مشكلة المرأة والمثقفون في متغيرات العقود الأخيرة



عادل حبه
2011 / 11 / 23

مشكلة المرأة" والمثقفين في متغيرات العقود الأخيرة
(1 – 4)
الناشطة النسوية الإيرانية د. نيّره توحيدي
"المدرسة النسوية"
تعريب عادل حبه


نيّره توحيدي


إن الظروف المعقدة التي تحيط بإيران قد زادت من الأمور المتعلقة بالمرأة تعقيداً، وحولتها إلى مشكلة حقيقية. ومن أجل التعرف على هذه التعقيدات والبحث عن حلول للخروج من المآزق الموجودة في تاريخ إيران المعاصر، تلقي الدكتورة نيّره توحيدي في مقالتها الأضواء على مشكلة المرأة بالاستناد إلى الوثائق وإلى آراء المثقفين الإيرانيين البارزين حول الديمقراطية والثقافة والأدب والعلوم الاجتماعية والسياسة. وفي هذا البحث، سعت الكاتبة، عند استعراضها وجهات نظر بعض المثقفين المعارضين المعروفين، إلى أن تبدي رأيها وتضع اليد على النقاط المحورية لـ"مشكلة المرأة"، التي هي مثار جدل واسع الآن، وإلى سلوك الطريق الواقعي لتحرير المرأة من هذه المشكلة. ومن اللافت أنه قد مر على هذا البحث عدة عقود ( نشر في عام 1989)، إلاّ أن تحليلات البحث ونتائجه مازالت تحتفظ بحيويتها وجاذبيتها، رغم التفاوت في وجهات النظر ومنهجية التحليل والرؤى وهي طبيعية

