرأة فيها هزيلة في بلد يروّج فكرة مفادها أنّ المرأة التونسية أنموذج ينبغي أن يقتدى به. وتساءلنا هل أنّ قدر المرأة أن تكون وزيرة المرأة؟ ماذا لو عيّن رجل لتحمّل أعباء هذه الوزارة ؟ هل أنّ الأمر من ’اللامفكّر فيه؟ هل هو ’مُهين’ بالنسبة إلى الرجال؟ هل أنّ تسيير وزارة المرأة يتطلّب كفاءة ’أنثوية’. ؟ ثمّ ما حاجتنا اليوم إلى وزارة تحمل هذه التسمية:وزارة المرأة...؟ ويبدو أنّ الذين فكّروا في الحقائب الوزارية لم يروا أنّ المرأة يمكن أن تكون متحمّلة لجميع المسؤوليات فأقصوها عن الوزارات ذات السيادة وعن وزارة الشؤون الدينية ذات ’القداسة’...بل حتى من وزارة التعليم العالي، ووزارة التربية.

ثمّ جاءت الحكومة الثانية وتقلّص حضور النساء فيها مقارنة بالأولى ولم يكن من ’الحكمة’ أن تعيّن النساء في سلك الولاة والمعتمدين إذ تقتضي "الرجولة’ أن نحمي النساء من المخاطر، وأن نجنّبهنّ مواجهة الصعوبات. ورويدا رويدا بدت الصورالنمطيّة تنتشر والأحكام المسبقة تؤثر وتسيطر بجلاء. منابر للحوار السياسي تُفتح في وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة نادرا ما تُستضاف فيها النساء. فضلا عن هيئات تتشكّل ولجان إصلاح ولجان حماية الثورة وأحزاب تتأسّس كانت تمثيليّة النساء فيها لا تعكس الواقع.

ولم يتوقّف الأمر عند ذلك الحدّ إذ قدّمت أغلب الأحزاب والجمعيات والاتحاد العامّ التونسي للشغل نوّابا –ذكورا- يمثّلونها في "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي ’’ فكانت نسبة النساء حوالي 20 بالمائة والحال أنّها كانت من قبل في البرلمان 27 بالمائة. وسرعان ما بدأنا نستمع هنا وهناك، إلى عبارات تنسب إنجازات الثورة إلى الرجال من قبيل ’’تونس جابت الرجال"، "الثورة جابوها الرجال"،...والقائمة طويلة، ولاحظنا بروز أصوات مندّدة ب’الضجيج’ الذي تُحدثه النسوة بحديثهن عن التناصف والتمثيلية و’جندرة’ النصوص التشريعية والخطاب الإعلامي(نعني بذلك الانتباه إلى اللغة المتداولة في الخطاب بالإشارة إلى تاء التأنيث : المواطن/المواطنة....) والمحافظة على المكاسب والمطالبة بالمزيد من الحقوق.....وضجر آخرون ب’عودة’ العمل النسوي ّ ورأوا أنّ مطالب النساء لا تشكّل أولوية، بل يستحسن تأجيلها لأنّ الوقت غير مناسب وتونس اليوم لا تتحمّل....

لا ننكر أنّ مبادرات عديدة انطلقت تؤسس للديمقراطية المنشودة وتسعى إلى ترسيخ المواطنة وتدافع عن الحريات والمساواة وتمثيلية النساء أو التناصف....وتشرّك النساء في تقديم التصوّرات والنقاش حول مستقبل تونس، ولا ننكر أيضا أنّ أحزابا دأبت منذ تأسيسها، على الدفاع عن الديمقراطية والحريات والتعدديّة والمساواة وأنّ أحزابا أخرى عدّلت خطابها مراعاة للسياق الاجتماعي الثقافي الراهن وأبدت رغبة في الاضطلاع بمسؤوليتها. ولكن حقّ لنا التساؤل هل بإمكان هذه المبادرات أن تقف بوجه هذا المدّ الرجعي الذي بدأ يمارس العنف اللفظي والمادي والرمزيّ ويسعى إلى إقصاء النساء والتقليل من كفاءاتهن والتذرّع بحجج واهية وأخرى مزعومة من أجل الحدّ من مشاركة النساء في العمل السياسي وفي بناء المسار نحول التحوّل الديمقراطيّ. وهل تملك هذه الأصوات خطّة عمل، واستراتيجيات وآليات ولمً لا خارطة طريق"؟

إنّ القضيّة في اعتقادنا، لا تتعلّق بمطالب نسويّة بقدر ما هي قضيّة مصير تونس ما بعد الثورة والمرتكزات التي ينبغي أن يؤسّس عليها فعل البناء. لقد اكتشفنا حقائق عدّة بعد الإطاحة بنظام ’بن عليّ’ منها الثراء الفاحش للأسرة الحاكمة ومن والاها، ومنها حجم نهب خيرات البلاد بما فيها تراث أجدادنا الرومان...ومنها مظاهر الفساد وآليات اشتغاله في جميع المؤسسات، ومنها حجم معاناة التونسيين المعوزين، وضحايا البطش، وأشكال تعذيب سجناء الرأي،...ومنها أيضا سقوط صورة طالما افتخر بها النظام السابق وروّج لها وتتمثّل في ’الأداء البرلماني" الفائق للنساء ودخولهن معترك السياسية حتى أنّ تونس كانت تقدّم دورات تدريبية لسائر البرلمانيات في العالم العربي وإفريقيا. أكذوبة رددتها أغلب وسائل الإعلام إن لم نقل كلّها وها نحن اليوم نكتشف هشاشة الأحزاب السياسية من جهة، وضعف تمثيل النساء فيها في مستوى القيادة، أي في مواضع صنع القرار، من جهة أخرى.

