رسالة الطعن في النساء



نعيم إيليا
2011 / 7 / 18

في مقالتها "أقول لكم أيها السادة والسيدات"، تكرر الكاتبة المعروفة الدكتورة نوال السعداوي، عرض مبدئها العام القديم، ولكن في إطار من الأحداث المستجدة كقضية شتراوس كان، وبرلسكوني.
إنه المبدأ الذي دأبت الكاتبة على الدفاع به عن المرأة - ولا أقول هنا: الدفاع عن حقوق المرأة؛ إذ بين الدفاع عن المرأة كجنس مغاير، وبين الدفاع عن حقوقها فرق لا يتبينه، مع الأسف، كثير من الناس- وهو مبدأ مستلهم من تجربتها الخاصة والعامة داخل مجتمعها المصري، ومن أفكار تروجها حركات نسوية غرضها تقويض السلطة الذكورية المزعومة للرجل ظهرت في أوروبا والولايات المتحدة، وأكثر أتباعها من النسوة اللائي ابتلتهن الطبيعة بداء المثلية. يستند المبدأ إلى أبحاث علمية، لم ترقَ بعد إلى مرتبة اليقين، مثل نظرية: "الأنثى هي الأصل"، وإلى أبحاث أخرى اجتماعية ونفسية وتاريخية، ليس لها حظّ وافر من الحقيقة كالأبحاث التي تدور حول وهم المجتمع الأمومي.
وإذا كانت الكاتبة هنا لم تأت بمبادئ جديدة مبتكرة تنضاف إلى مبدئها العام، فإنها لا تلام على ذلك؛ لأن الكاتب عامة – مهما يعظم شأنه - لا ينتج إلا فكرة واحدة في حياته؛ كتاباً واحداً يعبر عن فلسفته وموقفه من مشكلات الحياة. فإن زاد عليه، فإنه التفصيل والحشو والاستدراك. قد يمكن أن يزعم المرء أنّ تولستوي لم يؤلف سوى رواية (الحرب والسلام) ودستوييفسكي (الإخوة كارامازوف) وماركيز (مئة عام من العزلة) وغويته (فاوست) ونجيب محفوظ (الثلاثية) وهمنغواي (الشيخ والبحر) وميخائيل نعيمة (مرداد)، ونوال السعداوي (دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي) وكاظم حبيب (لمحات من تاريخ العراق) من دون أن يشعر المرء بأي حرج أو ذنب
ولكنها ستلام، من كل بدّ، إذ تتخذ لنفسها من مبدئها العام قاعدة فكرية لها تغير منها، ولكنْ لا على مواقع العدو الحقيقي كما يقتضي الأمر ذلك، وإنما على مواقع الصديق، أو على مواقع وهمية شبيهة بطواحين دون كيخوته. إنها باختصار قاعدة استبداد الذكر وطغيانه، وإنها لقاعدة تمثل مبدأ كثير الشطط عن المعقول والواقع، وكثير الجفاء، وإن عيبه لنافر لا تخطئه العين كأنما هو ورم فوق خدّ، وقد يتبدى بجميع عيوبه في هذا المقطع من مقالتها:
"أثبت التاريخ أن فساد الرجال الجنسى لا علاقة له بالسياسة أو الدين أو الإيديولوجيا، ليس مسألة هرمونية ذكورية بيولوجية تتعلق بالجينات، إنها مسألة قانون سياسى طبقى أبوى مزدوج فاسد، يرفع الحاكم عن المحكوم، يرفع الرجل عن المرأة، القانون الأخلاقى غير أخلاقى يتبع السياسى الاقتصادى العقائدى، هو أساس التربية والتعليم المزدوج الفاسد فى البيوت والمدارس والأحزاب والبرلمان، يتمتع الحاكم بالحصانة السياسية وإن قتل ونهب، يتمتع الأب والزوج بالحصانة الأخلاقية وإن فسق، الزوج الخائن يظل محترما بين العباد، منذ ظهور العهد القديم فى العصر العبودى أصبحت القوانين كلها مزدوجة، تفرق بين البشر على أساس الدين والجنس والطبقة، أمر الإله يهوه بقتل كل من لا يؤمن به، قد يقتل مدينة كاملة لأن طفلاً فيها لا يؤمن به، أمر «يهوه» بقتل الطفل والأم غير العذراء، والمرأة الخائنة لزوجها، أمر بإلقائها فى الماء الغويط، فإن غرقت فهى آثمة، وإن طفت فهى بريئة، كانت تنجو من الموت المرأة المتدربة على السباحة والخيانة، وتغرق الفتاة الغريرة البريئة".
إنه مبدأ "الفساد الجنسي عند الرجال" بيد أنه لن تكون الفطرة والغريزة والوصايا المحفورة في ألواح الجينات، منشأه وحافزه، بل "القانون السياسي الطبقي الأبوي المزدوج، يرفع الحاكم (عن) المحكوم – تريد فوق المحكوم – يرفع الرجل عن المرأة..."
