لماذا عارضت المؤسسة الدينية قانون الأحوال الشخصية؟



عبدالخالق حسين
2011 / 7 / 18

بمناسبة الذكرى الثالثة والخمسين لثورة 14 تموز 1958 المجيدة، ولكوني أحد المهتمين بتاريخ الثورة، حيث صدرتْ حديثاً، الطبعة الثانية من كتابي الموسوم: (ثورة وزعيم)، استلمت دعوة من صحيفة (الصباح) البغدادية الغراء، للإجابة على السؤال التالي: "لماذا اعترضت المؤسسة الدينية في العراق على قانون الأحوال الشخصية رقم 188، لعام 1959 الذي أصدره الزعيم عبدالكريم قاسم، رئيس حكومة ثورة 14 تموز آنذاك؟؟" ويبدو أن الأخوة المسؤولين في الصحيفة المذكورة لم يعجبهم الجواب الذي قدمته أدناه، لذلك منعوا المقال من النشر، سامحهم الله!

لا شك أنه من المفيد مراجعة هذا الحدث العظيم الذي ترك آثاره، الإيجابية والسلبية، في تاريخ العراق الحديث. ومن منجزات الثورة، إصدار قانون الأحوال الشخصية الذي واجه معارضة عنيفة من المؤسسة الدينية وبتحريض من القوى السياسية المناوئة للثورة وقيادتها آنذاك. وللإجابة على السؤال أعلاه، يجب أن نشير إلى بعض الحقائق التي هي من المسلَّمات في علم الاجتماع.

الحقيقة الأولى، أن التغيير، أو التطور هو سنة الحياة، والمجتمع البشري في تغيير دائم، فإذا سمح له دون عقبات من البنية الفوقية (السلطة الحاكمة)، يحدث هذا التغيير عن طريق التطور السلمي التدريجي (evolution). أما إذا منعت السلطة التطور، فيحصل الصراع بين المجتمع والسلطة، وتتراكم التناقضات إلى أن تصل النقطة الحرجة، فيحصل الانفجار، أي التغيير السريع أو ما يسمى بالثورة (Revolution)، فينتقم التاريخ لنفسه ليعوِّض عن الزمن الضائع وما تراكم من مستحقات تاريخية في عملية التطور، أي أن التراكم الكمي يؤدي إلى التغيير النوعي في قانون الفيزياء.
ويشرح العلامة علي الوردي التطور والصراع بقوله: "فمن خصائص التغير البطيء أن المجتمع يتكيف له ويتلاءم معه بمرور الأيام، فلا يظهر فيه صراع عنيف أو تناقض بين القديم والجديد على منوال ما يظهر إثناء التغير السريع الذي لا يؤثر في جميع أجزاء الكيان الاجتماعي على درجة واحدة، فكثيراً ما يكون هناك جزءان مترابطان، ثم يحدث التغير في أحدهما دون أن يحدث في الآخر، أو هو قد يحدث في أحدهما أسرع مما يحدث في الآخر، فيؤدي ذلك إلى صراع أو توتر أو تناقض بينهما، وهذا هو ما أسميته بـ (التناشز الاجتماعي).

الحقيقة الثانية، أن السياسة متغيرة والدين ثابت. فالسلطة السياسية المدنية مهتمة بشؤون الناس الحياتية في هذه الدنيا والتي تتغير مع الزمن، بينما المؤسسة الدينية مهتمة بشؤون الناس الدينية والأخروية، وتعارض التغيير.

وهذا الصراع بين الثابت والمتغير موجود على مدى التاريخ، لذا فمن الطبيعي أن تعارض المؤسسة الدينية كل جديد في المجتمع ومنه قانون الأحوال الشخصية الذي أصدرته حكومة ثورة 14 تموز. ولكن لو تأملنا التاريخ الحديث لوجدنا أن المؤسسة الدينية لم تعارض التحولات الاجتماعية فحسب، بل وعارضت حتى بعض الاختراعات العلمية والتكنولوجية والفنون بأنواعها. فالتاريخ الحديث يخبرنا عن الكثير من هذه الاعتراضات، وعلى سبيل المثال لا الحصر، اعترض رجال الدين في مصر على مد أنابيب المياه لأول مرة ونصب صنابير في البيوت ودوائر الدولة وغيرها، بحجة أن هذه الأنابيب لم تكن موجودة في عهد الرسول، إذَنْ فهي بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة صاحبها في النار!! وأخيراً انتصر العقل فأفتى شيخ على المذهب الحنفي بحلالية ماء الصنابير للوضوء وغيره من الاستخدامات، لذلك سمي الصنبور بالحنفية!! كذلك عند دخول القطارات لأول مرة في مصر والعراق، أحتج أحد رجال الدين وصرخ في الناس قولته المشهورة: "أتتركون حمير الله وتركبون الشمندفر!!؟؟"

