مأزق المرأة (التجربة العراقية) *



عبدالوهاب حميد رشيد
2011 / 11 / 26

يبرز مأزق المرأة العراقية في التمايز البيّن بينها وبين الرجل لصالح الاخير في الحقوق القانونية والعلاقات الاجتماعية بمفهومها الواسع من اقتصادية وسياسية ووظيفية وأسرية وقانونية. وليست هذه المعضلة قاصرة على المجتمع العراقي فحسب، بل انها تمتد بهذا القدر او ذاك الى المجتمعات العربية والاسلامية عموما. الا ان واقع الامر يشير الى ان هذه المعضلة هي اكثر تزمتا وتصلبا وعمقا وخضوعا للقيم والتقاليد الاجتماعية الموروثة في المجتمع العراقي لاسباب تتقدمها ظاهرتان:اولاهما تراكم هذه القيم والتقاليد في الحضارة العراقية الممتدة عبر فترة زمنية تربو على الخمسة آلاف عام..وثانيتهما خضوع المجتمع العراقي لفترة القرون الستة المظلمة منذ اواخر العصر العباسي وسقوط بغداد ( 1258) والتي تميزت بالتراجع الحضاري وسيادة القيم البدوية المتخلفة.(71)

وقبل الحديث عن مأزق المرأة العراقية علينا ان نتدارك ان الغرض هنا ليس الدعوة الى الحرية الجنسية وتجاوز القيم الاجتماعية، بل الدعوة الى اعمال الفكر في مشكلة اجتماعية عراقية كان البحث فيها والغور في اعماقها ولا زال من المحرمات او، على الاقل، تواجه حساسية شديدة. هذا علاوة على محاولة اثارة مناقشة موضوعية باتجاه خلق درجة من المرونة والنظرة الحضارية في التعامل مع هذه المشكلة المتأزمة بعيدا عن الخنجر- العنف و "غسل العار" وما صاحبتها ولا زالت من مآسي لم تقتصر احداثها على داخل الوطن العراقي بل تعدتها الى العراقيين في بلدان المهجر بما فيها بلاد الغرب.

من المعروف ان استمرار الوجود البشري يعتمد على اربعة مصادر هي: الهواء، الماء، الغذاء، والجنس. ويفترض خضوع هذه المصادر لممارسات الانسان الطبيعية لأنها تتعلق بحفظ الجنس البشري. اي انها ممارسات غير مكتسبة وانما طبيعية تظهر وتنمو مع ولادة الانسان ونموه. فالانسان يتنفس الهواء ويشرب الماء ويأكل الغذاء كما يفعل الحيوان مع فارق نسبي. وكذلك الحال مع الجنس في مرحلة لاحقة من ولادته ونموه. ولان العناصر الثلاثة الاولى (الهواء، الماء، الغذاء) حاجات آنية لحفظ حياة الانسان. بمعنى ان المسافة الزمنية بين حاجته الى هذه العناصر وبين ضرورة اشباعها للمحافظة على حياته هي مسافة زمنية قصيرة تتراوح بين دقائق وايام. لذلك فهي لم تسمح طيلة العهود الحضارية البشرية اخضاعها للطقوس والنواميس الاجتماعية بوضع قيود تنظيمية (قيم مكتسبة) على كيفية ممارستها. اما المصدر الرابع (الجنس) فرغم انه كذلك نزعة طبيعية في الانسان كما في الحيوان الا انه خضع لهذه الطقوس والنواميس الاجتماعية متضمنة اشكالا متعددة ومتنوعة من القيود التنظيمية باختلاف الزمان والمكان، لان الجنس حاجة طبيعية آجلة وتخص حفظ الوجود البشري ككل وليس مجرد وجود الفرد. بكلمات اخرى، فان المسافة الزمنية بين حاجة الانسان- المجتمع الى الجنس وبين ضرورة اشباعها هي مسافة زمنية طويلة تقاس بالسنوات في سياق العمر البشري ككل وحفظ وجوده. من هنا وفرت هذه المسافة الزمنية الطويلة نسبيا فرصة خضوع الجنس لكافة القيود والقيم المجتمعية ذات العلاقة بالممارسات المكتسبة.