ومع أن الكاتبة كانت قبل ذلك قد نفت نفياً قطعياً أن يكون للفساد الجنسي عند الرجال علاقة بالسياسة، واتصال بالدين والإيديولوجيا والغريزة، فإن ذلك لن يصرفها عن ربط الفساد الجنسي بالقوانين السياسية والوصايا الدينية وبالتربية والتعليم في تناقض قد يجد فيه بعض الخبثاء من الرجال دليلاً على ضعف المرأة في المنطق، وفي المقدرة على الربط الصحيح بين الأشياء: " أثبت التاريخ أن فساد الرجال الجنسى لا علاقة له بالسياسة أو الدين أو الإيديولوجيا، ليس مسألة هرمونية ذكورية بيولوجية تتعلق بالجينات".
ربما غضّ المرء عن هذا الكلام المتهافت، والتناقض المعيب، والتمس لصاحبته العذر، ولا سيما أنها اليوم تخطَّت الثمانين، ولكنه لا يستطيع بأية حال، أن يغضَّ عن المبدأ الذي اعتمدته في دراستها للمرأة من حيث إنها كائن مضطهد مقموع منقوص الحقوق؛ يضطهده الذكر، ويقمعه الذكر، وينقص حقّه الذكر.
كما لا يستطيع أن يغضّ عن تصويرها الذكر عدواً للأنثى؛ لأن هذا الضرب من التصوير أقرب إلى هذيان الريشة اللامعقول، وإلى تداعيات الخيال المحموم، ولأنّ فيه مراودة على الانتقام من بريء
فما كان الرجل في كل عصور التاريخ عدواً للمرأة، ولم يخترع الرجل قط ديناً أو نظاماً سياسياً وكانت غايته من ذلك أن يقهر المرأة ويستغلّ طاقاتها. وإنما جاءت القوانين والأخلاق والأنظمة السياسية والأديان؛ لتنظيم حياة الإنسان وفق مستواه الاجتماعي والاقتصادي والعقلي، لا وفق تقسيمه الحيوي بين ذكر وأنثى.
لقد شاركت الأنثى الذكرَ عبر التاريخ في صناعة هذه القوانين والسياسات والأديان والعادات والأخلاق والتقاليد؛ فإن كانت بعض الأديان والعادات والأنظمة السياسية، فرَّقت بين المرأة والرجل تفريقاً آذى المرأة شيئاً، فإنّ هذا التفريق لم يقم في الأصل على فكرة اضطهاد المرأة واستغلالها، وإنما على مراعاة الفروق الطبيعية بينهما. ولو لم يكن الأمر كذلك، ما رضخت لها المرأة واستكانت.
الشاعرة العراقية (فليحة حسن)، على سبيل المثال، لا ترى الحجاب عائقاً أو رمزاً للاضطهاد والقمع، وهي الشاعرة التي تمقت النظر إلى (القبور) والتي تشمئز من القبح الاجتماعي والديني كما توحي بذلك نصوصها الأدبية، تقول:
"إن حجاب المرأة لم يقف يوماً عائقاً يمنعها من التحليق في آفاق الإبداع المختلفة ، ويكبل تجربتها الإبداعية ويحول دون تقدمها".
وتقول في مكان آخر بمنطق السفسطائي البارع:
"وإذا كنّا ننادي بحرية المرأة أليس إجبار المرأة على ترك ما اعتادت على ارتدائه وفقط ليتواءم مع أذواق البعض نوع من قيد آخر تفرضه عليها الذائقة ؟
نعم منع الحجاب يدخل ضمن المنع أيضاً وليس ضمن الحرية مطلقا".
وكذلك الكاتبة مكارم إبراهيم، فإنها رغم ميولها اليسارية، تندد بسياسات الأحزاب الأوروبية الاجتماعية، التي تحاول أن تفرض حظر النقاب على المسلمات.
ولكن، ليس بين النساء جميعاً – أستثني السحاقيات – من لا تهفو جوانحها إلى الرجل كما يهفو خيال الشاعر إلى احتضان الكون البديع، وليس بينهن من لا تتوق إلى الاتحاد به؛ بنصفها الآخر، كما تتوق روح المتصوف إلى الاتحاد بالروح الخالدة والفناء فيها.
