كوخ من القصب وفانوس مكسور ..!! 1



سلام كوبع العتيبي
2004 / 10 / 23

المدينة يلفها السواد مثل عروس اعلنت الحداد بعد أن قتل عريسها ليلة فرحها .. اما نحن فلم يكن وضعنا المادي يسمح لنا ان نشتري اكثر من خبز الشعيروبعض الخضروات العفنة قبل ان ترمى في مزابل الاسواق .. حتى امي رحمها الله لم يكن لها نصيب من الزمن ؛ سوى أسماله البالية التي كانت تلف نفسها بما يتيسر لها من هذه الأسمال ولاحتى شقيقاتي واخي الصغير نالهم من فرح الله المحروس بملائكته بعض من ( الحلوى ) الباهته عندما توزع على الاطفال قبل أن أن يخرج والدي من سجن نقرة السلمان .. كان يوم غائم من ايام شتاء الناصرية البارد ( جويريد) .. تقافزنا مثل قطط كسوله نجري خلف امنا المتعبة بعد ان وقفت سيارة سوداء اللو ن امام كوخنا الهزيل ؛ نزل منها ابي لم نعرف ملامحه كما يعرف الابناء المحظوظيين وجوه آبائهم .. هزيل الجسد يرتدي دشداشه رصاصية اللون طويلة نوعا ما وجاكيت اسود كان هو الباقي معه منذ ان القي عليه القبض في اليوم الاول ومازال يرافقه مع بقايا الزمن الاسود قبل أن تأكله سنوات نقرة السلمان وحلمه المكسور؛ لكن مازال هذا الجاكيت الاسود يحمي صدره من برد غربته التي يعيشها بانكسار بعد ان تخلى عنه حتى إخوته وابيه..لم يكن معه شيء عندما نزل من السيارة التي جائت به سوى كيس من الورق الاسمر لانعرف ماذا بداخله ؛ تقافزنا عليه مثل العصافير عندما تعود إليها امهاتها بشيء من الطعام المهضوم ؛ عنقنا نحن الاربعة مرة واحدة وحاول أن يخفي دمعة سبقته الى النزول .. هرولت امي تترنح مثل غزال اصابه صياد مجنون عائدة الى الدار بذهول دون ان تصدق ما تراه أمامها - حلم – صحوا – كذب – لكنها هرولت تسبقنا لغرض ان تفتح باب المنزل ( كوخ القصب ) الذي تملكه جدتي لامي رحمها الله .. كانت جدتي كل شيء لنا في ذلك الزمن المبوء بأهلنا وذوينا بعد أن تخلى عنا كل اقاربنا خوفا أن يشملهم قرار السجن الذي قبع به والدي .. دخلت والدتي الكوخ وجلس ابي تحت ظله من الخارج دون أن يتوسد شيء ما .. أما نحن القطط الاربعة نسينا امنا التي جلست داخل الكوخ المعتم تحفر بوجهها دموعها الساخنه ؛ دموع لم ارى يوما فارقتها منذ سجن والدي وموت اخيها الاكبر.. كانت فرحتنا بهذا الرجل القادم من البعيد أو من خلف حدود الموت على حد تعبيرجدي لابي عندما كان يقول انهم سوف يشنقونه ! فرحتنا اكبر من سنواتنا القاحلة وأهم من دموع امي المركونة داخل الكوخ المصاب بالرطوبه والعفن ؛ فرحة تذكرنا بجرائم الايام وحزنها وموتها وصراخ طفولتنا الكامن في عقلي عندما كنا نتضايق حين نرى اطفال محلتنا يسيرون متبخترين أمامنا بجنب أبائهم فرحين .. احساس مرعب حين تنهزم امام العيون عندما لم يكون لك اب .. دموع تتناثر دون أن تشعر انك بحاجة الى البكاء أو ان روحك الخاوية أخذتك اليها ؛ لكنه بكاء مستمر مع ايامك طالما وانت تشعر بعوز الدف الذي لا تستطيع أن تنمحه لك الأيام ؛ او اصبح بكائنا موال طويل يحز الروح ويذبحها مثل ذبائح الاموات ( بكائنا سوله ! ) أو هو ترف العواطف البائسه .. بعد ساعة من ذلك الوقت توافد عدد كبير من الجيران الذي غص بهم كوخنا الصغير المرطوب لاجل السلام على ابي العائد من اخر حدود الصحراء لينصدم بنا مثلما تنصدم الام بجراءها الموتى .. عندما أتذكر كيف استقبل القادمون اشعر ان هنالك قلق من شيء ما بداخله ؛ يود ان يهرب من بيننا ليعود مرة اخرى الى سجنه .. جراء جائعة ؛ او مازال يعيش داخل سجنه دون أن يستطيع ان يتخلص منه ( مرتبك لحد الهذيان ) مازلت امي لم تستطيع ان تكبح دموعها المتساقطه مع كل وافد جديد يسألها عن مشاعرها بعد ان خرج زوجها من سجنه .. اتذكرها بثوبها الاسود البالي وفوطتها الممزقه الرثة ؛ حافية القدمين ؛ لاأتذكر اني رئيتها تنتعل نعلا في يوما ما ؛ انها كثيرا ما كانت تجلس تنظف اقدامها من ما يعلق بها من مخلفات الدروب الموحلة ؛ افدام لم تتوقف عن النزف !!