ومع ذلك، وكما في بقية المصادر اللازمة لحفظ وجود الانسان- البشرية، فان حرية الجنس ولدت مع ولادة الانسان. وهذا ما نجد له خلفية واضحة في الاديان نفسها بما فيها الدين الاسلامي. ان قصة آدم وحواء (رجل وامرأة/ عائلة واحدة) برهان ساطع على اعتراف الدين نفسه بالنزعة الطبيعية للجنس وحق الانسان في ممارسة هذه النزعة كحال الهواء والماء والغذاء وبالاتفاق المشترك مع الطرف الاخر. والا أما كان من السهل خلق آدم وحواء آخر (عائلة اخرى) بدلا من الاكتفاء بخلق عائلة واحدة يضطر ابناؤها من الذكور والاناث الى ممارسة الجنس (الزواج) مع بعضهم ليرزقوا بالصبيان والبنات؟!! قصة آدم وحواء هذه تقدم دليلا آخر على النظرة الدينية المرنة المتسامحة لنزعة الانسان الطبيعية للجنس عندما اخضعت آدم وحواء الى التجربة المعروفة ولكن بالعلاقة مع الغذاء (التفاحة) وليس بالعلاقة مع الجنس!!

‘تلمح هذه القصة على بساطتها وتشير الى مسألتين: اولاهما غياب حساسية الدين اصلا تجاه الجنس. بمعنى ان الحساسية الشديدة القائمة تجاه الجنس في المجتمع ترتبط اصلا بالقيم الموروثة.. وثانيتهما- الاكثر اهمية- هي ان هذه القصة الدينية تضع الانسان- المجتمع امام مشكلته الحقيقية في حياته الدنيوية (المصالح المادية) باعتبارها المصدر الرئيس، ان لم يكن الوحيد، للتناقضات والصراعات البشرية.

ولان المجتمع العراقي هو واحد من أقدم المجتمعات البشرية وصانع احدى اكثر الحضارات الانسانية قدما في التاريخ، لذلك ليس غريبا ان تخضع مسألة الجنس لمختلف اشكال القيود المجتمعية. زادتها تزمتا بصفة خاصة مرحلة الفترة المظلمة والتراجع الحضاري في ظروف سيطرة القيم البدوية على السلوكية الاجتماعية للعراقيين. هذه السلوكية التي قامت على الحط من قيمة المرأة في سياق قيم وممارسات (اعتماد البدوي- القبيلة في كسب الرزق-المعيشة على الغزو والنهب والسلب) تجلت في:
* نظرة الاحتقار الى الحرف اليدوية بما في ذلك عمل المرأة في المنزل..
* نظرة الانحطاط الى الضعف البدني وازدراء فئة غير المقاتلين في القبيلة.
* تعظيم "الرجولة" متمثلة في القوة الجسدية والمنزلة الرفيعة لمقاتلي القبيلة..
* تقدير واحترام الشخص اذا كان غالبا منتصرا.. وباختصار تبجيله اذا كان "فاعلا" في حياته الاجتماعية حتى الجنسية واحتقاره اذا كان "مفعولا به "..
* وهذه النظرة الاحادية المتعسفة والمستبدة للجنس التي فصلت بعنف العملية الجنسية الطبيعية المشتركة- وفق نظرة تقسيمية خاطئة- بين الفعل/ الاداء (الرجل) وبين المفعول به/ الحاجة (المرأة).. خلقت بدورها القاعدة المركزية للتمايز الاجتماعي الشامل بين الجنسين لصالح الرجل بما في ذلك طلب الزواج والطلاق والارث والحقوق والواجبات الاجتماعية-القانونية..

من هنا جسّدت المرأة في التراث البدوي القديم سلعة غير مرغوب في وجودها. وشاع المثل الخاطئ "المرأة ناقصة عقل...".. وتحولت في زواجها الى سلعة تباع وتشترى، وحصرت واجباتها في الخدمة المنزلية وانجاب الاطفال.. ورغم انحسار هذه القيم المتخلفة الا ان آثارها لا زالت قائمة ..

واذا كان الرجل يتأفف في داخله، على الاقل، حتى من زواج اخته او ابنته، ناهيك عن شعوره بالعار من زواج امه ثانية .. عليه اصبحت المرأة مصدر عار في المفهوم البدوي مما استوجب وضعها تحت قيود شديدة ثقيلة في ظل الطقوس القبلية، وصار خروجها على تلك الطقوس جريمة تستحق القتل "غسل العار" من وجهة نظر القبيلة، حتى وان تزوجت بصورة شرعية، ولكن من غير موافقة "ولي امرها"..

ورغم ان هذه القيم البدوية اخذت بالاضمحلال، الا ان الشعور بالعار تجاه المرأة ما زال قائما. ويمكن الاستدلال على هذه الظاهرة حتى بين العراقيين في بلاد المهجر بما فيها البلدان المتقدمة، رغم استقرارهم لسنوات عديدة في المجتمعات الحضارية الجديدة. وفوق ذلك، تكشف معاملة الرجل للمرأة عن الازدواجية في شخصيته تجاهها، كما في رغبته ممارسة الحرية الجنسية معها على الطريقة الغربية قبل مرحلة الزواج، وتوجهه نحو ايجاد اخرى في حالة الزواج بحيث تنطبق عليها المواصفات والقيم الاجتماعية السائدة. هذه الازدواجية يمكن ملاحظتها ايضا بين العراقيين في البلاد المتقدمة. فهو يسمح لنفسه بممارسة الجنس مع الفتاة الغربية ويحرمها على اخته مثلا..