فكيف يكون الرجل بعد كل هذا عدواً للمرأة، وهو ليس بغيضاً إلى رغباتها الحسية الملونة، وليس كابوساً يروعها ويطبق بثقله المخيف على أحلامها؟
إنّ من يدخل محراب الشاعرة العراقية الكبيرة (لميعة عباس عمارة)، ويصغي إلى أشواقها وهي تحترق كعود البخور، لا بد من أن يخشع أمام وَلَهِ الأنثى بالذكر، ويعجب كيف يخال بعض الناس أن بين الجنسين صراعاً!:
"لو أنبأني العراف
أنك يوماً ستكون حبيبي
لم أكتب غزلاً في رجل
خرساء أصلي
لتظلَّ حبيبي
لو أنبأني العراف
أنّ حبيبي في الليل الثلجي
سيأتي بيديه الشمس
لم تجمد رئتاي
ولم تكبر في عينيّ همومُ الأمس
لو أنبأني العراف
أني سألامس وجهَ القمر العالي
لم ألعب بحصى الغدران
ولم أنظم من خرز آمالي
لو أنبأني العراف
أن حبيبي سيكون أميراً فوق حصان من ياقوت
شدّتني الدنيا بجدائلها الشقرِ
فلم أحلم أني سأموت
لو أنبأني العراف
أني سألاقيكَ بهذا التيه
لم أبكِ لشيء في الدنيا
وجمعتُ دموعي
كلَّ دموعي
ليوم قد تهجرني فيه"
ويعجب كيف يظلم الرجل أنثاه، وكيف يمتهن كرامتها، وهو الشوق تتمشّى حميّاه في أوصالها كما تتمشّى الراح في أوصال شاربها!
ألم تعلم الأديبة الإسرائيلية الشركسية (حوا سكاس) بعدُ، أنّ حبيبها هو الذي صاغ قوانين الإجحاف بحقها في الحرية وكرامة العيش؟
فما بالها إذن تترنم بنشيد أناشيدها في صبوات لياليها المفعمة بحضوره المثير!:
"في كل ليلة، حين ينطفئ المكان، يطاردني وجهك في عتمة الليل، تحت ضوء القمر الذي يربض خلف النافذة، يوقظ أشواقي اليك. تسقط نظرتي على صفحة وجهك، فتنبسط امامي دنيا عجيبة، دافقة، هائلة. يمتلكني حبك، يحيطني من حيث لا ادري ويملأني فرحة ليس لها مثيل. حبك اتّخذ لنفسه عشا في صدري، لا يهتزّ ولا يزول ولا يعرف الذبول في كل ليلة، حين أتوحّد بك، أسبح في بحار كلماتك، أهيم في هواك، أعانق فيك الأحلام. أجلس ساعات أكتب لك. تتفجّر بي كنوز الخير والإبداع. أخبرك عما يجول في خاطري، وما يشتعل في صدري ويتأجّج في داخلي. حين أكتب لك يتحول قلمي الى وردة حمراء، أسطّر بها حروفي فتفاجئني أوراقي تحت يدي.
ايها الرجل الذي يحرضني على التأمل والأمل والفرح كلما سكنت الدنيا وطلع القمر، أتشوّق للقاء آخر معك".
بيد أنّ الشاعرة سندس سالم النجار؛ وهي شاعرة عراقية جميلة اللفظ والمحيّا، تنصر مبدأ الدكتورة نوال السعداوي، وترى مثلها أن الذكر علة ما تلاقيه الأنثى في حياتها من نكدٍ، مثلها في ذلك مثل كثيرات من كاتباتنا: فاتن واصل، نهى عايش، ليندا كبرييل، إقبال قاسم حسين، وسواهن من كاتبات زماننا المكتنز بالتغيرات المفاجئة، والمنعطفات الحادة. فتكتب لها الشاعرة عبارة تنضح ولاء وإعجاباً ومحبة:
"سيدتي – نوال السعداوي - المنورة موقع الحوار المتمدن دوما
أود ان أقول : عندما أقرأ لجنابك تستبق الدموع الى عيني
لسعادتي الغير طبيعية بنماذج نسائية امثالك وجرأتك ونقاؤك وثقتك العالية بنفسك ، حيث إنك تدفعين بعجلة حماسي للعمل والمضي نحو الامام كل مرة الف خطوة ... أطال الله عمرك لتكوني رمزا لنا ابداً".
بخلاف الأستاذة مكارم إبراهيم، التي سترفض مبدأ الدكتورة نوال السعداوي، والتي ستدعو إلى وجوب البحث عن مبادئ صحيحة يمكن بفضلها فهم مشكلات المرأة، وهي تعدد تناقضات الدكتورة في مقالة لها بعنوان (تناقضات الدكتورة نوال السعداوي) في غير ما جزع، أو شعور بالتهيب إزاء تاريخها العريق المصطخب بالنضال من أجل الأنثى:
"اليوم وجدت عنوانا كبيراً للكاتبة السعداوي (المرأة تحارب على كل الجبهات ) وفي الواقع ليست لدي أية اعتراضات على هذا العنوان لأنه بالفعل المرأة تحارب على كل الجبهات لكن لم تناقش الكاتبة السعداوي عنصراً هاماً في اضطهاد المرأة، ألا وهوعامل المراة نفسها في بعض الاحيان . فليس حتمياٌ ان يكون اضطهاد المراة من قبل الرجل، بل يمكن ان تكون المرأة هي التي تقمع أختها المرأة. ولهذا علينا أن نحدد ساحة الصراع في قمع المرأة بدقة أكثر".