نماذج من القهر الاجتماعي - النساء والأطفال ضحايا تخلفنا



عبد الغني سلامه
2011 / 9 / 24

لا نبالغ إذ قلنا أنه من المفجع أن يولد الإنسان أنثى! وخصوصا في المجتمع العربي، فالأنثى في الأسرة العربية تتلقى معاملة مختلفة عن أقرانها من الذكور، فهي تشعر منذ نعومة أظافرها بأنها غير ضرورية، وغير مرغوب بها، وأنها عبء على العائلة، وفضيحة يجب سترها، وهمٌّ سيكبر معها ويلازم أسرتها حتى مماتها، في حين أن الذَّكر هو كسب للعائلة، وسند لها، وموضوع مفاخرة ومباهاة، ومن المتوقع إذن أن تلقى الأنثى في أثناء الطفولة اهتماما أقل مما يتلقاه الذكر، ومن النادر أن تكون مركز الاهتمام الأول في العائلة إذا كان لها أشقاء، ولكن هذا يتيح لها أن تنمو بحرية أكثر، وأن تتعلم كيف تواجه المصاعب بنجاح، لأنها لا تخضع للضغط نفسه الذي يخضع له الذكر، ولذلك فهي تميل إلى النضوج أسرع، وتتعلم كيف تواجه مشكلات الحياة بصورة أكثر فعالية من الذكَر، الذي عادة ما يكون كسولا متواكلا ينتظر المساعدة ويطلب العون، ولا يكف عن إلقاء الأوامر، لأنه يشعر بنفسه مركز الاهتمام، ومحاط بالرعاية.
إذاً، فالأولوية والاهتمام الزائد الذي يُعطي للصبي على حساب البنت يتيح للبنت شيئا من الحرية والانفلات من دائرة الرقابة والحصار العاطفي، بحيث تصبح قادرة على تطوير قواها الذاتية باستقلال وسرعة لا نجدها عند الصبي، ولهذا تتكون شخصية الأنثى باكرا، ويصبح بالإمكان قيامها بواجبات أعباء لا يستطيع الذكر القيام بها في مثل سنها.
ولذلك فإن الفتاة العربية عندما تتاح لها نفس الفرصة المتاحة لشقيقها الشاب تستطيع أن تتفوق عليه في كثير من الأحيان، وهذا ينفي الصورة السلبية المطبوعة للمرأة في أذهان مجتمعنا، بأنها سلبية وعاطفية، وعقلها ناقص، وضعيفة، ولا تصلح لمعظم الأعمال، وأن مجالات إبداعها تنحصر في المطبخ، وفي أحسن الأحوال إذا ما خرجت للمجتمع والعمل، فإن مجالات إبداعها تنحصر في التعليم والتمريض وبعض المهن النسائية، والواقع أنها نظرة مريضة مشوهة، منطلقة من المورثات الاجتماعية التي تمنح الرجل مكانة متميزة متفوقة على المرأة.
فالعلم أثبت أن عقل المرأة مساوي للرجل، أما الجسد فإنه يمكن اعتباره ميدانا للتمرين والتعود، بالإمكان تطويره وتنمية قدراته الفيزيائية حسب الاستعمال، وهذا يتناقض مع النظرة البرجوازية التقليدية للأنوثة، التي تكاد تحصرها في الشعر الناعم والبشرة الطرية والخدود الغضة والشفاه المكتنـزة … فالأنثى في المجتمعات الريفية التي تعتمد على عمل المرأة في الحقل، تفتقر لهذه المقومات المزيفة للأنوثة، فيداها خشنتان وعضلاتها قوية وعاطفتها أكثر قسوة وعملية، وهذا يدعونا إلى إعادة تعريف الأنوثة، تعريفا يختلف عن التعريف السائد، الذي يجعل منها موضوعا وجنسا، وسلعة تستغل للأغراض التجارية، وتبرر تخلف الرجل.