خصوصيات "مشكلة المرأة" في إيران

في إيران، شأنها في ذلك شأن كل الدول التي يطلق عليها "العالم الثالث"، تحولت قضية المرأة إلى "مشكلة"، وما ينتج عنها من تبلور حركات النهوض بالمرأة، التي اتخذت مساراً مغايراً للمسار الذي قطعته الحركات النسائية في الغرب. وهذا يؤكد واقع أنه على الرغم من كون "مشكلة المرأة" هي مشكلة عالمية ولها أوجه مشتركة وأسباب ومطالب بنيوية واحدة في كل البلدان، ولكن نظراً للظروف التاريخية والسياسية والثقافية ومستوى النمو الاقتصادي، فإن كل بلد يتمتع بخصوصياته في هذا الإطار.
لقد طرأ تحولان كبيران اقتصادي وسياسي في أوربا على "مشكلة المرأة"، أديا إلى أن تنحى إيران منحى آخراً. ونعني بالتحولين هما الأول: الثورة الصناعية وتطور الرأسمالية الذي عرج على إيران على شكل واردات غير أصيلة وناقصة وغير متوازنة. أما التحول الثاني: الديمقراطية السياسية والثقافية التي لم تجد طريقاً لها في إيران. على سبيل المثال كان من الممكن أن تلعب ثورة المشروطة نفس الدور الذي لعبته الثورة الفرنسية الكبرى، والتي أعقبتها بقرن تقريباً، ولكنها لم تستطع أن تنشر الصناعة والتكنولوجيا والحضارة بكل أبعادها وجوانبها، ولم تستطع أن ترسي الديمقراطية على أنقاض الاستبداد. وعلى هذا الأساس لم يتم فصل الدين عن السياسة، ولا إقامة حكومة منتخبة من الشعب على أنقاض الاستبداد الملكي وحكومة النخب المتوارثة، ولا بناء دولة القانون على انقاض حكومة الاستبداد. إن ثقافة عبادة ولي النعمة والأمر، والتشبث بالتقاليد والأبوية وسُنّة الخضوع للشاه وحكمه وظل الله جعلت من غير الممكن الحديث عن مسؤولية الحكم ومساءلته. وهنا لا نريد الخوض في بحث معقد ومثير للجدل حول أسباب تخلف إيران والكثير من بلدان "العالم الثالث" عن قافلة الحضارة الجديدة والحداثة، أي لماذا سارت الثورة الصناعية وانهار النظام التقليدي وولادة الرأسمالية في "الغرب" بشكل أسرع وأكثر فاعلية من "الشرق". ولكن أود هنا أن أعرج على التأثيرات الجانبية لما حدث على مكانة المرأة الإيرانية والخصوصيات المؤثرة على "مشكلة المرأة".
ملخص القول ينبغي الإشارة إلى أنه كان من الممكن أن يولد هذا التحول الاقتصادي والسياسي المشار إليه أعلاه وبشكل ذاتي من رحم المجتمع الإيراني وعلى أساس التاريخ والثقافة والديناميكية الداخلية للمجتمع، وأن تدشن إيران مسار الرأسمالية التي سار عليها الغرب. فقبل أن ينشأ وينمو الفكر الديمقراطي والنهوض التحرري وأفكار التجديد والتقدم الداخلي ، ينبغي عليه أن يكون هذا قادراً على مواجهة النظام التقليدي والعمل على محو الخرافات البالية في الثقافة المحلية، ولكنه واجه عامل التدخل الخارجي. أي أنه قبل أن تستطيع البدع والتقاليد، القديم والجديد، الإقطاعية والبرجوازية، المثقف والسلف أن ينظموا صفوفهم الثقافية والسياسية والاقتصادية أحدهم مقابل الآخر، دخل الاستعمار الاجنبي على الخط وأخلّ بالمسار الطبيعي لهذا الصراع الداخلي.
لقد فاجأت القوة الجبارة الأجنبية "الأمبريالية"، بقدرتها الاقتصادية والثقافية، البورجوازية الناهضة والفتية والثورية في إيران قبل أن تبلغ هدفها وتقف على رجليها وتصبح قادرة على إزاحة النظام القديم والترويج لأفكار"الحرية والإخاء والمساواة". وهكذا أُزيح من الميدان الممثلون والمفكرون الحقيقيون للرأسمالية التقدمية في إيران وأنصار التجديد السياسي من أمثال أمير كبير وزين العابدين مراغي وطالبوف وميرزا أقا خان كرماني وآخوند زاده وتاج السلطنة وملكم خان وتقي زاده. وآثر من بقي من رموز هذا التيار تبني التجديد الشكلي المستورد ونسخة أخوية من ما بقي من القشور الثقافية في الغرب. وكان من حصيلة هذه التسوية التي تمت خاصة بعد ثورة المشروطة هو تشكيل مثلث غير متجانس من القومية الإيرانية والمؤسسة الدينية الإسلامية وأنصار التجديد الغربي. وانغمر هذا الثلاثي في صراعات طوال التاريخ المعاصر في إيران، وكانت الكفة تميل لهذا الطرف أو ذاك من هذا الثلاثي.
إن عملية التطور الاقتصادي والتحولات الثقافية في إيران، وخاصة التحديث الذي جرى خلال العقود الأخيرة وكانت أحادية الجانب، وواردات وذات طابع شكلي، وبعبارة أخرى بنوع من التسرب مع "الغرب". ولكن هذا التطور يختلف بشكل ملموس ومهم عن التطور في أوربا وأمريكا، والتي أدت إلى نتائج خاصة بالارتباط مع تركيب الأسرة والعلاقات الجنسية ودور الجنسين و "مشكلة المرأة".

