إشكالية المرأة الإعلامية - الإعلاميات الفلسطينيات نموذجا .



عبد الغني سلامه
2012 / 1 / 23

مدخـل

في تاريخ النضال الفلسطيني لعبت المرأة الفلسطينية دورا بارزا ومؤثرا؛ حيث كانت ولا تزال ركنا مهما من أركان المقاومة الوطنية الفلسطينية. ولم تقتصر مشاركتها النضالية على حمل السلاح؛ أو إلقاء الحجر؛ بل شملت كافة أشكال النضال الوطني والعطاء الإنساني، بما في ذلك حفاظها على النسيج الاجتماعي، والنضال بالكلمة والقلم.
إلا أن الصورة النمطية التي كرسها الإعلام العربي والفلسطيني، اختزلت الأبعاد الإنسانية والاجتماعية الأخرى للمرأة الفلسطينية، وكرست دورها على أنه امتداد للرجل، فنجد مثلا أن كافة القوالب الإعلامية صوّرتها كإنسانة مستضعفة، مقهورة؛ فلا يتم عرضها إلا كزوجة أسير، أو أخت لشهيد، أو أم لجريح، ومع أنها مارست هذه الأدوار بكل بطولة وشجاعة، إلا أنه لا ينبغي التركيز على نجاحها كمناضلة وفدائية فقط، بل يتوجب الحديث عن قصص النجاح الكثيرة لنساء المجتمع الفلسطيني في شتى الميادين، وإبراز شخصيتها المستقلة، وإمكاناتها في مختلف المجالات.

وليس الإعلام وحده من يتحمل مسؤولية ترسيخ هذه الصورة - التي تأثرت بها حتى العاملات في مجال الإعلام - فالحركات النسوية أيضاً حصرت دور المرأة في النضال ضد الاحتلال، ورسّخت فكرة أن وجود المرأة مرتبط فقط بدورها النضالي، ومدى مشاركتها في الحياة السياسية، وبعد الانتهاء منه تعود إلى سابق عهدها وفق الأنماط التي يحددها المجتمع الذكوري. ولذلك، فإن من بين أهم التحديات التي يجب على الإعلاميات الفلسطينيات تخطيها، هي تغيير تلك الصورة، واستبدالها بصورة الفلسطينية الإنسانة، بكل ما لهذه الكلمة من معانٍ وأبعاد.

تمثل الصعاب والتحديات التي تواجه الإعلامية الفلسطينية إشكالية مركبة، متعددة الأوجه، ومفعمة بالدلالات، ويصعب الحديث عن الإشكالية التي تعاني منها الإعلامية الفلسطينية بمعزل عن كونها امرأة تعاني من نظرة المجتمع السلبية تجاهها أولاً، وعن إشكالية المرأة العاملة ثانيا، وإشكالية العمل الصحافي في الأراضي الفلسطينية ثالثا. وهي إشكاليات متصلة مع بعضهما على نحو لا يقبل الانفصام، وتنفرد بخصائص معينة، غير موجودة في أماكن أخرى من العالم. فخصوصية ووضعية المرأة الفلسطينية ومكانتها النضالية في المجتمع الفلسطيني، تختلف عن باقي نساء العالم، نظرا للظلم والقهر الواقع على كاهلها من عنف العادات والتقاليد المتخلفة من جهة، وويلات الاحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى.