أما ما نراه الآن فعليا من ضعف للمرأة، وانسحاق لشخصيتها، فيعود إلى عوامل اجتماعية واقتصادية سياسية تراكمت منذ مئات السنين، ضَغطَت على المرأة وقولبتها وأثّرت بها، حتى أوصلتها إلى هذا الحد، حيث ستحتاج المرأة إلى كفاح مرير، حتى تتحرر منها وتعود إلى طبيعتها الأصلية، كإنسان كامل غير منقوص.
ولعل ما يدعم وجهة نظرنا هذه بعض الأمثلة والشواهد في تاريخنا القديم والمعاصر، الذي يؤكد على تفوق المرأة وقدراتها اللامحدودة، وهذا يتجلى بصورة خاصة عندما تتاح للمرأة الفرصة وتتوفر لها الظروف الطبيعية، فخولة بنت الأزور كانت مقاتلة أشد بأسا من الفرسان، والخنساء أحسن شعرا من جهابذة شعراء عصرها، وعائشة بنت أبي بكر كانت قد قادت معركة بنفسها، وسكينة بنت الحسين استقطبت في صالونها كل أدباء عصرها ومشاهيره، وسميّة أول فدائية في الإسلام، فاق صبرها وصمودها صبر ابنها عمار، أما في عصرنا الراهن فالأمثلة كثيرة ولا مجال لحصرها هنا.
ويعتبر د. شرابي أن مفتاح الحل للتغيير الجذري يكمن في التحول نحو النظرة الإيجابية للمرأة ومساواتها بالرجل، وتحرير عقلها من الخرافة والتقليد، وأنه من المستحيل أن يتغير المجتمع العربي ما دامت المرأة العربية في وضعها الراهن، وذلك لأنها هي التي تصنع الإنسان العربي، وطالما أن المرأة العربية لم تتغير بعد فالإنسان العربي غير قابل للتغيير، ونحن عندما نقول الإنسان العربي لا نعني الرجل فقط، بل المرأة والرجل معا على حد سواء، المرأة هي نصف المجتمع، وعندما يكون النصف مشلولا ومعطلا، يصبح الكل مشلول ومعطل، وتحرير المرأة - حسب د. شرابي - لا نعني به مجرد إرسال البنات إلى المدارس أو إزالة الحجاب، أو منحهن بعض الحقوق المدنية، فالتحرير لا يتحقق نهائيا بمجرد اقتباس العادات والملابس والمدارس الغربية واستيراد الثقافات الأجنبية، فهذه ليست إلا مظاهر خارجية براقة زائفة، كثيرا ما تخفي وراءها أنماطا من الاستغلال والاستعباد للمرأة، وبالتالي تمنع تغييرها وتحررها.
إن تحرير المرأة لا يتم في النهاية إلا بتغيير علاقتها بالرجل، وهذا يعني تغيير دورها ومكانتها في المجتمع وفي العائلة، وهو التغيير الجذري الذي يمكّنها من تحقيق قدراتها الإنسانية بصورة كاملة متساوية مع الرجل، وعندها تصبح إنسانة بكل معنى الكلمة، وبالتالي يمكننا القول أن الإنسان العربي أصبح إنسانا مكتملا، لا نصف إنسان.
إن عملية تحرير المرأة هي إذا عملية انعتاق شاملة تُبدّل العلاقات الاجتماعية من جذورها، وهي لا تحدث بمجرد قبول لفظي لحقوق المرأة، بل هي حصيلة صراع طويل، أي أن تحرر المرأة في مجتمعنا جزء لا يتجزأ من عملية تحرير الرجل وتحرير المجتمع بأسره.
ويؤكد أيضا د. شرابي أن مفتاح التغيير الاجتماعي نحو الأفضل، يكمن في وضع حد لهذا الإرهاب الذي يمارسه المجتمع على أطفاله بواسطة الآباء والأمهات، بمعنى آخر، إذا لم يمنح الجيل الحالي قدرا كافيا من الحرية والاستقلال ليتعلم كيف يتدبر أمره بنفسه، ويحل مشكلاته دون تدخل من الجيل القديم، أو ضغط أو إلزام، وكيف يتحمل مسؤولية أعماله ويجابه تحدياته دون خوف أو تهرب أو إدعاء بالعجز، فإننا لن نستطيع أن نغير في المجتمع سوى مظاهره الخارجية الشكلية الزائفة، وعندئذ سنبقى كما نحن: عائلات وعشائر وطوائف متنافرة، في مجتمع متفسخ قائم على التسلط والإرهاب الفكري، وتكرار نفسه بصورة مملة مقيتة وعاجزة عن مجابهة التحدي الحضاري، وعن القيام بمهماته الأساسية تجاه نفسه وتجاه العالم.

