صورة المرأة الاجتماعية في الثقافة التقليدية



عبدالقادر عرابي
2004 / 10 / 29

من المتعذر على المرء استجلاء صورة المرأة العربية الاجتماعية في التراث، ولا سيما أن هذه الصورة جاءت مبهمة ومشوشة. فإذا استثنينا الدراسات الدينية، المحددة للحلال والحرام، يبقى نصيب المرأة من الدراسات العلمية قليلاً. وحتى هذا القليل لم ينصفها لعدة أسباب. وأولها أن هذه الدراسات انعكاس موضوعي للنسق القيمي العام، ثانيها أنها تناولت المرأة من الجانب الفيزيولوجي لا الإنساني، وثالثها أن النظرة التقليدية اعتبرت التفكير في وضع المرأة، أو الكتابة عنها أمراً مكروهاً. وتجسيداً لهذه الرؤية المثالية، فإن الصورة الاجتماعية للمرأة تتجسد في نمطين اجتماعيين مثاليين، فهي إما امرأة صالحة ومثالية، فتكون في هذه الحالة محجوبة عن المجتمع، وإما غانية وغاوية، أما المرأة الإنسانية فلا وجود لها في المنظور التقليدي.
إن النظرة التقليدية تختزل المرأة إلى جسدها، فأنوثتها هي قدرها، ومحددة لمصيرها: ((الأنوثة هي العلة)). وحتى القوى العقلية للمرأة مكيفة بأخلاق الأنوثة، ((وبحكم فطرتها فإن كثيراً من الأعمال تصلح أن تزاولها في خدرها... إن المرأة إذا خرجت للعمل خارج بيتها وزاحمت الرجال أضاعت أنوثتها ومميزاتها. فلا تكون بعد ذلك امرأة، ولا تستطيع أن تكون رجلاً)).
ولعل ما خلفه الأدب النسائي من الأسفار، وعلى الرغم من ندرته، يساعدنا على استجلاء صورة المرأة الاجتماعية. إن أول مآخذنا على هذا الأدب هو أن المرأة ظلت دائماً موضوعاً للشعر والأدب والحب العذري، ولا أثر يذكر لها في الدراسات الاجتماعية. إنها موضوع الغزل لا العلم، والعاطفة لا العقل، وصورتها المتناثرة في ثنايا كتب الشعر والأدب توحي بأنها خلقت قاصرة، عاجزة، وأن قصورها كامن في طبيعتها، لا يصح وجودها إلا بالرجل، إنها ملحق به، ومن متاعه.
ترى الثقافة التقليدية في المرأة تارةً لغزاً، وكائناً عجيباً، وأخرى رمزاً للغواية والإغراء، وهي رمز للشرف والعرض، وتلك قيم فوق ـ زمانية وفوق ـ مكانية. ولما كانت المرأة رمزاً لشرف الجماعة، فإن الرجال يحرسون السلوك الأخلاقي للنساء، ويخضعونه لرقابتهم. فهي تبقى خاضعة للوصاية الذكورية الأبدية، لا تبلغ سن الرشد، مهما بلغ عمرها.
ما دامت الثقافة التقليدية، بما فيها الثقافة الشعبية بوصفها تعبيراً عن ((اللاشعور الجمعي)) لا تعتبر المرأة إنساناً، بل قاصراً، وجنساً، فإنها لا يمكن أن تكون مصدراً للأخلاق. يقول العقاد: ((ولم يؤثر عن المرأة قط أنها كانت مرجعاً أصيلاً لخلق من الأخلاق لم تتلقه من الرجال، ولم تتجه به إليهم، ولا استثناء في ذلك للصفات التي نعدها من أخص الصفات الأنثوية، ومن أقربها إلى طبيعة المرأة)). ويستطرد قائلاً: ((كان هذا هو السائغ عقلاً، لو كان في المرأة استعداد مستقل لتكوين القيم الأخلاقية)). فبحسب العقاد، إن المرجعية الأخلاقية للنساء هي الرجال. الرجال قوة وحسب ونسب، والنساء ضعف، فهن ضعيفات الجسم والعقل. وتنعكس هذه النظرة على توزيع الأدوار في ((الأسرة))، الرجل مركز القوة والثقل، بمقدار ما تتحول المرأة إلى مركز الضعف والمهانة. فكل يلعب دوره المقرر له، وكأنه لم يخلق إلا له، أو كأن هذا الدور جزء من طبيعته. الجنس يحدد الطبع، وهذه هي النظرة التي تبنتها مدرسة فرويد. يقول فرويد: ((لا يسعني إلا أن أعتقد، وإن كنت أتردد في التعبير عن ذلك، أن مستوى الأخلاقية عند النساء هو غير ما هو عليه عند الرجال، فأناهن الأعلى ليس على ذلك القدر من الصرامة والموضوعية والاستقلال عن أصوله العاطفية الذي نتطلبه عند الرجل)).
وجملة القول إن المرأة في المنظور التقليدي محكومة بأنوثتها، فأنوثتها تحدد مصيرها، أو أن الفيزيولوجيا تحدد المصير. وبفضل التربية والتعليم والعمل بدأت هذه الصورة الاجتماعية للمرأة في نظام القيم التقليدي تفقد بعضاً من أهميتها، فالتعليم الإلزامي خلق جيلاً جديداً، أكثر ثقافة من الأهل، وساهم في الوقت نفسه في تعميق الهرة داخل الأسرة، وفي تغيير العلاقات والأدوار الاجتماعية. وعليه، إن نظام القيم التقليدي يتعارض مع نظام القيم العصري في الوظائف والأدوار. فإذا كانت حقوق المرأة وواجباتها واضحة في المجتمع التقليدي، فقد اعتراها اليوم الكثير من الفوضى، الأمر الذي جعل المرأة تقوم بعدة أدوار، فإضافة إلى أعمالها التقليدية كزوجة وربة بيت وأم، إنها اليوم الموظفة والمحامية، وهذا يثقل كاهلها ويجعلها تقوم بأدوار متناقضة ومتعددة في الوقت ذاته.
تخوض المرأة العربية، إذاً، صراعاً متعدد الجوانب. فهناك الصراع بين القيم الموروثة والقيم الجديدة التي تعلي من شأنها، وهناك صراع الأدوار داخل الأسرة أيضاً، بحيث تسعى المرأة إلى إعادة توزيع الأدوار بعد مشاركتها في العمل، بينما يتمسك الرجال بمكاسبهم التقليدية