وأد البنات بالزواج المبكر



عبد الغني سلامه
2011 / 9 / 18

مارس بعض العرب في جاهليتهم "وأد البنات" كإجراء وقائي ضد العار واحتمالات الغزو والسبي، أو للتخلص من هَمّ البنت قبل أن تكبر ويكبر همّها معها، وهذه الجريمة إن اختفت فعليا من حياتنا، فإن دوافعها ما زالت ماثلة في عقولنا، ونمارسها بشكل غير مباشر، من خلال الزواج المبكر، فالمجتمع ما زال ينظر الى المرأة على أنها عورة، جسدها عورة وصوتها عورة، وهي عبارة عن فضيحة متحركة يجب سترها بأسرع وقت ممكن وبأي شكل، هذه النظرة الدونية تسلب المرأة شخصيتها وتحرمها من حقها في الحياة والاختيار، وتدفع بالأسرة على الموافقة على تزويج الفتاة في سن مبكرة، قبل أن تكتمل أنوثتها وتنضج عاطفيا وعقليا، أي قبل أن ترى الحياة الحقيقية، وتستكشف أسرارها وخباياها، وتغوص في تعقيداتها، لتبلور لنفسها بعد ذلك شخصية وكيان.
وخطورة المسألة لا تكمن فقط في أن جسم الفتاة في هذا السن المبكر غير مهيأ للحمل والإنجاب، بل وإن عقلها أيضا لا يستوعب فكرة الزواج والبيت والأسرة وتربية الأطفال، وروحها البريئة التي ما زالت في طور الشرنقة، ولم تتحرر بعد لتطير في فضاءات الحياة، وفكرها لم يحلق بعد خارج حدود المطبخ، ولم يغادر دفاتر المدرسة، ونفسيتها غضة وطرية وعقلها لم يعي بعد معنى المسؤولية ومشقات الحياة، وتفكيرها السطحي سيقودها للموافقة على أول عريس يبهرها بشكله الزائف، أو حديثه المصطنع، فتسرع على استحياء وخجل وتومئ بالموافقة، وهي لا تدري تبعاتها وما سيترتب عليها، وبأن أحلى سنين طفولتها وشبابها ستُسرق منها.
المرأة ليست للمطبخ فقط، والزوجة ليست للفراش فقط، والأم لا يقتصر دورها على إطعام الطفل وإسكات جوعه، بل هي أكثر من ذلك، هي إنسانة كاملة، من حقها أن تجرب وتعيش، وتعرف معنى الحب وقداسة الحياة الزوجية، ومسؤوليات البيت وهموم الوطن، وأن تقتحم كل الأبواب والميادين، وتجمح بخيالها إلى ما لا نهاية، وتزور بأحلامها كل العواصم، وأن تفكر وتخطئ وتصيب.
والرجل الشرقي يرغب بالزواج من فتاة صغيرة قد يفصل بينهما عشرون سنة أو أكثر، لأنه يريدها "قطة مغمضة" يربّيها على يديه، ويصيغها كما يشاء، ويخضعها لمزاجه ونزقه، فهو حتما لا يريدها متعلمة واعية، حتى لا تشب عن الطوق وتتمرد، بل يريدها تابعة له، مُلكاً خاصا، يضربها إن عصت، ويردعها إذا أقدمت، ويقمعها إذا انتفضت، فتطيعه إذا أمر، وتسره إذا نظر، وتنام إذا تعب، وتسهر إذا أرق، وتداويه إذا مرض، وتذعن له إذا طالب، وتسكت إذا صرخ، وتنفذ إذا قرر، مطلوب منها فقط: أن تلبي حاجاته، وتسهر على راحته، حتى إذا ما عاد إلى البيت وجد كل شيء جاهز على طبق من الفضة.
في هذا البيت سيكون الأبناء امتدادا لأبيهم الطاغي المستبد الأناني، والإناث امتدادا لأمهم المستضعفة الذليلة المقهورة.