انعدام الديمقراطية

ومن ضمن هذه الاختلافات، هي أنه خلافاً لعملية التطور في "الغرب"، فإن تطور الرأسمالية في إيران كان خالياً من أية مشاركة واسعة من قبل المواطنين والديمقراطية السياسية. فخلافاً لما جرى في أوربا وأمريكا، لم تتمتع الأكثرية الساحقة من المواطنين الإيرانيين بفرص الاستفادة من الحقوق المدنية المشروعة والحريات الفردية والمشاركة في القدرة السياسية، فما بالك النساء. والسبب يعود إلى أن الحكم في إيران، بالرغم من ادعائه بحمل لواء التحديث والتطور الاقتصادي والتقدم الثقافي، وخلافاً لحكام عصر الثورة في فرنسا وحكام انكلتره، لم يحافظوا على القانون ولا البرلمان ولم يُنتخبوا من قبل الشعب الإيراني، وساروا على طريق الملوك الاقطاعيين في فرض الاستبداد والقمع والمبالغة في التنكر للقوانين وممارسة الفساد. وانعدمت الثقة بين الحاكم والشعب، وطغى الاغتراب على العلاقة بينهما. وتولدت هوة عميقة جداً بين الحكم والقطاع الحديث من الاقتصاد "قطاع الدولة في غالبه" من ناحية، وبينه وبين الشعب ونمط الانتاج المحلي ونمط المعيشة والقيم الثقافية والاخلاقية والعقائد من ناحية أخرى. وأضحت الحكومة المركزية والملكية بالعادة تقوم بدور الدلال لمؤسسات التطوير الأجنبية مثل البنك الدولي والشركات المتعددة الجنسيات. وأصبحت مهمة مشاريع التنمية مكرسة بالدرجة الأولى لتأمين الاحتياجات والمصالح الاقتصادية والسياسية لهذه المؤسسات، وليس لتأمين الحاجات الداخلية وضرورات التنمية الداخلية في إيران. إن عدم التجانس بين برنامج التنمية والمشاريع الاقتصادية وبين الاحتياجات الأصلية والأولية للمجتمع، وزيادة التفاوت غير الطبيعي وغير المخطط بين المدينة والريف، والتناقض بين النظام السياسي وبين النظام الاقتصادي، وخلاصة القول التناقض بين الظاهر والباطن، أدى بإيران إلى أن تصبح مجتمعاً مزدوجاً. لم يعاني المجتمع الإيراني قبل ثورة عام 1978 من فقر وفاقة اقتصادية من النوع الذي يشكل أزمة بنيوية أو بنيوية غير متوازنة. ولكنه من الناحية الثقافية والاجتماعية كان يعاني من انعدام الهوية والتشرذم والتفتت. ويختلف الإيرانيون عن الغرب في أنهم لم يكونوا من صنّاع السيارات ومخترعي التكنولوجيا الحديثة. وإن الظهور المتزايد للسيارات في حياة ساكني المدينة وحتى الريف لم يجر عبر عملية تدريجية وتراكمية. وهكذا لعب الهجوم المفاجىء والمستورد للسيارات والصناعة دوراً أسطورياً أشبه بجني مجهول ومثير للرعب والاضطراب قلب رأساً على عقب كل عادات ونمط الحياة التقليدية بدلاً من أن يوفر اليسر والراحة لحياة الناس. وكما يوضح كنديوتي عند شرحه للتنمية في تركية، فحال إيران يشبه لحال تركية حيث كان تغلغل وحيد الجانب، واقتصرت عملية التطور فقط على اختيار مصدره فحسب. فعلى سبيل المثال سمح للدخول إلى البلاد نمط حياة المدينة وما يتعلق بها من نوع الانفاق وكيفية قضاء وقت الفراغ والموضة والعمران والذوق والشرب فقط، وتشجيع استيراد السيارات وبناء عمارات متعددة الطوابق والراديو والتلفزيون والجاكت والبنطال والربطة ومجلات الموضة وسيجاير وينستون وساندويج ماكدونالد والديسكو وأفلام الكاوبوي. ومن ناحية أخرى جرى تحريم صناعة انتاج المعدات الصناعية وتوسيع الانتاج الداخلي والترويج للأفكار والقيم الديمقراطية للمفكرين في الغرب من أمثال مونتسكيو وروسو ولاك وميل وولستون وكرافت ودوبوار. وقمعت الاجتماعات واختيار مجالس المدن وتشكيل الجمعيات المهنية والسياسية وإصدار الصحف الحرة. وحُرّم كل ما يتعلق بممارسة الديمقراطية ومشاركة الجماهير ووجهت ضدها آلة القمع والبطش. ولذا اتخذ المجتمع في الظاهر لون المجتمع المتمدن والصناعي والرأسمالي، ولكن باطنه وما ترشح منه له لون مناقض.