وهكذا ارتبط الجنس بالمرأة فقط وفق نظرة احادية. هذه النظرة التي خلقت كافة اشكال التمايز الاجتماعية بين الجنسين وقادت الى تشطير المجتمع الى نصفين احدهما يتمتع بالسيادة (الرجل) والآخر يعاني من العبودية (المرأة). عليه خضعت المرأة ومعها الجنس الى اقسى القيود والمظالم الاجتماعية، بحيث اصبحت حقوقها خاصة ما يتعلق بالمساواة مع الرجل في طلب الزواج والطلاق والعلاقات الاسرية وحقوق الارث في اطار المساواة الحقوقية القانونية-الاجتماعية.. مسألة تثير من الحساسيات وردود الفعل الشديدة الى حدود تتجاوز حتى حساسيات الدين والكفر والزندقة..

المفارقة في مأزق المرأة ان هذه المرحلة من حياة المجتمع العراقي بحاجة اكثر الى نصفه الآخر لمواجهة اخطر مشكلتين تقفان حائلا امام تقدمه الحضاري بما في ذلك قضية التحول الديمقراطي، هما:
الاولى: مشكلة العنف التي ارتبطت بالدور القيادي للرجل في المجتمع، حيث تشرب منذ الولادة- فكرا وممارسة- على تبجيل القوة والانتصار في سياق دوره الاستبدادي. من هنا فان غياب المرأة العراقية او ضعف وجودها في حركة التحضر المجتمعية يشكل عقبة لمعالجة ظاهرة العنف. بمعنى ان سرعة مسيرة التطور- التقدم وضمانتها تتطلب حضور المرأة ومشاركتها الفعالة تحت مظلة المساواة القانونية -الاجتماعية، بل ومنحها الاولوية في قيادة هذه المسيرة.
الثانية: مشكلة نظام الحكم.. فالمرأة كانت ولا زالت ضحية المظالم الاجتماعية والانظمة التسلطية وليس جلادها.. اي انها لم تنشأ على المفاخرة بالقوة ولم تمارس السلطة. كما انها لم تساهم عمليا في الاحداث القبلية- الاجتماعية سواء في مجال الغزوات القبلية او الممارسات التسلطية الحكومية. عليه من المتوقع ان تكون مساهمتها في بناء النظام السياسي الحضاري والتحول الديمقراطي اكثر مرونة وفعالية وملاءمة وقبولا.وهذا يبرر مرة اخرى منح المرأة الاولوية في قيادة المؤسسات المجتمعية. هذا رغم ان مساهمة المرأة في المسيرة الحضارية العراقية وفق هذا المنظور تتطلب التأكيـد على جانبين، على الاقل،هما: اولهما حصولها على حقوق المواطنة الكاملة في حياتها العائلية والاجتماعية- الاقتصادية- السياسية والقانونية.. وثانيهما تعزيز مستواها التعليمي والثقافي- افقيا وعموديا- ومنحها الاولوية في المساهمة الاجتماعية- السياسية، خاصة المراكز القيادية، عند تماثل الخبرة والكفاءة..

ومع ذلك، فان القيم والتقاليد الاجتماعية بشأن هذه المعضلة الممتدة في جذورها عبر آلاف السنين لا يمكن معالجتها وفق نظرة آنية و/ او في ظل قوانين اوامرية .. بل تتطلب نظرة طويلة الامد في سياق العملية التعليمية والثقافية وبناء الوعي الاجتماعي. علاوة على تمكين المرأة من الاستقلالية الاقتصادية بغية زحزحة القيم المتخلفة بصورة نمطية متصاعدة مستمرة باتجاه تهيئة البيئة لخلق قيم جديدة تقوم على النظرة المشتركة المتكافئة للعملية الجنسية والحياة العائلية وتأخذ بمبدأ الفردية- الوظيفية في تقييم منزلة المواطن الاجتماعية. بالاضافة الى اهمية التأكيد على النظرة الشاملة في مواجهة هذه المعضلة بالعلاقة مع كافة الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العراقية.. انها باختصار عملية تحضر شاملة مستمرة وممتدة بكافة ابعادها المجتمعية..
مممممممممممممممممممممممـ
* د. عبدالوهاب حميد رشيد، الديمقراطية والتحول الديمقراطي/ الملحق2/ السويد: 2005، ISBN: 91-630-9332-4..