في هذا البيت، حيث الأم الجاهلة، التي لم تتح لها فرص التعلم والمعرفة، سيهمل الأطفال ويتركوا للشارع، ولن تعرف هذه الأم كيف تجيب على أسئلة الأبناء، أو معالجة مشاكلهم، وتشجيعهم على الاجتهاد والاعتماد على النفس، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
ويشير الكاتب "بو علي ياسين" في كتابه "الثالوث المحرم" إلى معضلات نفسية عديدة تنشأ من جراء الزواج المبكر، فيقول: "الفتاة التي أمضت سنين حياتها الأولى في منـزل أهلها، لا تعرف عن العالم الخارجي الشيء الكثير، وتعودت على نمط معين من الحياة، وتأقلمت مع ظروف وعلاقات محددة، عندما يأتيها العريس وتوافق عليه تحت ضغط العائلة، وهي تجهل عنه كل شيء، ولم تره من قبل، ستجد نفسها فجأة وبين ليلة وضحاها قد انتقلت إلى عالم جديد كليا، بالعلاقات والخصوصية والوجوه ونمط الحياة، قد تُصدم في بداية الأمر، ولكن أهلها الجدد سيطالبونها التأقلم مع الواقع الجديد، فتجد أن لا مفر من ذلك، فتلجأ إلى المسايرة وإلى دفن صرخاتها في داخلها، وكبت انفعالاتها وإظهار وجهها المبتسم، الذي يخفي وراءه المعاناة والقهر".
ومع تراكم هذه العملية الاخضاعية عبر قرون متواصلة، وتوارثها من جيل إلى جيل آخر، وترسخها في أعماق وعي المرأة العربية، اكتسبت هذه المرأة صفات إضافية من السلبية وقدرة عالية على المسايرة، ومقدرة على الظهور أمام الآخرين بشكل مغاير تماما لما في داخلها، أي أنها تعودت على القبول بالحلول الوسط، وانتظمت في عملها داخل البيت وخارجه على أساس إرضاء الآخرين، وتجنب مواجهتهم.
معضلة اجتماعية نفسية أخرى يضيفها "ياسين"، ستنشأ عن الزواج المبكر – أي الزواج الذي لم تكتمل شروطه الطبيعية – فيقول: "هذا الشكل من الزواج سيعزز من نمط الأسرة البطريركية، وسيجعل المرأة المقيدة بهذا الزواج تسهم في تقييد الرجل بالدرجة الأولى، فالمرأة التي حُرمت من العمل، ستتكيف مع الضمان الاقتصادي والاجتماعي الذي يوفره الرجل، وبالتالي ستتمسك أكثر بهذا الشكل من الأسرة البطريركية لأنها اطمأنت إلى وضعها وضمنت مصروفها" .
ومن هنا يأتي التقييد الثاني للرجل، فتطمح المرأة إلى ضمان هذه الرعاية وتحسينها وتطويرها، أي تدعيم مكانة زوجها الاجتماعية وزيادة دخله، وبذلك تدفعه لأن يكيف نفسه بحسب الظروف، فلا يعارض الأشكال السائدة، ولا يفكر بتغيير المجتمع للأفضل، بل يقوم بكل ما يؤمّن له زيادة في دخله، ويحفظ مكانته الاجتماعية، دون أي مجازفة، ضمن علاقات الملكية والسلطة القائمة. هذه الحرب النفسية التي تشنها المرأة على زوجها لتحسين دخله ستؤثر عاجلا أم آجلا على سلوكه ومبادئه، وقد تحرفه، والنتيجة هي أن تسلط الرجل على المرأة ينقلب إلى تسلط المرأة على الرجل، هذا إذا أراد الرجل لحياته الأسرية الاستمرار والدوام، وبما أنه لا يوجد لديه بديل – والرجل عادة يميل إلى المحافظة على أسرته – فإن الأمر لن يقتصر على تكيف المرأة مع الظروف السائدة، بل سيتعداه إلى إرغام الرجل كذلك على الخضوع للوضع الراهن والسلطة القائمة.