يسقط التمييز. يحيا التمايز



أوسم وصفي
2012 / 3 / 17

........ لم أعرف ما الذي قطعوه مني، ولم أحاول أن أسأل، كنت أبكي وأنادي على أمي لتنقذني، وكم كانت صدمتي حين وجدتها هي بلحمها ودمها واقفة مع هؤلاء الغرباء تتحدث معهم وتبتسم لهم وكأنهم لم يذبحوا ابنتها منذ لحظات، وحملوني إلى السرير ورأيتهم يمسكون اختي التي كانت تصغرني بعامين بالطريقة نفسها فصرخت وأنا أقول لهم لا، لا..ورأيت وجه أختي من بين أيديهم الخشنة الكبيرة.كان شاحباً كوجوه الموتى والتقت عينيّ بعيناها في لحظة سريعة قبل أن يأخذوها إلى الحمّام. وكأنما أدركنا معاً في تلك اللحظة المأساة. مأساة أننا خلقنا من ذلك الجنس. جنس الإناث.
(نوال السعدواي تروي قصة ختانها كطفلة)
........ بعد أن خرجنا من الحفلة بعد منتصف الليل تركني أعود للمنزل بمفردي ولم يعرض عليّ توصيلي. أشعر بطيبته وحنانه لكني لا أشعر برجولته التي تنادي أنوثتي وتستخرجها. لا أشعر بتلك الشرارة التي أشعر بها مع رجال آخرين يستطيعون أن يشعروني بأنوثتي، وعندما علقت على ذلك. قال لي خطيبي الذي عاش سنوات طويلة في أوربا: "أننا في أوربا ليس عندنا هذا الكلام. الرجل مثل المرأة. ليس عندنا عادة "توصيل النساء" هذه!"
(إحدى عميلاتي)
........معظم أصدقائي طالبوني بعدم الكتابة عنهم وحتى أمي طالبتني بأن أكتب عنهم كلاماً "زي الزفت" وأطلب من الناس أن يضربوهم بالجزمة ومن الحكومة أن تميتهم في ميدان عام!!!
(مصطفى فتحي معلقاً على روايته "في بلد الولاد")
....... المثلية فطرة وليست مرض. هي مثل الغيرية بالضبط لكن حظنا أننا أقلية. أنا مثلية مثلك (أو مثلما تدعي أنك كنتي) وأنا أعلم تماماً أنك عندما تعشقين امرأة لن تستطيعي نسيانها. بإمكانك خداع كل اللذين يكرهون المثليين أنك تغيرتي ولكنك لن تستطيعي أن تخدعي نفسك.
(تعليق من شبكة "ألوان" شبكة المثليات
العربيات وحلفائهن على مدونة مثلية سابقة "كنت مثلية والآن مشفية")

تعكس المقتطفات السابقة أننا في عموم المجتمعات البشرية، شرقية وغربية، قد أخطأنا الهدف فيما يتعلق بقضية إنسانية هامة وهي قضية المساواة والاختلاف. ويظهر فشلنا هذا بصورة جلية في نواح عدة وسوف أتناول في هذا المقال موقفين أصادفهم كثيراً في حياتي العملية كطبيب نفسي وهما الموقف الخاص بالنوع (ذكر/أنثى) والموقف الخاص بالميول الجنسية (الغيرية/ المثلية).

