قتل هدى أبو عسلي .. و خرج شريفا !



نورا أبو عسلي
2012 / 3 / 9

خلال الخمس او الست سنوات الماضية .. لم تغب هدى عن بالي ابدا ..
ربما لأننا نتشارك سويا بإسم العائلة المشؤوم .. اسم العائلة التي تم غسل شرفها بعد ان ضحوا ببنت من بناتها من اجل تلميع صورتهم الرخيصة..

فرض ذلك حملا اضافيا على كل نفَس يدخل الى رئتاي .. شعرت بالمسؤولية العارمة التي تكتسح جسدي في كل يوم .. منذ الصباح عندما استيقظ الى ان اموت مجددا في المساء في نوم نادرا ما تفارقة احلام عن حالة الضياع التي اعيشها وسط هذا المجتمع البائس !

هدى .. صبية جامعية .. بقيت افكر بملامح وجهها .. لا اعرفها .. لكن وجهها بدا مألوفا لي .. نظراتها و حساسيتها المفرطة اتجاه الناس .. حبها لكل من حولها دون التفريق بينهم في جنسهم او دينهم او شكلهم او حالتهم المادية .. هدى .. يا حبيبة قلبي !

في نفس البيت .. عاشت هدى مع امها و اخوتها غير الاشقاء من الاب المشترك .. كان فيصل الاخ غير الشقيق يكنّ هو و اخوته كرها كبير لهدى و امها و كانوا يضربون هدى و يعنفونها لأتفه الاسباب حقدا عليها .. و خاصة بعد وفاة الاب .. حيث كانوا يتمنون الاستئثار بالتركة لوحدهم دون البقية ..

لم يكن ينقص هدى سوى أن يتسلل الى قلبها اثم لذيذ .. كان كافيا بأن يميت فيها كل أمل بالسعادة المستقبلية .. فآثرت أن تمضي فيه الى النهاية و فضلت التمسك بهذا المعنى السامي للحياة و للإنسانية .. و التفريط بحياتها ثمنا له ..
احبت هدى شابا من غير طائفتها .. شابا فقيرا .. فما كان منها الا أن تزوجته دون علم من أخوتها و أمها ..

بعد مقتل هدى .. بقيت اسمع الكثير من الاشاعات حولها و حول زوجها الذي قيل عنه انه استغل الفتاة و بدأ يستفيد منها ماديا عن طريق بيع جسدها الى الناس بمقابل مادي و هددها بإخبار اهلها عن زواجها إن لم تطعه !

اصبت بالاحباط عند سماعي عذر قتلها هذا منقول عن اخوتها .. لأنه حتى لو كان ذلك صحيحا ( مع أنه لم يرد ذلك الأمر الا من قاتليها ) .. فأنا أتعاطف معها أكثر في هذه الحالة الان لأنها وجدت نفسها بين نارين لا ثالث لهما .. فأما ان تفعل ما امرها به زوجها و اما ان يعلم اهلها بما تم ارغامها على فعله فيقتلوها على الفور ..

اهلها هم امها المسكينة الكبيرة بالعمر و التي لا حول لها و لا قوة .. و اخوتها الكارهين لها اصلا الحاقدين على وجودها على قيد الحياة !

الرواية الثانية تقول ان الاخوة اخترعوا القصة السابقة الذكر لكي يجعلوا من جريمة القتل التي اقترفوها عذرا جيدا مقارنة بالكذبة المقززة !

بعد معرفة اخوة هدى بزواجها من الشاب .. و اختفائها .. تمت ملاحقتها و السؤال عنها الى أن عرفوا مكانها و رقمها .. و استدرج فيصل أخته هدى ( الأخ الأوسط بين الشبان ) الى البيت بعد محاولات كاذبة منه لطمأنتها و بأنه قد صفح عما فعلته و طالبا منها أن ترجع الى البيت الى السويداء لكي يفتح معها صفحة جديدة و لكي يتعرف على زوجها ربما بعد اللقاء و التراضي ..

هدى المسكينة تصدق كلاما نطق دما على الهاتف .. و لعلها أحست بالرعب الشديد قبل سفرها من العاصمة عائدة الى مدينتها .. ترتعد من ردة فعل أخيها اتجاهها لأنها و كما عهدته الأخ الكاره الحاقد المعتدي عليها بالضرب لأتفه الأسباب .. فلم تشعر بالارتياح أبدا .. لكنه و من كثرة الحاحه عليها بالعودة قررت القبول بطرحه و الرجوع أخيرا ..