لماذا أضفى فقدان الديمقراطية خصوصية على "مشكلة المرأة"؟

الفردية والهوية المستقلة: في ظل توسع المدن والصناعة وعملية انتشار قيم عصر التنوير وآماله، أي الاخاء والمساواة في الحقوق والحريات الفردية والمدنية، حصل المواطن في عصر الديمقراطية البرجوازية في أوربا ( وبعد ذلك في أمريكا) على هويته الفردية. ويعتبر الحصول على الهوية الفردية أمر إيجابي وضروري من ناحية علم النفس الاجتماعي. فالاستفادة من الحقوق الفردية تشكل أحد الخصائص المطلوبة في سلوك الأفراد في المجتمع الصناعي المتقدم. فضرورات مثل هذا المجتمع تؤكد على أن "الفرد" الواحد هو الذي يشكل المجتمع، وليس العائلة ولا العشيرة ولا الأصل ولا القبيلة ولا الطائفة، أي الفرد الذي يتمتع بالقدرة على العمل وله دور اقتصادي وسياسي، فرد يجب عليه أن يسعى وله الاستعداد لتحديد مكانته الاجتماعية في ظل وجود الامكانيات الاجتماعية المتساوية. أي فرد يبني نفسه. وينبغي عدم ارتكاب خطأ والخلط بين الفردية وبين ظاهرة التمحور وحب الذات التي هي عوارض غير حسنة. إن التمتع بالهوية الفردية واحترام الفردية لا يعني بأي حال من الأحوال نفي الأصل الاجتماعي للإنسان وضرورات الحياة الاجتماعية وحياة المجاميع الإنسانية. فخلافاً لما يردده الكثير من الأحزاب والمنظمات السياسية في إيران والمجتمعات النامية، فإن الاشتراكية العلمية (والاشتراكية الديمقراطية) لا تسعى إلى استحالة الفرد في الجمع أو محو الفرد لصالح الجمع، وينبغي أن لا يكون ذلك. فالفرد والجمع ينبغي أن يكونان على رابطة متبادلة وديالكتيكية في خدمة الواحد للآخر.
في الثقافة الاستبدادية، لا يوجد للفرد قيمة مستقلة، باستثناء الشاه والزعيم وعدد من النخب. أما بقية أفراد المجتمع فهم أعضاء بدون هوية ولا رأي ويفتقدون الفكر والسليقة المستقلة وتابعون للزعيم، سواء أكان أب العائلة أو الشاه أو ولي الأمر في المجتمع. وإرادة المجموع كالعادة هي نفس إرادة الزعيم الذي يفرض إرادته على الأفراد. وفي ظل هذه الثقافة تسود العلاقات الأبوية وتأليه الفرد وقيم الخضوع وعبادة الشجعان وفرسان النجاة، وخاصة بين النساء بسبب عدم تبلور الشخصية الفردية والهوية الفردية عندهن. فهويتهن مرتبطة بالعائلة والأصل والقبيلة والعشيرة أو بالمجاميع والتنظيمات المذهبية والسياسية. في المجتمعات الغربية ومع التوسع في الديمقراطية، فإن الفردية هي واقع فعلي وجزء من عملية نمو الشخصية وملازمة للسلامة والتعادل النفسي للأفراد. ويجري التأكيد على الاستقلال والاعتماد على النفس والهوية الفردية. ولكن تشكل الفردية بالنسبة للنساء، سواء في الغرب أو الشرق، هي أكثر صعوبة وأبطأ من عند الآخرين. فمن الواضح أنه كلما كان الموقع الاقتصادي والسياسي للمرأة متعلقاً بالأب أو الزوج أو الابن، يصبح التمتع بالهوية المستقلة والفردية أكثر تعقيداً وأقل عملية. وهذه المشكلة نواجهها حتى في المجتمعات الصناعية الغربية التي لم يجر حلها بشكل كامل حتى الآن، ولكنها في المجتمعات التقليدية والنامية مثل إيران فإنها تفعل فعلها بشكل أشد وأكثر عمقاً. فكلما كانت تركيبة العائلة أكثر أبوية، فإن التمتع بالفردية للأولاد والبنات تصبح أكثر صعوبة. ويشير بعض علماء علم النفس الحديث إن مؤسسة الأمومة والبنية العائلية التقليدية تشكل أحد العوامل المهمة في إعادة توليد وانتاج الرأسمالية الأبوية. فعلى سبيل المثال يعتقد كل من جوليت ميتشل وهربرت لرنر ونانسي جادرو أنه مادام الأب يمثل نموذج المواطن في عين الطفل، فإنه يعني مصدر القوة وهو الذي يؤمن الحاجيات والإمكانيات المادية للحياة، وهو الذي يتخذ بالدرجة الأولى القرارات في القضايا المهمة. أما الأم فتلعب دوراً عاطفياً وبمثابة عضو ملحق بلا حول ولا قدرة أو محدود القدرة في العائلة