الذكور والإناث ـ التمييز و التمايز
عانت المجتمعات الإنسانية في عصور ما قبل النهضة والتنوير ولا تزال مجتمعاتنا الشرقية تعاني، من تمييز الرجال على النساء. وقد كان هذا مفهوماً في تلك العصور فالعمل والإنتاج كان يتطلب القوة البدنية والشجاعة والإقدام (المتوافرة في الذكور) أكثر مما كان يتطلب الذكاء الوجداني والمهارات الاجتماعية واللغوية (المتوافرة في الإناث) كما أن الحروب كانت تُحارَب بالقوس والرمح والسيف وتعتمد على القوة العضلية والشراسة المتوفرة في الرجال أكثر من الإناث. وعلى خلفية هذا المناخ من التمييز ظهرت ممارسات عديدة ظالمة وقاهرة للنساء. من حزام العفّة في أوربا العصور الوسطى إلى استئصال العضو الجنسي في إفريقيا وبعض البلاد العربية (وأكثرها مصر)، ومن مطاردة الساحرات في أوربا ما قبل الإصلاح الديني إلى وأد الإناث جسدياً أو نفسياً في شرقنا العربيّ.
وكرد فعل لهذا العنف الموجه للنساء ولتحريرهم من عدم المساواة في الحقوق والواجبات، ظهرت حركات تحرير المرأة ومساواتها بالرجل. لكن مع الوقت، ولأن التمييز بين الرجل والمرأة كان على أساس الجنس، بدأت حركات تحرير المرأة في حربها ضد التمييز تجور على التمايز والاختلاف بين الرجل والمرأة فبدأت الأفكار والممارسات الهادفة للمساوة تحدث تآكلاً في ذكورة الذكر وأنوثة الأنثى وبدأت تنادي بما يسمى androgyny (التي تترجم "الخنثوية") أي الاختلاط في الأدوار بين الذكر والأنثى.
وفي بلادنا نعاني من المشكلتين معاً فنحن لا نزال نعاني من ظلم وقهر المرأة وفي نفس الوقت نعاني من قهر وقمع الذكورة بشكل مباشر أو غير مباشر. أتذكر هنا هجوم البعض في مصر على إعلان إحدى المشروبات الغازية الذي يتخذ شعاراً يقول: "استرجل!" وذلك بصفته إعلان مضطهد للنساء! ولا أدري أين هو اضطهاد النساء هنا؟ أظن أن هذا الاعتراض يمثل أحد صور الخلط بين بين التمايز والتمييز وأظن أيضاً أن هذا ربما يكون أحد أسباب انتشار إدمان الجنس والعنف الجنسي. فالذكر الذي لم تحقق ذكورته بطرق صحّية، يحاول تحقيقها بالجنس والعنف وهذا بالطبع يزداد بلا رادع في مجتمع لا زال لا يحمي الإناث بما فيه الكفاية
أعود لعميلتي التي تعيش ذلك الصراع في علاقتها بشاب تقدم لها يريد خطبتها. فمن ناحية هي بعقلها تحترم فيه تحضره ورقيّه واحترامه لها ولعملها وللمرأة عموماً، لكنها في الوقت نفسه لا تشعر بذكورة كافية تستدعي أنوثتها، التي هي أيضاً بسبب تأثير المجتمع الذكوري وعوامل أخرى، صارت أنوثة ضعيفة محتجبة. وأرى أن صراع عميلتي هذا من أهم الصراعات التي تواجه البشرية وحيرتها في قضايا كثيرة متقاطعة مثل قضية الجنسانية sexuality والحرية والعدالة والمساواة. وفي هذا المجال ترد قصصاً كثيرة عن نساء أوربيات وأمريكيات يعجبن بالرجل الشرقي لذكورته العالية التي تظهر في صور الشهامة والحماية والاحتواء التي ربما لا يجدونها في رجالهن الذين بسبب الخوف من التمييز تم الجور على ذكورتهم وتمايزهم عن الإناث فيتزوجن بهذا الرجل الشرقي أو ذاك ليحصلن على التمايز المفقود. ثم مع الوقت يجدن التمييز البغيض وقد ظهر فتختفي الشهامة والحماية والاحتواء ليظهر العنف والقهر والتسلط فيهربن إلى بلادهن تاركين فلذات أكبادهن في أرض الشرق. الأمثلة كثيرة جداً ولعل أحد هذه الأمثلة كانت تلك السيدة الأمريكية التي توسطت لدى الرئيس الأمريكي باراك أوباما والرئيس المصري حسني مبارك أثناء زيارة الرئيس الأمريكي لمصر، لكي فقط ترى ابنتها. ولعل من سخريات القدر أن الرئيس الأمريكي نفسه نتاج لعلاقة مثل هذه ولكن الفارق أنها علاقة تمت في بلاد الغرب.
للأسف لم نستطع بعد كبشر تحقيق المساواة ومنع التمييز بين الرجال والنساء مع الاحتفاظ بالاختلاف والتمايز. ربما يحتاج الأمر عدة قرون لكي نعود للموقف المتزن بعد أن تأرجحنا من أقصى البندول إلى أقصاه من الناحية الأخرى.