إشكالية المرأة العاملة

أولى المضايقات التي تتعرض لها أي امرأة عاملة، تتمثل بتلك النظرة السلبية التي طبعها المجتمع الفلسطيني خصوصا والمجتمع العربي بشكل عام تجاه المرأة، فبفضل الموروث الثقافي الموغل في القدم تشكلت صورة نمطية للمرأة؛ كانت في أحسن الأحوال تصفها بالضعف وقلة الحيلة، وتحدد لها دورا وظيفيا يحصرها في نطاق الزوجة المطيعة والمربية المتفانية، وفي أسوأ الأحوال – وهي السمة الغالبة – كانت تحصرها في إطار الجنس. وما زالت بقايا هذه الصورة حاضرة في ذهنية المجتمع بالرغم من دفنهِ لعصور الحريم، ذلك لأنها اكتسبت صفة القداسة الدينية في بعض الأوجه. لهذا السبب ظلت الشرائح التقليدية والمحافظة تشكك في قدرات وإمكانيات المرأة، وتشكك في دوافع عملها، خاصة إذا مارست عملا صعبا وخطيرا كالصحافة، فنجد الكثيرين منهم لا يثقون بقدرة المرأة على القيام بهذه المهمة، باعتبارها مهنة صعبة وشائكة، وهذا بحد ذاته يشكل الإحباط الأول لأية صحافية.

ثم تبدأ معاناة أخرى للمرأة العاملة، وهي معاناتها مع الأدوار المزدوجة والمركبة التي لا تجد مناصا من لعبها؛ فهي قبل كل شيء أُم، أو أخت، أو زوجة، أو ابنه، أو ربة بيت .. عليها مسؤوليات أخرى كلّفها بها المجتمع دون الرجل. ولهذا نرى المفارقات في الممارسات اليومية في حياة المرأة العاملة وتجاذبها بين مد وجزر. فهي تشعر ببعض السعادة والاستقلال النسبي عندما تكون في العمل, ولكنها بعد العمل تعود حبيسة البيت, لتحمل همومه بكل تفاصيله، دون تعاون الرجل، بل خاضعة لسلطانه.

إشكالية المرأة الإعلامية

وبالرغم أن تاريخ الإعلام الفلسطيني يعود إلى سنوات ما قبل الانتداب البريطاني؛ إلا أن عمل المرأة في حقل الإعلام تأخر عن ذلك، ولم يكن دورها الإعلامي المهني بارزاً كدور الرجل. ويعود ذلك إلى بعض القيود الاجتماعية التي كانت تفرضها طبيعة المرحلة، واقتصر آنذاك على عدد محدود من الإعلاميات الفلسطينيات، اللواتي مارسن هذا العمل بتشجيع من عائلاتهن.

وبقدوم السلطة الوطنية، تحسن الوضع قليلا، حيث منحت وزارة الإعلام عدة تراخيص لصحف ومجلات نسائية، إضافة للصحف اليومية التي أعطت الفرصة للأقلام النسائية، وكان لهيئة الإذاعة والتلفزيون الفلسطينية، وكذلك المحطات الفضائية المحلية والعربية دورٌ كبيرٌ في ظهور عدد من الإعلاميات الفلسطينيات مذيعات، ومراسلات. ومع ذلك، لا يمكننا القول بأن وضع الإعلاميات الفلسطينيات بأحسن حال، فما زال أمامهن الكثير قبل أن نزعم بذلك.

الإعلامية الفلسطينية تعاني من صعوبة البيئة السياسية والاجتماعية التي تعمل فيها، شأنها شأن بقية النساء العاملات وغير العاملات في مجتمعنا الفلسطيني، ولكن المرأة الإعلامية تنوء بحمل إضافي فوق حمل المرأة العاملة، فإلى جانب المعاناة التي تكابدها في الميدان لنقل الصورة أو الخبر، والمضايقات التي تفرضها سلطات الاحتلال، هناك أيضا المضايقات التي يفرضها المجتمع على عمل المرأة، وخصوصاً في مجال الإعلام. لهذا وجدت الإعلامية الفلسطينية التي تعمل في مؤسسات إعلامية عربية أو عالمية فرصة أفضل للنجاح من زميلتها التي تعمل داخل الوطن.

ومع أن المجتمع الفلسطيني تطور كثيرا، وتأثر بشكل ما – شأنه شأن بقية المجتمعات العربية – بالتغيرات الجذرية التي فرضها تطور العصر، لكن انفتاحه النسبي تجاه قضية المرأة لم ينتج من إعادة النظر في المنظومة القيمية والتربوية التي طالما حكمته, بل حدث ذلك بفعل الزمن وبسبب الحاجة الاقتصادية، فصار المجتمع أكثر قبولا لعمل المرأة، وأكثر تفّهما لقدراتها، إلا أنه ما زال يفضّل أنواعا معينة من عمل المرأة ويرفض أنواعا أخرى، ومعياره في ذلك طبيعة العمل ومواقيته ومخاطره، وظل العمل الصحافي من الأعمال غير المفضلة للمرأة، فإذا لم يكن رفضاً من حيث المبدأ، فهو قلق مستمر عليها تحت ذريعة أنها (أنثى) تعمل في قلب الميدان الإعلامي بكل مخاطره، الأمر الذي يقيدها ويحد من حركتها ويحرمها الفرص المتاحة للرجل.

الدور المزدوج الذي تلعبه المرأة العاملة (والإعلامية بشكل خاص) لا ينعكس على حياتها وحسب، بل وأيضا على المؤسسة الإعلامية التي تعمل بها، والتي – وللأسف – ما زالت متأثرة ببعض المفاهيم السلبية تجاه المرأة، أو أنها تتذرع بها، فلا تعطي للإعلامية الدور والمكانة، ولا حتى الفرصة التي تعطيها لزميلها الرجل، ويتجلى ذلك بالترقيات والأجور، وحتى بثقة المؤسسة بها، وبطبيعة المهام الموكلة لها. وربما كان هذا من أهم أسباب عدم استمرارية المرأة في العمل الصحفي، أي بسبب حملها هموم العمل والبيت لتنوء بثقلين معا, فتعجز عن التوفيق بينهما.

وإذا تجاوزت المرأة الإعلامية تلك الإشكاليات، ستبدأ بمواجهة الإحباط التالي، وهو رفضها ذاتاً وقبولها شكلاً، فنجد مثلا أن بعض النخب المثقفة لا تهتم بمضمون المادة الصحفية التي تقدمها الإعلامية، أو أنها لا تريد ذلك، وتريد فقط أن ترى الشكل الظاهري للإعلامية نفسها، أي صورتها وجمالها ونعومة صوتها، وحتى النساء تريد أن ترى منها أناقتها ونوع مكياجها فقط !!

ثم تأتي معاناتها مع التمييز الذي يمارسه المجتمع على أساس النوع الاجتماعي، حيث ترك التمييز ضد النساء آثارا سلبية على عمل الإعلاميات، فمثلا تشير بعض الدراسات إلى أن نسبة الخريجات من كليات الإعلام تبلغ نحو 43% من أعداد الخريجين، إلا أن تلك النسبة المرتفعة لا تعكس الحال في مجال العمل، حيث تشغل النساء فقط نحو 20% من أعداد العاملين بالمجال الإعلامي. وعلى المستوى العربي سنجد أن نسبة الإعلاميات تمثل 4.8% من عدد العاملين في وسائل الإعلام. وحتى لو تزايد عدد العاملات في وسائل الإعلام على اختلافها، فإن هذا لا يعني بالضرورة زيادة في تحسن وضع الإعلاميات، وانعكاس ذلك على تناول قضايا المرأة.

وليس هذا المظهر الوحيد للتمييز ضد الإعلاميات، فهناك أيضاً استبعادهن من الجوائز، وربما تكون تلك ظاهرة عالمية، ومشكلة لا تخص نساء فلسطين وحدهن، فلو أخذنا جائزة نوبل على سبيل المثال لوجدنا أن خمسة عشر مبدعة فقط فزن بهذه الجائزة، مقابل مئات الرجال. وباستثناء "ماري كوري" سنجد أنهن فزن بالجائزة في مجال الآداب فقط. وإذا سلّمنا بعدم وجود سمات وخصائص بعينها تستوجب تجميع نساء نوبل تحت مظلة واحدة، هي الآداب، سنجد أن التمييز ضد النساء حاضرا بقوة، حتى في هذا الصرح العالمي المتقدم، وبما أنه لا فوز بدون ترشيح، وطالما ظل الترشيح يتحكم فيه الرجال من رؤساء اتحاد الكتاب، وأساتذة الأدب والحقول الأخرى ستظل النساء مستبعدات، ليس فقط من نوبل، بل ومن غيرها من الجوائز.

بالإضافة إلى ما تقدم، يُفرض على المرأة الإعلامية نوعا من الكتابة الصحافية، من الممكن أن يكون متناقضا مع طبيعتها الأنثوية، فنجد أن النقاد يقيسون جودة العمل الصحفي الذي تقدمه المرأة الإعلامية بمدى التزامها بقواعد اللغة الذكورية وسماتها الخشنة وخلوها من العواطف، حتى لو كانت تتناول أخبار الفن، ولمّا كانت لغتنا ذكورية ومجتمعنا ذكوري لم يكن أمام الإعلاميات إلا الانصياع لهذا القانون، وإلا اتهمن بأن عملهن الصحفي ضعيف ولا يرقى للمستوى المطلوب. فلو تحررت المرأة من هذه القوانين وأطلقت لنفسها العنان لتكتب على سجيّتها وفطرتها، لبثّتْ عواطفها وأحاسيسها، ولعبّرت عن مشاعرها بعفوية وجمالية تتفوق فيها على الرجل، خاصة فيما يتعلق بطرح القضايا الإنسانية.

فالإعلامية – لأنها امرأة - متهمة بأنها عاطفية، وأن عاطفتها تعطِّل إبداعها، تحت حجة أن العاطفة تفضح الانحياز لطرف ما، وبما أن الإعلامي يجب أن يظل محايدا، فإنه سيلجأ إلى كتم مشاعره الداخلية، وحقيقةً فإنه لا يوجد إعلامي أو كاتب حيادي، وإلا صار مجرد جهاز تسجيل أو آلة طابعة، فالإعلامي هو إنسان صاحب رسالة وموقف ومشاعر، فإما أن يعبر عن انحيازه لقناعاته بلغة جافة متكلفة، أو بلغة دافئة مفعمة بالأحاسيس، وليس هنالك أصدق من المشاعر الإنسانية، وليس هنالك عمل صحافي أرقى من الذي يوازن ما بين لغة العقل ونداء القلب بلغة شفافة مرهفة. وهذا ما ميّز أعمال بعض المبدعات الفلسطينيات، وغير الفلسطينيات.

ولأن الإحساس بالجمال وتَمثُّلُه مسألة تستقر في أعماق التكوين النفسي للمرأة، نجد دوما أن الإعلامية تسعى لأن تضفي لمستها الأنثوية على العمل الإعلامي، لتحدَّ من خشونته بلمساتها الناعمة، وأن تلطِّف من أجوائه الجافة بروحها الندية، وهذا الدور الجمالي للمرأة الإعلامية هو في الأساس مطلب إنساني، قد يسهم في تخليص المجتمع من شروره، ولهذا يجب أن يعبَّر عنه بجنس مميز من العمل الإعلامي، عادة ما تتقنه المرأة أكثر من الرجل؛ ولكن الكثير من الإعلاميات ما زلن عاجزات عن تحقيق ذلك.
وإذا كان العمل الإعلامي أو الإبداعي عموما قد تأثر بالموجة الأصولية والسلفية التي فرضت حضورها على المنطقة في العقدين الأخيرين؛ فإن الإعلاميات كنَّ من أكثر المتأثرين والمتضررين منها، حيث سعت بعض الجماعات الأصولية إلى فرض مفاهيمها المتزمتة على المجتمع، فكانت الإعلاميات أول المستهدفات، ولم يقتصر الأمر على محاربة الأفكار التنويرية والتقدمية التي تطرحها المبدعات، بل وصل إلى حد تهديدهن ومنعهن من العمل تحت حجج واجتهادات دينية متطرفة. بالرغم أن تلك الجماعات الأصولية كانت تحارب عمل المرأة بشكل عام، وعمل الصحافيات بشكل خاص، إلا أنها أباحت لنفسها توظيف المرأة كإعلامية داعية، وفتحت لها محطات فضائية متخصصة، وأفردت لها برامج نسائية خاصة تعرض من خلالها رؤية وأيديولوجية تلك الجماعات !!

وبعيدا عن تأثير الجماعات السلفية، نجد أن المجتمع ما زال يمارس ضغطا على المرأة الإعلامية بالذات، ويخفّض من سقف حريتها متأثرا في ذلك بتراث من المفاهيم الدينية المغلوطة، إلى الحد الذي يحول دون تفجر إبداعاتها، أو إبراز مقدراتها. علما بأن المرأة الفلسطينية كانت تتمتع بأدوار ومكانة اجتماعية وبمستوى من الحريات الشخصية، لا تتوفر لها اليوم.

ومن الصعاب الأخرى التي تواجهها الإعلاميات وتسبب لهن بعض الإحباط: ضعف أداء النقابة بشكل عام، وعدم دفاعها عن قضاياهن بشكل خاص، وعدم توفر فرص عمل كافية بعيدا عن الواسطة والمحسوبية، وعدم توفر فرص كافية للتدريب، وضعف الشعور بالأمان الوظيفي، وتسلط رؤساء التحرير، وغموض أو غياب المعايير المهنية، واحتكار الدورات والمشاركات الخارجية، واقتصارها على الإعلاميين الذكور، وضعف ثقة المؤسسات الإعلامية بهن، ولا سيما الخريجات الجدد، اللواتي لا يجدن أي مساحة لنشر أعمالهن، سواء مقالة في الصحف المحلية، أو أي دور آخر في الوسائل المرئية والمسموعة. وحتى الإعلاميات المخضرمات لم يأخذن حقهن الكامل، فمثلا ليس لدينا رئيسات تحرير أو محررات أو كاتبات العمود كما هو الحال عند الرجال. وأيضا هنالك مشكلة ضعف الأجور خصوصاً في المحطات المحلية، حيث تضطر الإعلامية تحت وطأة الحاجة والواقع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه للقبول بفرص عمل، قد لا تتوفر فيها أبسط الشروط الإنسانية.

إشكالية العمل الصحافي

إذا انتقلنا بالحديث عن إشكاليات المجتمع وأثرها على المرأة الإعلامية إلى الحديث عن إشكاليات العمل الصحافي، سنجد جملة من التحديات الإضافية التي تواجهها الإعلاميات تضاف إلى التحديات التي يواجهها الجسم الصحافي بشكل عام، فقد ساوت سلطات الاحتلال بين الجنسين، ولكن فقط في مجال القمع، ولم تقتصر انتهاكات الاحتلال بحق الصحافة على مصادرة الصحف ومنعها من التوزيع، أو منع بعض الصحافيين من السفر إلى الخارج، أو التنقل بحرية في المناطق الفلسطينية، بل امتدت إلى الاعتقال، وإطلاق النار المتعمد على الصحفيين وضربهم (دون تمييز بين الجنسين)، وتحطيم ومصادرة كاميراتهم، وساعدهم في ذلك المستوطنين. وبالرغم من هذه المخاطر، إلا أن الإعلامية الفلسطينية أثبتت حضورها في الميدان، وبكفاءة مدهشة لا تقل عن زميلها الرجل.

وهناك أيضا مضايقات السلطة سواء في الضفة أم في غزة، حيث ازدادت في السنوات الأخيرة وتيرة انتهاك الحريات الصحفية، وتعرُّض الإعلاميات للقمع والاعتقال - مثلها مثل زميلها الرجل - ومداهمة المكاتب الإعلامية، تحت حجج أمنية، فضلا عن الرقابة على كل ما يُنشر، وهذه المشكلة أكثر وضوحا في غزة.

وبالرغم أن القانون الأساسي الفلسطيني يكفل حرية التعبير، إلا أنه لم يتم إقرار قانون حق الوصول إلى المعلومات حتى الآن، كما أن قانون المطبوعات والنشر - الذي لم يُحدَّث – يقوم بدور سلبي مقيّد في بعض الأحيان، فقد يضع خطوطا حمراء عند تناول قضايا مهمة وحساسة كالفساد مثلاً. ومن ناحية ثانية نجد أن ثقافة المجتمع (المحافظة) تفرض هيمنتها على الحريات الصحافية، الأمر الذي أدى إلى إحجام البعض ( خاصة الإعلاميات ) عن الخوض في مجالات معينة، لأن المجتمع يضعها في خانة المحظورات كالجنس والدين. وقد تساوق الكثير من الإعلاميين والإعلاميات مع هذا الحظر، في محاولة منهم لإظهار تمساك النسيج الاجتماعي، وإبراز صورة إيجابية للمجتمع الفلسطيني، تحصرها في نطاق المقاومة والصمود، وكان ذلك على حساب قضايا مهمة كقضايا الشباب والطفولة والعنف الأسري والتحرش الجنسي، والثأر القبلي.

وربما كان الانقسام الداخلي الفلسطيني من بين أكبر مظاهر المعاناة التي كابدها الصحفي الفلسطيني، فقد عانى الإعلاميون والإعلاميات نتيجة الانقسام من مشكلة الاستقطاب والتجاذب الحزبي، فأصبحت الصحافة في بعض الأحيان مجالا للمناكفة، خاصة وأن بعض المؤسسات الإعلامية اتخذت نهجاً حزبيا أفقد العمل الصحافي أهم سماته، وهو الحيادية والموضوعية. ولم يكن أمام بعض الإعلاميات إلا الانخراط في هذا الجو غير الصحي، فيما آثرت أخريات الانعزال، خشية اتهامهن بالتحيز إلى طرف ما.

ثم تأتي مشكلة النقابة، التي باتت الآن انعكاسا لحالة الانقسام, والنـزاعات السياسية التي لامست أعماق كينونة الإنسان الفلسطيني, فأضحت نقابة الصحافيين تعبيرا عن الأزمات المركبة والمتداخلة التي تعصف بالوطن. وبدلا من أن تعتمد على الدراسات والتخطيط العقلاني لتطوير قدرات الصحافيين وتنميتها ورفع مستوى كفاءتهم المهنية، صارت تعتمد على فرص تأتي بالصدفة. وصارت مثل بقية النقابات، عبارة عن باروميتر لقياس مستوى قوة الفصيل أو الحزب وشعبيته في الشارع. وبذلك تم تفريغ العمل النقابي من رسالته, فكانت المرأة الإعلامية أول ضحايا هذا التوجه, لأن الذكور لم يكونوا عادلين في السياسة, فكان طبيعيا أن تنعكس أفكارهم في الاستئثار بالسلطة، واحتكار كل مواقع القيادة في النقابة.

المرأة الإعلامية .. إنجازات رغم الصعاب

مع كل الصعاب والتحديات التي تعاني منها المرأة الإعلامية، إلا أن العديد من الإعلاميات الفلسطينيات تخطّيْنَ الكثير منها، وبعضهن سجَّلن إنجازات مهمة، يحق لهم أن يفخرن بها. فإذا كانت الثورة الفلسطينية قدّمت قضية التحرير على سواها من القضايا الاجتماعية، بما فيها قضية المرأة، إلا أن الإعلاميات الفلسطينيات - اللواتي كن جزءً أساسيا منها - كان لهن دورا مركزيا وهاما في النضال الاجتماعي أيضا، واستطعن جعل قضايا "الإنسان" في صُلب ومضمون النضال السياسي. وقد ساهمن إلى حد ما في تغيير الصورة النمطية السائدة عن المرأة التي تهتم فقط ببرامج الفن والموضة والطبخ، ونجحن أيضا إلى حد كبير في تغيير الصورة "القديمة" عن عمل الإعلامية، حتى أن العديد من الأسر صارت تقبل بأن تخوض بناتهن هذا الميدان، بل صارت عونا لهن في هذا المعترك.

كما نجحت بعض الإعلاميات الفلسطينيات إلى حد كبير بتوصيل رسالتهن للمجتمع وللعالم بأسره، والكثير منهن حفرن لأنفسهن أسماء وتجارب متميزة في عالم الإعلام، على المستوى المحلي والعربي والعالمي، وحقّقن شهرة واسعة، وأثبتنَ بالفعل والقول أن المرأة صنو للرجل، لديها القدرة على خوض المعارك الإعلامية، وتحقيق الانجازات، وتجاوز المعيقات.

خاتمة

ما زال المجتمع ينظر لعالم الصحافة باحترام، ويعتبره صورة نموذجية مصغرة عن المجتمع الديمقراطي الذي يتوق له، وهذا يضع العاملين في الإعلام أمام مسؤولياتهم الوطنية بالحفاظ على هذه الصورة، وتعزيز مصداقية الصحافة، واحترام الكلمة وتعزيز أهميتها، لأنها مفتاح التغيير الذي ننشده. وإذا كانت مجتمعاتنا تمر بمرحلة انتقالية فيها الكثير من مظاهر الفوضى والتخلف، والكثير من المفاهيم السلبية خاصة تجاه المرأة، فإن الإعلاميات مدعوات – قبل أي شريحة أخرى – للنهوض بدورهن، وتحمل أعباء التغيير.

وبالنظر لوضعية الإعلاميات الفلسطينيات، والتحديات والمعيقات التي تواجهنها – وقد تبين لنا أنها كثيرة - ورصْد النجاحات والإنجازات التي حقّقنها، يمكننا المجازفة بالقول أن الإعلاميات الفلسطينيات يتمتعن بمكانة متميزة مقارنة بغيرهن في الدول العربية، وأن بعضهن نجحن في إنجاز اختراقات واضحة. ولكن ما زال أمامهن طريق طويل، حيث أن مهمتهن لا تقتصر في كشف ممارسات الاحتلال، أو نقل أخبار المجتمع، بل تكمن في حمل رسالة الإعلام، وواجبه في إحداث التغيير.

وحتى نختصر الطريق عليهن، يتوجب على نقابة الصحافيين أولاً أن تأخذ قضيتهن على محمل الجد، وأن تضطلع كافة المؤسسات الإعلامية بدورها الوطني والمهني، في مساعدتهن على تحقيق ذواتهن، وتجاوز الصعاب وتذليل العقبات، وعلى السلطة الوطنية أن توفر البيئة القانونية والصحية للإعلام، والتي هي شرط أساسي لتقدم وازدهار هذا القطاع؛ وعلى النخب المثقفة والفعاليات الأهلية الأخذ بيدهن ودعمهن ما أمكن ذلك. والأمانة تقتضي هنا الإشارة إلى دور "نادي الإعلاميات" الذي فتح الآفاق أمام الإعلاميات، وأتاح للعديد منهن فرصة التدريب، والاستفادة من ورش العمل واللقاءات، والمسابقات، كذلك فعلت صحيفة "صوت النساء" التي فتحت أمامهن صفحاتها ليظهرن إبداعاتهن.

ولا يسعنا أمام هذا المشهد، إلا أن نقف احتراما لكل إعلامية فلسطينية.