المرأة بين العصر الجاهلي والعصر الإسلامي



عبد الغني سلامه
2011 / 9 / 15

صحيح أن الحياة الاجتماعية في الجزيرة العربية قبيل ظهور الإسلام والتي أصطلح على تسميتها بالفترة الجاهلية، كانت تتسم بالكثير من مظاهر التخلف وفيها العديد من صور الظلم والاستغلال والعبودية، ولكن كثيرون ممن تحدثوا عن تلك المرحلة بالغوا في وصفها ورسموا لها في أذهاننا صورة قاتمة مظلمة، ونعتوها بأقذع الأوصاف واختزلوا كل تلك الحقبة ببعض الممارسات الشاذة كالوأد والسبي، ولكن الحقائق التاريخية تنبؤنا عن أشياء كثيرة مختلفة تماما عمّا دأب على وصفه مؤرخو الجاهلية وصدر الإسلام.
والحقيقة أن بعض هؤلاء المؤرخين ينطلقون من نوايا طيبة، ويهدفون لإظهار مدى التأثير الكبير الذي أحدثه الإسلام في حياة القبائل العربية، ولإبراز فضله في إحداث النقلة النوعية للأمة العربية بشكل عام، بينما ينطلق مؤرخون شعوبيون من أحقادهم على العرب، وآخرون ينطلقون من رؤى حزبية ترمي إلى ترسيخ مفاهيم أيديولوجية معينة، وبالذات في الجانب الاجتماعي، وقد أخذت المرأة النصيب الأكبر من هذه المفاهيم ومثّلت حجر الزاوية في بناء المجتمع الذكوري شبه الإقطاعي القائم على العبودية والاستغلال.
وبالرغم من سيادة المفاهيم الرجولية على كل تفاصيل ومكونات المجتمع العربي قبل وبعد الإسلام، إلا أنه كان للمرأة حضورا لافتا ومهما في مختلف الجوانب، ليس في العصر الجاهلي وحسب بل وفي الدولة الإسلامية أيام الرسول وبعده، ولم يقتصر دورها في الحياة الاجتماعية بل وفي صلب الحياة السياسية، وحتى في مجال العلاقات القبلية، فكثيراً ما كانت النساء تشارك في حل النـزاع بين القبائل، أو تأجيج الخلافات وإشعال الحروب، كما فعلت البسوس في الحرب التي سميت على اسمها، وهند بنت عتبة في معركة أُحُد وعائشة بنت أبي بكر في موقعة الجمل، ولكن مشاركة المرأة السياسية عموما كانت من وراء ستار، الأمر الذي جعل مشاركتها هامشية حينا ومستترة أحيانا، أو غير مدونة ولم يأتي على ذكرها أحد، فالتي أسعفها الحظ وبرزت دخلت بوابة التاريخ وذُكرت في سجلاته، والتي لم يسعفها الحظ طواها النسيان.
وقد سجلت لنا المصادر التاريخية نساء كثيرات بنَيْنَ لأنفسهن قصص نجاح مميزة، أو تميّزن بالشخصية القوية أو برجاحة العقل، فزرقاء اليمامة مثلاً كانت تستشرف بذكائها ما وراء الأفق، وجهيزة قطعت ببلاغتها قول كل خطيب، وخديجة بنت خويلد كانت تجارتها تعادل ثلث تجارة مكة بأكملها، وفيلة الانمارية كانت تاجرة مهمة تبيع وتشتري بنفسها، وخالدة بنت عبد مناف، وصحر بنت النعمان اشتهرتا بالحكمة والذكاء والكمال، وكانت العرب تتحاكم عندهن في المشاجرات والأنساب، وهنالك خولة بنت الأزور الفارسة الشجاعة، والخنساء الشاعرة المخضرمة .. وبالإجمال يمكن القول أن وضع المرأة لم يكن بالصورة السيئة التي يحاول البعض رسمها، ولم تكن شخصيتها مستلبة تماما، فمثلا كانت المرأة تتمتع بحرية اختيار زوجها، وأن تشترط على زوجها أن تملك أمرها ولا يتزوج عليها. وما تسمية بعض القبائل بأسماء الأمهات كمزينة وبجيلة وباهلة، إلا دليل على المكانة الرفيعة للمرأة في ذلك الزمان.
وهذا خلاف للصورة النمطية التي طُبعت في أذهاننا عن وحشية المجتمع الجاهلي وهمجيته في تعامله مع المرأة، فلو كان ذلك المجتمع همجيا مع المرأة لما أنتج أروع قصائد الغزل وأقوى قصص العشق، فالحب العذري أشتق اسمه من قبيلة "عذرة"، وقد ارتبط الحب بالفروسية كما فعل عنترة في معلقته الشهيرة، واقترن بالوفاء كما فعل ابن الملوّح، وبالنُّبل كما في قصة كثيّر عزة، وكان الحب موضع تفاخر لا يخجل منه الطرفين، والجمال يُعبّر عنه بأعذب أبيات الغزل ويتغنى به العشاق، ولم يربط المجتمع الجاهلي سلوك المرأة الجنسي بالشرف، فعلى سبيل المثال كان هنالك أربعة أنماط من الزيجات منتشرة بين العرب قبل الإسلام ، ثلاثة منها تكاد تكون شكلا من الزنا حسب مفهومنا الحالي وحسب ما يقره الكثير من الفقهاء، وبالرغم من ذلك كانت النساء اللواتي يأتين هذا الفعل لا يتعرضن لأية تهم أو مضايقات، ولم يكن يُنظر إليهن كعاهرات منبوذات، وفي نفس السياق يقول سيد القمني أن الإله "هُبل" كان يمثل إله الخصب، وكانت عبادته تتضمن طقوس جنسية، وهذا يدعم القول عن وجود عبادة جنسية في الكعبة في الجاهلية طلبا للغوث والخصب، ومن أجل هذا كان من طقوس الحج في الكعبة في الجاهلية الطواف بها عرايا، بما في ذلك النساء.
وفي عصر الإسلام أخذت المرأة قسطا من حقوقها المدنية والشخصية، كحق الميراث ( نصف حق الرجل ) وحيازة الأموال، والتصرف في البيع والشراء، والوصية والهبة، وكان لها دورا مهما في الحياة السياسية، فكما هاجر الرجال إلى الحبشة فقد هاجرت النساء كذلك، وشاركن في بيعة العقبة، وقاتلن في الحروب، وفي العهد الراشدي كان للنساء دوراً في الفتوحات، وفي عصر عمر بن الخطاب ساد احترام رأي المرأة، وهو الذي قال: "اخطأ عمر وأصابت امرأة"، وفي العصر الأموي، برز دور المرأة أكثر حتى في الجانب الثقافي، فسُكينة بنت الحسين كانت صاحبة صالون أدبي يزورها أرفع الشعراء والأدباء.
ولكن النكسة الكبرى لمكانة المرأة بدأت بعد ذلك بزمن طويل، على يد فقهاء "نجد" الذين تمكنوا من تغيير نظرة المجتمع للمرأة، وخلق "ثقافة الحريم" التي تعززت أكثر في عصور التراجع والانحطاط، أما الزخم الإضافي في امتهان المرأة، فقد كان على يد فقهاء الإسلام السياسي في القرن العشرين.