المثليون والغيريون ـــ القبول والموافقة
هنا نترك الكلام عن الرجال والنساء فنتناول قضية التوجه الجنسي التي هي الآخرى ليست غير متأثرة بقضية التمييز والتمايز بين الذكورة والأنوثة. ودون خوض في العوامل المسببة للميول المثلية، أريد أن أتكلم عن الموقف الديني والمجتمعي والسياسي من أصحاب الميول المثلية مشيراً إلى أننا في كل من الشرق والغرب أخطأنا الهدف أيضاً.
نحن في الشرق نرفض أسلوب الحياة المثلي وهذا له مبرراته ليست فقط الدينية ولكن هناك مبررات أخرى صحية ونفسية واجتماعية (لا مجال للخوض فيها الآن لكونها تتطلب الإشارة إلى بحوث كثيرة مثيرة للجدل). هذا الرفض لأسلوب الحياة المثلي للأسف نترجمه رفضاً للمثليين وقمعاً لهم يتجاوز أحياناً الوصم والعزل والتمييز إلى التجريم والحبس وربما القتل في بعض البلدان. ونظن أن برفضنا هذا "نحمي المجتمع" من أسلوب الحياة المثلي وهذا ليس صحيحاً إحصائياً فنسب المثليين تكاد تكون ثابتة في كل المجتمعات مهما كانت توجهاتها نحو المثليين (وإن كنت أميل لملاحظة أن المجتمعات الأكثر رفضاً للمثليين هي المجتمعات التي ينتشر فيها المثليون تحت الأرض بصورة أكبر. هذا بالطبع ليس رأياً علمياً لأنه لا توجد دراسات موثقة بذلك ولكنها مجرد ملاحظة من شخص يعمل في هذا المجال).
وفي الغرب وفي إطار محاولات رفع هذا الظلم عن المثليين وعن كل المضطهدين مثل النساء والأقليات تم الخلط أيضاً بين المثليين والمثلية، وبين التوجه الجنسي المثلي الذي لا يستطيع صاحبه أن يتحكم فيه، والممارسات وأسلوب الحياة المثلي الخاضع لاختيارات صاحبه. هذا الخلط بما فيه من عدم دقة علمية تم تمريره تحت عناوين مثل: "حقوق الإنسان" و"حماية الأقليات" تماماً كما تم تمرير اضطهاد المثليين تحت عناوين مثل: " التمسك بالأخلاقيات" و "حماية المجتمع" وليس ذلك فقط فكما يُضطهد في الشرق المثليون ومن يدافع عنهم، يُضطهد في الغرب من يحاول أن يبحث في عوامل نشوء المثلية (إلا العامل الوراثي!) ومن يتكلم عن خطورة أسلوب الحياة المثلي أو يتكلم عن علمية محاولات تغيير التوجه الجنسي. مثل هذه المحاولات "تضطهد" في الغرب باعتبارها نوع من "جرائم الكراهية" أو "معاداة المثلية " تماماً مثلما توصم كل محاولات للاعتراض على ممارسات إسرائيل بأنها "معاداة للسامية"!
للأسف لم نستطع لا في الشرق ولا في الغرب:
• أن ندافع عن المثليين وحقوقهم الشخصية كبشر في ممارسة ما يرضون به كراشدين تجاوزوا سن الإدراك والتمييز مما يجعلهم أحرار فيما يمارسونه طالما لا يفرضونه على أحد.
• ولا أن ندافع عن حرية المجتمع المدني أو المجتمع العلمي في أن يبحث في الظاهرة ويقبل أو يرفض أسلوب الحياة المثلي.