النساء والأطفال ضحايا القهر الاجتماعي

في العام 2008 قُتل أكثر من تسعة ملايين طفل في العالم، في العراق وحدها مليون مطلقة و 4.5 مليون أرملة وأضعاف هذا الرقم من الأطفال الأيتام، في الأردن أكثر من مائة ألف آنسة ممن تجاوزن السن المتعارف عليه للزواج، أي أصبحن بالعرف الاجتماعي "عانسات"، بينما بلغ عددهن في السعودية مليون "عانس" بالتمام والكمال، وفي مصر تسعة ملايين، في فلسطين بلغت حصة النساء من المجموع الكلي للأمية أكثر من 70%. ( نسبة الأمة الكلية في فلسطين 6.5 % ).
وهذه الإحصاءات مجرد غيض من فيض، مما يزخر به المجتمع العربي من نماذج للتخلف والقهر الاجتماعي الذي تمثل فيه النساء والأطفال الضحية الأولى، وقد ينظر البعض إليها على أنها مجرد أرقام، ولكن الحقيقة هي أنها تعكس طرائق التفكير في المجتمع العربي والنظرة الدونية تجاه النساء والأطفال وأسلوب التعامل معهما.
فضائل المجتمع "المحافظ" التي يتغنّى بها البعض، حَرَمت ملايين الفتيات من حقهن في التعليم، وسلبتهن نعمة الحياة الحرة الكريمة، فبسبب الموروثات الثقافية السلبية مُنعت الفتيات من إكمال دراستهن، ومن العمل والانخراط في الحياة العامة، وبسبب الميراث أحيانا مُنعن من إختيار الشريك، أو فُرضت عليهن زيجات أشبه بصفقات البيع.
لا يستطيع أحد تخيل حجم المأساة، إلا إذا عاش معاناة آنسة فاتها قطار الزواج، في ظل مجتمع يقيّم المرأة بمعيار الزواج قبل أي شيء آخر، وفي ظل ثقافة تجعل من المتعذر على أي إنسانة حتى لو كانت "عالمة" أن تشعر بكيانها خارج نطاق الزوجية، معاناة ممزوجة بالإحباط واليأس والشعور بالمرارة والحرمان .. ونيران أشواق لا تستطيع أن تطفئها كل بلاغات الخطابة, ولن نستطيع تصور مدى الظلم التي تكابده من أُجبرت على الاقتران بمن هو بعمر أبيها، أو من تُجبر على تجرع كأس الهوان والذل يوميا مع زوج نذل تعجز عن عصيان أوامره.
ولن نستطيع تخيل الخوف والضعف والجوع والضياع الذي يعانيه أطفال اضطروا للعمل، أو تشردوا في الشوارع، أو قصفت الحروب ذويهم، وأبقتهم بلا مأوى، أو أجبرتهم ظروف الحياة القاسية أن يعيشوا في بلا طفولة، بينما تذوي إنسانيتهم شيئا فشيئا.
هل فكر أيٌ من أمراء الحرب على امتداد الوطن العربي فيما تفعله رصاصة طائشة ؟ وما تخلفه قذيفة عشوائية من مآسي وكوارث وويلات !؟ وهل ندرك حجم الفرق الذي ستحدثه من أتيحت لها فرصة الإختيار الحر ؟ وهل ندرك حجم الخسائر من تشرد ملايين الأطفال الذين كان ينتظرهم مستقبل مختلف ؟ !
قبل أن ننتقد المجتمعات الغربية - التي فيها الكثير من المساوئ والسلبيات - علينا أن ننظر إلى دواخلنا لنرى الخرائب، التي تأبى حتى الغربان أن تنعق فوقها.