الضيقة والمغلقة. ولهذا يعتبر سعي الطفل للتشبه بالأب هو سعي يؤدي إلى الاستقلال وتبلور الفردية لديه، ولا تتوفر إلاّ في ظل الانفصال والانفصام عن الأم ودورها. وعندها ينال الطفل دور الشخصية الذكورية المعتمدة على نفسها. ومن ناحية أخرى أدركت الأم وفي ظل مثل هذه البنية العائلية أن تربي أطفالها الذكور بالوقوف على أقدامهم وتشجيعهم على الاستقلال والانفصال عن الأم والاندماج الأسرع في المجتمع، وزرع الهوية الفردية فيهم. ولكن في حال الأطفال البنات فإن الأم تعمل سواء عن وعي أو دونه على تكريس نوع من التبعية للأم والاستمرار بإعادة دورها. وهكذا وفي خلال نمو الطفل تجري عمليتان مهمتان للبنت والابن، عمليتان غير متعادلتان ومتفاوتتان بعضها عن بعض. ففي الطفل الابن تنمو الشخصية "الرجولية" على أساس نفي الحاجة للأم والاستقلال عنها أكثر فأكثر لكي لا يتحول الولد إلى "إبن أمه"، ويسعى إلى نيل فرديته عبر النمو المفرط أحياناً في التمايز. في حين يجري الأمر بالنسبة للطفل البنت على أساس نمو الشخصية "النسوية" وعلى أساس الرابطة والولاء والتبعية للأم والعائلة. ويتجلى اختلافها عن الابن في الفردية المبتسرة والمبهمة وغير المتميزة والضعيفة للبنت. وهكذا يجري تمهيد الأرضية وزرع ثقافة عدم المساواة بين المرأة والرجل في المجتمع منذ الطفولة في الشخصية والبنية النفسية للأفراد.
وبالارتباط مع ذلك، تصبح التضحية والإخلاص بمثابة الفضيلة واللازمة الطبيعية لخصال المرأة وخاصة في المجتمعات الأكثر تقليدية. ويجري التبشير لها وتشجيعها. فعلى الأم أن تكون على دوام مثالاً للتضحية والإخلاص، وأن يتوقع منها أن تكرس كل وجودها للأطفال والزوج والعائلة، وإذا ما فكرت في تحقيق طموحاتها فعندئذ تعتبر أمراًة أنانية وأم غير لائقة ومذنبة. ومن الطبيعي أن تربي الأم "الجيدة" بنات مضحيات، وأكثر تضحية من الأولاد. ونتيجة لهذه المعتقدات والأساليب التربوية ومثل هذه البنية المعطوبة للعائلة يتم بناء جيل من النساء بعيد عن التكوين المستقل للنساء. جيل يعتبر التعرف والتوجه نحو أفكار النسوية ضرب من الذنوب، جيل مضطرب لأن مثل هذه الأفكار والتكوين المستقل ما وجدت إلاّ لتحقيق مطالب النساء وحل مشاكلهن الخاصة. جيل لا ينسى كيف قام بكيل المديح لتضحية "المرأة الشرقية"، وكيل اتهامات "الأنانية" و "الانحراف" لـ"المرأة الغربية" جراء النضال المستقل للنساء في الغرب. لقد علموا هذا الجيل أن "المرأة الشرقية" تستطيع من خلال التضحية الدائمة بمطالب النساء الخاصة خدمة للمصالح الوطنية والقومية أن تثبت أصالتها ونضالها وتؤمن رضى رجال المجتمع والمنظمات والمجاميع وعوائلهن.
إن عمق وجود مثل هذه الروحية لدى النساء في المجتمعات المشابهة لإيران، تعد أحد العوامل المعرقلة لاتساع الحركة النسوية، مما ينبغي الاهتمام بشكل خاص بها عند معالجة "مشكلة النساء". كما ينبغي النظر في كيفية إزالة نزعة الشعور لدى النساء بضعف وهامشية الشخصية "النسوية"، وإزالة خوف ورعب النساء من الاستقلال والهوية الفردية؟. ومن ناحية أخرى ينبغي السعي إلى كيفية ايجاد حالة من التعادل في الرضى عن النفس الزائدة عن الحد والسلطوية "الرجولية"، ولكنها في نفس الوقت المضرة ولا تبعث على الاطمئنان؟. ومن المحتم أنه بدون ايجاد تحول في بنية العائلة الأبوية والتغيير في الدور الاجتماعي والعائلي لكلا الجنسين"المرأة والرجل"، فلا يمكن وضع نهاية لهذا الدور الباطل. وعلى حد تعبير جادرو، فإن وجود شخصين بالغين وذي هوية "أي الأب والأم" يلعبان دوراً في تربية الطفل هو لازمة لمثل هذا التغيير. وبمعنى آخر إزالة القيود على دور النساء في إطار إعادة الانتاج والعائلة ودور الرجال في إطار الانتاج والمجتمع، أي دمج كلا إطاري النشاط لكلا الجنسين.

