المرأة.. ومحظور الفن



مرح البقاعي
2004 / 10 / 22

عند تقاطع شارعي نيويورك والجادة 13 في القلب من العاصمة الأميركية واشنطن يتربع صرح هو الأول من نوعه في العالم.. إنه المتحف الوطني لفنون المرأة. The National Museum of Women in the Arts.

بدأت المؤرّخة والباحثة الأميركية ويلمينا هاليداي بجمع أعمال فنية للنساء حصرا منذ عام 1960 حيث تلمّست، برهافة نادرة، هشاشة حضور المرأة، كمنتِج إبداعي فاعل، مقارنة بحضور الرجل الجارف على الساحة الفنية، وفي عام 1980 بدأت جديا دعوتها لإقامة متحف يكرّس لإسهامات المرأة في منظومة الفعل الإبداعي ليس بهدف عزلها في دائرة تصنيفها الفيزيولوجي، ولا كردّ فعل انفصالي لحركة نسائية غضّة، بل كمنبر لإشهار طاقاتها في زمن تعاقب على إغفالها والانتقاص من قدرها، وفي شهر تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1981 وُلِد مشروع المتحف كمؤسسة غير ربحية شكّلت مجموعة هاليداي الفنية قاعدة لمقتنياتها، حيث كانت تدار النشاطات الفنية في قسم خاص من منزل العائلة تمّت تهيأته لهذه المهمة بشكل مؤقت، وفي عام 1983 أصبح لدى المؤسسة المال الكافي من المتبرعين لاقتناء مقرّ رسمي للمتحف المرتقب، ووقع الخيار على مبنىً عريق يقع على مقربة من البيت الأبيض.

فتح المتحف أبوابه عريضة للمرة الأولى لزائريه في ربيع عام 1987 في معرض تكريمي لأعمال مجموعة من الفنانات الأميركيات في الحقبة الواقعة ما بين 1830ـ1930 والتي تسجّل القرن الأول لولوج المرأة الأميركية عالم الإبداع، وذلك على أنغام كونشرتو للموسيقية والمؤلفة الرائدة إلين زويلتش استلهمتها من أجواء خمس لوحات عُرِضت في صالات المتحف، كما قامت الدكتورة أيلونور تافتز، المؤرّخة والداعية لحقوق المرأة الأشهر في الولايات المتحدة، برعاية الحفل.

** بين مطرقة الترهيب وسندان الرغبة

تكاد تكون نزعة "الرغبوية" والجنوح إلى مواجهات سيكولوجية وأخلاقية لا تنأى عن التطرّف في حال من أهم مرتكزات الفعل الإبداعي في مواجهة كتل مجتمعية ضاربة لا ترى في المرأة إلا سلعة منزلية أو أداة إمتاع.

وفي عالم يرسم قواعدَه الرجل بامتياز تصنيفه الفيزيولوجي ويخط قوانينه المدنية ويجتهد في تشريعاته رجال أيضا، لا ريب أن غياب المرأة عن خطوط المد التفاعلي ومكامن الإنجاز الإبداعي هو محصّلة لما هو وضعي أصلا، وهذا الأمر لا يقتصر على جغرافيا محددة أو ثقافة بعينها، بل يبدو جليا أنه شكل من نزوع عالمي وجنحة كونية لتقويض انهمار الأنوثة المبدع، ولا خيار أمام المرأة المجددة في مواجهة هذا الإجحاف السافر إلا أن تقرّر بذاتها شرط كينونتها وتحدّد مختارة موضع خطاها.

تقول الدكتورة جودي لارسن المختصة في الدراسات الليبرالية ومديرة المتحف الوطني لفنون المرأة: "لا تختلف معاناة المرأة الأميركية عن أية امرأة أخرى في العالم حين يتعلق الأمر في انخراطها واحترافها لمشروع فني إبداعي. الضغوط الاجتماعية والعوائق والمحبطات هي جاهزة أبدا لدحض مسيرتها في هذا الاتجاه، وهي غالبا من صياغة الرجل"، وتضيف: "عانت المرأة الأميركية من صعوبات كثيرة في الالتحاق بالمعاهد والجامعات الفنية، وحتى يومنا هذا لم تتمكن خريجة المعاهد والكليات الفنية أن تذهب بعيدا في رحلة الإبداع بما يجعلها تتفوّق على الرجل في هذا الميدان".

وفي ظل أسطورة التفوق الرجالي التي يشبّ عليها الصبية في البيت والمدرسة والشارع تغدو حجة المرأة في الالتحاق بعالم صمّمه الرجال على مقاسهم ضربا من الترف في مجتمع يتعمّد حشرها في زوايا ضيقة من شؤون حياتية أدنى إنجازا وأضعف اتصالا مع الآخر.

ونظرا إلى العلاقة التكاملية بين الرجل والمرأة كعنصرين مسؤولين بنفس الدرجة عن عملية البناء والتجديد المجتمعي فإنه يترتب، نتيجةً، ضمان حقوق إنسانية متساوية وموازية لحجم الواجبات المنوطة بالطرفين. وليس الإبداع الفني إلا عموداً فقاريا للحالة الاجتماعية، فمن بوّابته يدخل المجتمع في عملية التطوير والبناء السوسيولوجي الذي يُفترض به أن ينحى منحى جماليا، ولكي تستقيم هذه المعادلة لا بد من زلزلة الاستقطاب الرجالي الأحادي للشأن الإبداعي بما يفتح باب الاجتهاد عريضا أمام المرأة ويتمّم ما لا تدركه الحاسة الذكورية بفردانيتها.