لا اريد اطبق جفنيي مخافتا ان تهرب صورها الرائعة من حدقاتي .. صور مازلت تعيش بداخلي في – عقلي – في نظري – تتلبسني صورها أكثر ما تتلبسني روحي .. لا اريد ان اخرج من هذا الجلباب الاسود الذي ارتديه منذ صغري وتعلقي بها ؛ طيفها لم يفارقني بعد أن فارقتني كل الصور الاخرى وخاصة صور أصحاب الوجوه التي اتذكرها كيف كانت تضحك منا عندما سجن ابي .. صور الذين لا اود ان استعيدهم بعقلي .. كثيرة هي الصور التي مازلت اكسرها في الهواء واتصارع من شخوصها في احلامي دون ان اتركها تتلبسني .. صورة لجدي وصورة اخرى لاعمامي مجتمعين ؟!
كانت أمي تخفي خاتم اهدتها لها جدتي ( أم جواد ) تخبئه بين الاسمال التي نغفوا فوقها وتحتها داخل صرة سوداء صغيرة الحجم .. تهامست مع جارتنا زوجة الحاج عباس العطار ؛ وهرولت الى داخل الكوخ .. وعادت الى جارتنا التي كانت تنتظرها عند باب الكوخ من الخارج وتهامست معها مرة اخرى .. خرجت جارتنا وعادت امي الى داخل الكوخ اكثر انشراحا .. انها باعت خاتمها لجارتنا بدينار !! اخذت دينارها وارتدت عبائتها وهرولت تمسك بيدها ( زنبيل من خوص النخل ) تتبعها أختى الكبرى حافية القدمين كما امي بعد أن خرج كل من جاء للسلام على والدي ... الكوخ لفه الضلام مثل قبر مهجور بعد أن أخذت الشمس تسير نحو الغروب القرمزي تاركة ورائها ظلام يسرق وجه ابي منا بعد ان سرقته الايام .. لا نعرف ماذا نصنع وكيف نوقد هذا الفانوس المكسور بعد أن خرجت امي واختي لشراء ما يتيسرمن طعام تسد به افواهنا وبطوننا الجائعة بعد أن باعت خاتمها اليتيم .. خرجنا مع ابي من الكوخ الى باحة الدار ممسكا بيده ؛ اتدافع مع اخي الاصغر الذي يحاول أن يسرقها مني .. خذ انت اليد الاخرى .. هذه لي ؟!
عادت امي مرهقة ( تلهث ) كإنها جائت تجري من حقل الاموات كي تلحق ان تطهي ما جائت به هذا اليوم من السوق القريب لكوخنا والبعيد عن امال بطوننا ... منذ فترة طويلة لم ارى امي جائت لنا بمثل ما جائت به هذا اليوم بعد باعت خاتمها الذي يذكرها بجدتي لكي نحتفل بخروج ابي من سجنه الذي تجاوز كل سنواتنا الحزينة واغرقته دموع امي رحمها الله ..