الديمقراطية في المجتمع لا تنفصل عن الديمقراطية في البيت والعائلة
في إيران، ينفي فقدان الديمقراطية ضرورة الحصول على مثل هذه الفردية من ناحية، ولكن من ناحية أخرى فإن الحياة في المدينة والتحول الكبير في العائلة تدريجياً، وتوسع العلاقات الرأسمالية والتنافس الفردي، قد أدى إلى البحث عن الفردية، وعلى الأقل بالنسبة للرجال فهي ضرورة حتمية. ولكن الميدان المسموح به لتحقيق الفردية ونمو الرجال بالتحديد في أكثر الأحيان كان إطار العائلة. والسبب هو أن الكثير من المواطنين الإيرانيين يشعرون بعدم القدرة والرعب وانعدام الأمن الاقتصادي والتحقير والعجز السياسي والثقافي في المجتمع. فالمواطن الإيراني يشعر بأنه "مستضعف" أمام قوى "الاستكبار العالمي"، ولا يستطيع الاحساس بقدرته ووجوده إلاّ في إطار العائلة. فيمكنه فرض سلطته على الزوجة والأولاد في بيته، وبذلك يستطيع أن يقوي "ذاته" وفرديته. وهكذا فكلما وجد رجل أقل إحساساً بالاطمئنان وأكثر انكساراً وأقل تحقيقاً لمطامحه، فإن يجنح إلى التسلط وإلى أشد حالات التعالي الجنسي. وهنا يتجلى دور آليات دقيقة وحساسة لعلم النفس باعتبارها جزءاً من علل جاذبية الافكار الجنسية الإسلامية. فمن المعلوم كيف أن النموذج الإسلامي عن المرأة والعائلة قد وظف في الوقت المناسب لخدمة حاجات علم النفس، واحتلت قضايا مثل فرض الحجاب على المرأة وفرض القيود عليها الأولوية وإلى حد الوساوس.
وفي هذا الإطار يوضح نيكي كدي ولويس بك بحق في كتابهما القيم " النساء في دنيا الإسلام" إن القيود التي يضعها المذهب والسنة من ناحية، ومن ناحية أخرى الضغوط والاضطرابات التي فرضتها الحداثة بواسطة أصحاب العمل ورؤساء الإدارات ومؤسسات الدولة والتدخلات وإعمال النفوذ من جانب "الغرب" سلبت القدرة من الرجال المسلمين، فلم يعد يعتبرون أنفسهم شركاء في ميدان السياسة والثقافة. ولم يبق لديهم من دائرة يستطيعون السيطرة عليها سوى دائرة النساء والأبناء والبنات اللاتي فرض الرجل القيود عليهن، وبذل كل ما في وسعه لمنع أي تحول في دور الجنسين وفي العلاقات غير الديمقراطية والذكورية في العائلة.و من وجهة نظر الرجال فإن أحد العوامل التي تؤدي إلى سلب قدرتهم في شتى المجالات، وخاصة في إطار العائلة، هو نفوذ الاستعمار الغربي الذي يسعى إلى تغيير النظام التقليدي للعائلة. وليس من قبيل الصدفة إن "النزعة الغربية" وخاصة من زاوية التحول في دور النساء ومكانتها كالحساسية إزاء خروج المرأة خارج إطار البيت والحساسية إزاء "نزع الحجاب" أو إزاء "سوء الحجاب" عند المرأة ينظر إليه من قبل أوساط في المجتمع على أن النفوذ الغربي هو أكثر من نفوذهم، ويهدد سلب قدرتهم، ويعتبر تحد عقائدي وثقافي وتهديد اقتصادي وتحقير سياسي.
ومن هنا يمكن أن نستنتج أن وجود الاستبداد السياسي في المجتمع وانعدام الديمقراطية والحريات الفردية يشكل حافزاً لتشديد الاستبداد في العائلة وتوطيد العلاقات الأبوية والتماشي مع التسلط. ومن ناحية أخرى، فإن المحيط الاستبدادي في البيت والعائلة يربي أطفالاً لهم القدرة على هضم الاستبداد وفقر الفردية ومن جيل لآخر. وهكذا يتبلور دور باطل يؤكد على أن الاستبداد بمجموعه هو ثقافة تدير مجتمعاً مؤسساتياً، أي أن العائلة والنظام السياسي الاستبدادي أحدهما ينتج الآخر. وهنا تتأكد بعمق صحة ما جاء به فوريه من أن "ميزان حياة المرأة في أي مجتمع، هو أفضل المعايير لوجود الحرية والديمقراطية في ذلك المجتمع".
يتبع