بالرغم من جمالية المناظر الطبيعية الخلابة المطلة من نافذة "البولمان" على جبال التفاح و العنب .. إلا أن برودة الثلج و قسواته غطت قلوب الجميع هناك و جمدت كل دفء للضمائر الانسانية .. لم يعد يسمع صوت في الخارج الا صوت الغربان .. أو لعله صوت الخوف القديم المعشعش في أرجاء الجبال قديما قدم حجر البازلت الأسود ..

لعل هدى شاهدت أرواحا حاولت إيقاف البولمان قبل وصوله الى محطة الموت تلك .. إلا أن حقد فيصل لم يكن يسمع أي نداءات من تلك الأرواح .. و كان مع كل نفَس يأخذه كما الذئاب المفترسة .. يستجر البولمان بشكل أسرع إليه !

وصلت هدى الى باب البيت الخشبي الكبير .. و بيد ترتجف دقت عليه بلطف .. ففتح الباب بقوة و فجأة !!
صرخت هدى كثيرا فرجعت خطوات الى الخلف فتعثرت و وقعت .. و قام فيصل بشدها من شعرها الى داخل البيت و بسرعة كبيرة أخرج مسدسا كان قد ملأه بكل أنواع السموم المعتقة .. و حقن طلقات في جسد الفتاة و هي تستغيث بأمها بالجيران بإخوتها الآخرين بأن يتركها !!

لكن قلب فيصل المليء بالسواد كان قد أفقده نظره الى الأبد .. و بحركة سريعة . أعطى فيصل المسدس الى أخيه الأصغر منه في العمر .. في حركة يبدو أنه قد تم الاتفاق المسبق بينهما عليها .. كي لا يحاسب الأخ الصغير على هذه الجريمة كونه قاصرا بالعمر و الضمير و الانسانية ..

و ماتت هدى غدرا .. أحسست و انا أسمع هذا الحدث بأن خللا ما حدث لقلبي .. أحسست بوجع قديم في أحداث الأزمان ..
أحسست برغبة ملحة في البكاء بصمت .. ذلك لعدم مقدرتي بالصراخ .. و الهروب بعيدا من هذا المكان المليء بالاجرام المخزن ..
لكنني لم أستطع ..
بقيت كالعاجزة أنظر الى بقعة واحدة في الجدار .. أتأمل كم من العطف و الحنان يحمل هذا الجدار الان !!؟

سمعت من مصدر موثوق على معرفة وثيقة بما حصل .. أنه و بعد أن قتل فيصل أخته .. لم يغسل يديه بالماء .. بل تابع غسل يديه بدماء هدى المتدفقة بحرقة .. مصوبا مسدسا الى رأس ام هدى كي تزغرد فرحا بغسل العار و "الشرف" . شرف العائلة الذي تم غسله الان .. فلتفرحوا .. فلتقيموا الأعراس و الولائم .. قتلنا جسدا بشريا اليوم .. قتلنا ضميرنا و دفناه .. دفنا معه البشرية كلها .. و ردمناها الى الأبد !

فيصل .. لديه بيتان .. بيت لزوجته .. و بيت للراقصة التي تزوجها سرا . يحمل تناقضا حادا في قيمه .. بحث طويلا عن أي سبب لتلميع صورته المشوهة أمام المجتمع الذي كان قد لفظه منذ زمن بعد أن كان يُعرف عنه أن له من الأخلاق الوضيعة ما يجعل الناس تقرف من النظر الى تقاسيم وجهه .. فلم يجد منظفا لآثامه التي تراكمت إلا أخذ روح هدى .. لعل المجتمع يشفع له و يرد له ولو بعضا من فتات الكرامة ..

و بالفعل .. لم يدخل فيصل السجن طويلا .. فقد حكمت المحكمة عليه بحكم أدخله السجن لشهور معدودة .. ما لبث أن خرج منه منتشيا بفعلته .. فخورا بنفسه .. بعد أن قدمت له العائلة محاميا (من نفس العائلة) يعد من أكثر المحامين براعة في هذا المجال ! مجال الذئاب .. آكلي لحوم النساء !

لن أسامحكم أبدا ما حييت ..