تقول الدكتورة لارسن: "ليس من أهداف هذا المتحف بمكان عزل نتاج المرأة الإبداعي عن نظيره الرجالي، بل القصد المباشر هو إبراز دور المرأة وطاقاتها في التشكيل والكتابة والموسيقى التي طالما استُبعِدت أو هُمشّت أو وُئدت في مهدها قبل أن ترى النور، ووَضْعها، تاليا، في مواقعها من حركة التاريخ في تراكمها الثقافي"، وترى لارسن "أن المرأة الأميركية لم تحصل على حقها في التصويت حتى عام 1920، ولم تتقلد مناصب سياسية عُليا إلا في بداية الثلاثينات، وهي ما زالت حتى الساعة تعاني تمييزا إذا ما أبدت منافسة للرجل فيما يَعتبره ميدانا حكرا عليه وفي مقدمته الإبداع الفني"، وتقول لارسن: " أعتقد أن المرأة في العالم العربي كانت سبّاقة في قيادة حركات التحرّر وتوجيه حزمة الضوء، التي طالما احتكرها الرجل، في اتجاه مساحتها بما يؤكّد الجدلية الديناميكية المخصِبة بين الطرفين أيضا".

** سلطة الأنوثة

حين تَلِج بهوَ المتحف يأخذك جمال المرمر الوردي يزنّر محيط الأدراج الرخامية التي تصلك إلى طوابق ثلاثة تنتشر فيها الأعمال الفنية التشكيلية لنساء من كافة أنحاء العالم. تقرأ ما كتب على جدران الطابق الثالث من أقوال جورجيا أوكيف وهي فنانة أميركية من جيل الرائدات: "قلت لنفسي مرة أنا لا أستطيع أن أحيا في المكان الذي أريد.. ولا أستطيع أن أعمل ما أرغب أو أقول ما أشعر.. لذا قررت أنه من الغباء بمكان ألا أقوم برسم ما أريد أن أكون".

كانت أوكيف (1887-1986) من النساء المُحدِثات في عصرها، وفي مجتمع رجالي بامتياز رفضت أن يعبِّر عنها الرجل بالنيابة، وأرادت أن تكون صوت نفسها وأن توظف مكنونات الرهافة الحسية الأنثوية الغريزية لتجسيد شطحاتها التخييلية على قماش، وبلون، وقد اعتبرها النقاد أول فنانة تشكيلية أميركية تسجل بصمتها على خارطة الفن في القرن العشرين.

أما الفنانة النيويوركية المعاصرة ليزلي ديل والتي عرضت مؤخرا أعمالها في المتحف الوطني لفنون المرأة فقد ابتكرت صيغة فنية مستوحاة من سلطتي "الكلمة" متمثلة في الشعر، و"الجسد" متمثلة في الثوب، تقول ديل: "أهدتْني أمي يوما مجموعة شعرية للشاعرة أميلي ديكنسن، وقد غيّرت قراءتي لقصائدها نظرتي إلى شكلانية أعمالي الفنية، وقرّرت أن أدمج اللغة والتشكيل في صنو واحد. فالكلمة هي النيّة بامتياز، والفنّ هو تلك الجذوة المستعرة أبدا في دواخل النفس، وكلاهما يأتلقان في محرق العبارة". غالبا ما تشتغل ديل على أثواب من ورق الـ"شيري كيزو" توزع عليها أبياتا من قصائد لوركا وريلكة ونيرودا وكافكا، ومفضَّلتها الشاعرة ديكنسن. تقول ديل: "في الرسم بالكلمات أو الكتابة بالتشكيل وجدت حرية روحي الراغبة. مادة الورق، بهشاشتها، تحمل دلالات العمق الأنثوي في جسد المرأة، أما الشِعر فيجسّد طاقة روحها الدافقة".

في ظل اقتناص الرجل لكل فرص الدِيَكة وإصراره أن يكون "صوت النيابة" عن المرأة في قصورها المزعوم، وفي محض تفرده باختراق ميادين السياسة والتاريخ والاقتصاد والفكر والأعمال والفن رافضا أي حضور جدي "لها"، تأتي امرأة الحداثة في هيبة أنوثتها وعنفوانها الجميل لتدحض هذا الانتهاك، وتلج مختارة كل أقداس الذكورة وأسوارها الوهمية لتكون نبوءة القرن في استيعاب لفعل تيار يربو حجمه الديموغرافي على نصف المجتمع، وتمثل عناصره شخوصا نابضة على خشبة مسرح اليومي من أم إلى أخت إلى حبيبة إلى رفيقة درب.

هكذا يأتي الاحتفاء بالمرأة ومشروعها الفني احتفاء بخلاص وجه المجتمع النضير من مستحقات الجهل والظلامية والتمييز. الصفحة الثانية تكملة الأخبار التي في الصفحة الأولى الصفحة الثالثة تحقيق أو استطلاع العدد الصفحة الرابعة طلبات الزواج - خدمات متعددة مجانية الصفحة الخامسة قصة مصورة مساهمات للأطفال أو بريد الطفل الصفحة السادسة 1. قضية ثقافية او ادبية يتم التحقيق عنها . 2. استطلاع ادبي ثقافي . 3. قصة ، قصيدة ، لوحة تشكلية ، إصدارات جديدة واخبار . الصفحة السابعة غذاء ، صحة ، جمال ، رياضة الصفحة الثامنة أخبار خفيفة