وعليه فلا غرابة أن تعترض المؤسسة الدينية على قانون الأحوال الشخصية الذي أصدره الزعيم عبدالكريم قاسم رئيس حكومة ثورة 14 تموز آنذاك. وغني عن القول أنه لا يمكن تحقيق التقدم لأي شعب، ونصفه مشلول ومحروم من حقوقه الإنسانية. فالمرأة التي تشكل نصف المجتمع، كانت محرومة من أبسط حقوقها الإنسانية بما فيها المساواة مع أخيها الرجل في الحقوق والواجبات والمسؤوليات في المجتمع العراقي. لذلك أرادت قيادة الثورة أن تصحح هذا الخلل، وتلغي الإجحاف بحق المرأة، فأصدرت قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959، الذي ساوى بين الرجل والمرأة في الإرث، وشهادتها في المحاكم، ووضع شروطاً وضوابط على تعدد الزوجات، وحق الزوجة المطلَّقة في حضانة أطفالها..الخ. وقد نال هذا القانون ترحيباً من قبل غالبية المجتمع، وبالأخص النخب المثقفة، وخاصة علماء الاجتماع والحركات النسوية، حيث وصف بأنه أحد أكثر القوانين تحضرا في الشرق الأوسط لما له من ميزات ايجابية، وساهم في تنظيم الأسرة والحقوق الإنسانية للمرأة وفق اجتهادات وأحكام كل مذهب من المذاهب الإسلامية، رغم تبايناتها، ضمن قانون مدني موحِّد لمعظم العراقيين على مختلف انتماءاتهم الدينية والمذهبية.
ولكن ما أن صدر هذا القانون التقدمي حتى واستغله أعداء الثورة السياسيون واعتبروه خروجاً على الشريعة الإسلامية وعملوا على تأليب رجال الدين ضده وضد قيادة الثورة لأغراض سياسية.

وهنا يبرز لنا سؤال آخر وهو: لماذا استجابت المؤسسة الدينية في نهاية المطاف لدخول المخترعات العلمية والتكنولوجية رغم معارضتها لها في أول الأمر، بينما استمرت في معارضتها لقانون الأحوال الشخصية؟
الجواب هو: إن دخول المخترعات وبعض العادات الجديدة الغريبة على المجتمع لا تثير ضجة كبيرة ومعارضة عنيفة إلا إذا كنت تضر بمصلحة فئات معينة، وهناك قوى سياسية مستفيدة من معارضتها لها، فتعمل على توظيف المؤسسة الدينية لأغراضها السياسية. فدخول القطار وأنابيب إسالة الماء هما في صالح الجميع، وليست من مصلحة أية قوة سياسية معارضتها، لذلك لم تتلق المؤسسة الدينية دعماً لموقفها من هذا وذاك من الجديد الوافد، فتتوقف عن معارضتها. أما قانون الأحوال الشخصية، فهو مثير للجدل، ويمس مصلحة وأنانية الرجال في الصميم، كما وصدر في فترة الصراع السياسي العنيف بعد الثورة، حيث كانت هناك قوى سياسية تضررت مصالحها من ثورة 14 تموز فناصبت العداء لحكومة الزعيم عبدالكريم قاسم، لذا استغلت هذه القوى صدور القانون، واستعملته كورقة رابحة لديها ضد الثورة وقيادتها. فالقانون المذكور، ومهما قيل عنه، ورغم تناقضه في الظاهر مع بعض النصوص الدينية، مثل تعدد الزوجات، ومساواة المرأة في الإرث...الخ، ولكن في الجوهر كان منسجماً مع الدين الإسلامي الحنيف. فعلى سبيل المثال، نذكر مسألة تعدد الزوجات، إذ أفتى المصلح الكبير الإمام محمد عبده، مفتي الديار المصرية في العشرينات من القرن العشرين، بأن حكم الإسلام في تعدد الزوجات هو اقرب إلى التحريم. حيث جاء في القرآن الكريم: "وانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع" ولكن في نفس الوقت، وضع شرط العدالة بين الزوجات، إذ قال تعالى: "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة"، ولكنه أكد على استحالة العدالة بين الزوجات، لذلك جاء في آية أخرى: "ولن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم". ومن هنا نعلم أن تعدد الزوجات في حكم التحريم، ولو بشكل غير مباشر.

على أية حال، استغلت القوى السياسية المعادية للثورة هذا القانون وحركت المؤسسة الدينية لتحقيق أغراض سياسية. ولتعقيدات الوضع والصراع الدموي بين قوى اليسار واليمين، انحازت المؤسسة الدينية إلى الجانب السياسي المؤيد لموقفها الديني في تفسير القانون، أي إلى جانب القوى المضادة للثورة، وبالتالي نجحت تلك القوى السياسية في اغتيال الثورة وقيادتها في الانقلاب الفاشي في 8 شباط 1963، وكان أول قانون تلغيه سلطة الانقلاب هو قانون الأحوال الشخصية، ولكنهم اضطروا فيما بعد إعادة العمل به بعد إلغاء المواد المتعلقة بالإرث إرضاءً لرجال الدين. وهكذا أدخلوا العراقي في نفق مظلم دام أربعين عاماً عجافاً، دفع الشعب العراقي وبالأخص المؤسسة الدينية ذاتها، ثمناً باهظاً، وما زال يدفع الشعب تبعات سقوط ذلك النظام الفاشي.
نتمنى أن تكون النخب السياسية والمؤسسة الدينية قد استخلصت الدروس والعبر من هذا التاريخ الحافل بالمآسي.
[email protected]