لقد علّمتنا الحروب التي خاضتها المجتمعات العربية من أجل الاستقلال أنّ الدول القطرية كثيرا ما تنكّرت للنساء، وتناسى الأدوار التي اضطلعن بها ولعلّ أبرز مثال دال على ذلك الجزائر، وعلّمتنا الثورات السابقة، وأبرزها الثورة الإيرانية أنّ العبث بمكتسبات النساء ممكن وله ألف وجه ووجه.وعلّمنا التاريخ أنّ عين المؤرّخ كليلة لا ترى مساهمات النساء في الثورات، وتسعى عن قصد أو عن غير قصد إلى تغييبها أو التقليل من شأنها.

إنّ الثورات التي تتناسى فئة من ’الفاعلين’ فيها ليست وفيّة للمبادئ التي قامت من أجلها، ولا يمكن لمن عاش القهر أن يتحوّل إلى قاهر، ولا يُعقل أن يتحوّل المهمِّش إلى ممارس للتهميش. والثورات التي تعد بتحقيق الديمقراطية والعدالة والكرامة والحرية....ثمّ تفشل في أوّل اختبار لها لا تدخل التاريخ، والأمثلة عديدة فقد عرف التاريخ مائة ثورة لم تنجح منها إلاّ بعض العشرات.

ونذهب إلى أنّ التمثيلية يجب أن تكون على أساس المواطنة لا على أساس الجنس إذ لا يخفى أنّ إقصاء النساء من فضاء المدينة اليونانية كان على أساس الجنس. ومن هنا فإنّ التمثيلية التامة تصلح أخطاء تاريخية ارتكبت بحقّ النساء وتحقّق مطلب المواطن الذي يريد أن ينخرط في الشأن العامّ ويساهم في إدارة البلاد. وليس يخفى أنّ التغيير المنشود لابدّ أن يقطع مع ممارسات سابقة من ذلك استعمال النساء في السياسة استعمالا وظيفيا ل’تزيين الواجهة ’ و’تنميق صورة تونس’. فالسلطة تحتاج إلى النساء لتتزيّن بهنّ ((ornement وتستهلك صورهن لخدمة ’أبّهة الملك’.

وما دام أداء الرجال في العهد السابق، كان في الغالب، هزيلا فلا مناص من الاعتراف بأنّنا اليوم، رجالا ونساء، في أمسّ الحاجة إلى التدرّب على المهارة السياسية والحنكة والحوار ومقارعة الحجّة بالحجّة.... هي مهارات تكتسب وتتعلّم، تتطلّب استعدادا وإرادة وعزما ولا تتوقّف على الجنس. وما دامت نسب النساء ذوات الشهادات العليا تعادل نسب الرجال إن لم نقل تفوقها، وما دامت كفاءة المرأة التونسية في جميع المجالات (اقتصاد، وطبّ، وفنّ،...) مشهودا بها في جميع المحافل العالمية، فلا مبرّر لمن يتذرّع بحجّة فقدان النساء ذوات الكفاءة. فتّش عن النساء تجدهنّ، ولمن رام حجبهن عن أفق الإبصار تحسّبا لغد يزاحمنه في السلطة نقول: إنّهن مرئيات، يعلو صوتهنّ لا لإحداث الضجيج بل لإرباك منظومات التسلّط والقمع والتشهير بالممارسات الإقصائية ولدعوة ’أشقائهن’ وأزواجهن وأبنائهن وأصدقائهن حتى يكونوا منصفين وأهلا لتحمّل أعباء بناء المستقبل وتشييد صرح الديمقراطية.

وللنساء المترفات و’نؤومات الضحى" واللامباليات بما يجري في البلاد نقول: لا تنتظرن مَنّة من أحد إنّما ’تؤخذ الدنيا غلاب’. أيّتها التونسيات، أيّتها المواطنات، قد آن أوان العمل والبناء والفعل والحضور في جميع الفضاءات: متدخلات ومناقشات ومشاركات في المسيرات والاحتجاجات ومدرّبات ومنسّقات وإعلاميات ومحاميات وقاضيات ومدوّنات...، موظّفات وعاملات وربّات بيوت.... حضريات وريفيات، محجّبات وغير محجّبات، شابات ومسنات...

ولكلّ مواطن/ة يحبّ تونس نقول: آن أوان التشمير عن السواعد’ فالعالم ينظر إلينا.

وَمَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَـالِ يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر