صورة حسية لفتاة الجسر



سُلاف رشيد
2012 / 1 / 25

لا أعرفها، ولم ألتقِ بها، فارق العمر بيننا كبير، هي استشهدت في النصف الثاني من الأربعينيات، وأنا ولدت في منتصف الستينيات، وليس بيننا من وشيجة سوى حب والدي، والدي يعتز بها لكونها أول شهيدة تتسامى في فضاء الشهادة، يوم كانت المرأة حبيسة البيت، ويعتز بي لأنني ابنته التي يتمنى أن أكون شبيهة بالتي ضحت بحياتها، ولكن الفرق بيننا كبير يا والدي، هي من عزف الرصاص على صدرها لحن الشهادة والخلود، وأنا من عزف على روحي الدهر لحن الغربة بكل ضياعها، هي القادمة من وسط العراق وبالتحديد من مدينة الديوانية لزيارة أخيها، وأنا أعيش في بلاد ربما تتنكر لانتمائي الوطني، ولا أعرف كيف أبحث عن أخي المفقود. والدي حدثني عنها كثيرا، قال عنها فتاة لا تعرف غير أن أخاها يحب الناس، ومنْ يحب الناس يجب أن يتحمل الكثير من أجلهم، لهذا تراني أُصبر نفسي على فقدان أخي، رغم أنني أتمنى أن ألتقي به الآن، فالصورة أذاً عنها حسية لا ريب:
هي القادمة من وسط العراق، تحمل في روحها شوقا بقدر العراق لرؤية أخيها، ربما هي لا تعرف أن أخاها لم يكن ضمن هذه التظاهرة، ولكن عراقيتها جعلتها تتحسس هذا الضيم الذي يلحق بالعراقيين، مثلما أتحسس غربتي في عيون العراقيين الذين يبحثون عن مأوى في بلاد التشرد.
كان والدي يقرأ القصيدة التي خلدتها، وكنت ارددها معه،
(بهيجة يا بهيجه، كَوميلي خيطي ثوبي، اكَعد بفي أبيتنه، والكَه خبزتي وكوبي)
وأنا ليس لي غيرك يا بهيجة، ياليتنا نتجول الآن في بغداد، ولكن لا قبر نبحث عنه مادامت قبور العراقيين تملأ الدنيا، لا أريد أن أقول أبحث عن قبر أبي، أو ربما أبحث عن شيء يدلني إلى مكان أخي.
بهيجة أعرف أن الرصاص اخترق أضلاعك، مثلما هي الغربة اخترقت كل أضلاع كياني، ولكنك كنت سعيدة بهذا الرحيل الذي لم تطوك أيامه بسأمها، مثلما الغربة طوت أيامي بضجيجها، آه ليت والدي كان حيا، لاحتفلت بك وإياه وأنت تصعدين إلى السماء نجما، فالسماء لا تستقبل إلا الكواكب المضيئة من أمثالك، مثلما الغربة لا تستقبل غير الضائعين من أمثالي،
فتاة الجسر ليس هناك أجمل من جدائلك ولا أجمل من طولك ولا أجمل من عينيك، لأنك كنت الشهيدة الأولى، والمرأة الأولى، في عالم يعز به كل شيء.