والحجج دائماً جاهزة في المعسكرين:
- فالداعون لاضطهاد المثليين أو على الإقل إنكار وجودهم، يقولون أننا إذا قبلنا المثليين أو حتى اعترفنا بوجودهم فهذا قبول ضمني بأسلوب الحياة المثلي، وبعضهم يذهب لأن يقول أن هذا يعد دعاية لهذا الأسلوب في الحياة مما يؤدي إلى انتشاره وتزايده!
- والناشطون المثليون يقولون أننا إذا تكلمنا عن أن الميول المثلية يمكن أن تكون ناتجة عن اضطرابات في الهوية الجنسية و النمو النفسجنسي وأنها ممكنة التغيير (على الأقل في البعض) فهذا بمثابة تصريح للمجتمع أن يضطهد المثليين المتقبلين لميولهم المثلية وغير الراغبين في التغيير!
هذين الموقفين يفتقدان إلى العدل والواقعية فقبول المثليين لا ينبغي أن يعني بالضرورة الموافقة على أسلوب حياتهم وإنما الموافقة على حياتهم نفسها وحريتهم التي هي مثل حرية الجميع محدودة باحترامهم لحرية الآخرين وللقانون الذي ينبغي أن يكون محترماً لحقوق الجميع على حد سواء. صحيح أنه من الممكن أن يُستَغَل القبول لتحقيق الموافقة، لكن هذا ليس شرطاً طالماً تمسكنا بعدم الموافقة بالرغم من القبول.
وعلى الجانب الآخر رفض أسلوب الحياة المثلي ومحاولات الخروج منه من جانب البعض لا ينبغي أن يعني بالضرورة ولا ينبغي أن يستخدم كمدعاة لرفض المثليين أو اضطهادهم أو ملاحقتهم. صحيح أيضاً أنه من الممكن أن يُستغل الكلام عن ضرر أسلوب الحياة المثلي وإمكانية التغيير كمبرر للعزل والاضطهاد، لكن هذا ليس بضرورة طالماً تمسكنا بالقبول رغم عدم الموافقة.

إن من أسس المجتمع المدني بل من أسس فطرة الإنسان الذي فُطِر على الحرية، ألا تتم مصادرة البحث العلمي أو الحكم عليه إلا بمعايير البحث العلمي لا بمعايير الدين أو الأخلاق أو السياسة. أيضاً لا ينبغي وضع القيود على الفن إلا قيود النقد الفني وألا يُحكم عليه بمعايير الأمن أو السياسة أو الدين أو الأخلاق. ولا ينبغي أيضاً مصادرة حق الجميع في اختيار نوع الروحانية والدين الذي يعتنقونه ولا يُحترم دين أكثر من آخر لكونه "دين الأغلبية" أو "الدين الأفضل"! فلا ينبغي الحكم على أي دين بمقاييس إحصائية أو أمنية أو أي شيء.

فطرة الإنسان هي الحرية والحرية هي التي تحرر ملكات الإنسان العلمية والفنية والروحية لكي يستقبل الحقيقة من الأرض أو من السماء. ولكننا لم نشعر بعد بقدر الأمان الذي يسمح لنا أن نطلق بعضنا البعض أو حتى أنفسنا أحراراً. لم نستطع بعد أن نقبل الاختلاف دون خلاف و لا التمايز دون تمييز ولا أظن أننا سنستطيع (على الأقل قريباً) وإلا سنكون قد وصلنا للمدينة الفاضلة. ولكن يكفينا دائماً شرف المحاولة.