عيد الأم في الربيع العربي



عبد الغني سلامه
2012 / 3 / 21

في زمن الربيع العربي يجب أن يتجاوز الاحتفال بعيد الأم أو بيوم المرأة شكليّة إقامة الندوات وورش العمل وإهداء الورود، ليكون بتغيير نظرة المجتمع للمرأة، ولكل ما يرتبط بها من قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية، وعلى رأسها قضية شكل وطبيعة النظم السياسية التي ستحكمنا، فإذا كان نتائج التضحيات التي قدمتها الشعوب في ثوراتهم لنيل الحرية والكرامة ستؤتي بنظم سياسية ما هي إلا امتدادا للأنظمة التي أسقطتها، هذا يعني أن كل هذه الثورات لم تنجح إلا إسقاط واجهة الظلم والاستبداد، واستبداله بواجهات أخرى، أي أنها أحدثت تغييرا في القشرة الخارجية، أما المضمون والجوهر فلم يمسسه شيء؛ وظلت تركيبة المجتمع متخلفة من ناحية نظرتها للمرأة والطفولة والأمومة، ولم تتغير بنية النظم السياسية الجديدة في ثقافتها الاجتماعية وممارستها للديمقراطية وفهمها للحريات العامة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون ... ما يعني أن كل التضحيات التي بُذلت والدماء التي أُريقت مجرد أرقام سُجلت وأرواحٌ أُزهقت لبناء سجن جديد، ولكنه مغلف هذه المرة بشعارات الحرية والعدالة التي ترفعها قوى الإسلام السياسي.

ما نسعى إليه من خلال هذه المقاربة هو التأكيد على أن النضال الجماهيري في محاربة نُظم الظلم والاستبداد والفساد، والسعي لإسقاطها واستبدالها بأنظمة ديمقراطية، لابدَّ أن يترافق معه النضال من أجل إحداث التغيرات الاجتماعية الكبرى والتخلص من كل الرواسب السلبية، وإعلاء شأن الإنسان وجعله القيمة المحورية الأساسية في العملية النضالية، وتعزيز المفاهيم التقدمية التحررية وفي مقدمتها نظرة المجتمع نحو المرأة والطفولة، باعتبارهما يمثلان حجر الزاوية في البناء المجتمعي، فإذا كان هذا الحجر متخلخلاً سيكون بناء المجتمع كله كذلك.

وطالما ظلت الأم في نظرنا مجرد ولود ومرضع، وطالما أصرَّ المجتمع على التمسك بنفس الصورة النمطية للمرأة التي طُبِعت في عصور الحريم، وطالما ظلت هذه الصورة مهيمنة على ثقافته، فإن التضحيات المطلوبة لإنجاز التغيير ستكون باهظة جداً وربما بدون طائل، والتغيير الذي قد نصيبه لن يصيب إلا القشور، وفي أحسن الأحوال لن نتخلص إلا من الشكل الظاهري للاستبداد، لأن الرجال - آباء هذه الثقافة - قد حصروا أشكال النضال في قالب محدد، ومشكلة هذا القالب لا تنحصر في مصادرة أشكال النضال الأخرى، أو في تهميش فئات اجتماعية واسعة، أو في حرمان المرأة من دورها التاريخي في التحرر الوطني، بل لأنهم خاضوا ميادين الوغى وهم مكبلين بمفاهيم اجتماعية متخلفة، تعادي الحب وتعتبره من الموبقات، وتحتقر الجمال وتعتبره من الفواحش، وتنظر للمرأة كتابعٍ للرجل: لا يُطلب منها إلا أن تتزين لزوجها آخر النهار، وتطيعه إذا أمر وترضخ له إذا غضب، وتنجب له دزينة أولاد قبل أن يذوي جسدها وتكمل دورة الطبيعة كزائرٍ عابر للحياة، مرّت دون أن تُحدث أثرا، وعاشت على هامش الرجل واقتاتت على ما يتكرم به عليها مما فاضت به موائده.

وحتى يكون احتفالنا بعيد الأم تكريما حقيقيا لها، ومن أجل أن نُحدث التغيير المطلوب، لابد من إحداث ثورة في أنماط حياتنا وطرائق تفكيرنا، تبدأ بمنح أجيالنا الطالعة الثقة التي يستحقونها وأن نتعامل معهم بإيجابية، وبنظرة تتجاوز الصورة التقليدية التي طالما حصرتهم كمصدر دخل إضافي للأسرة، أو مجرد عُزوة وجاه، أو ليجدد بعض الآباء حياتهم من خلالهم مرة ثانية، فهذه النظرة السلبية تتسم بالأنانية والجهل لن ينتج عنها إلا أجيالا مشوهة، ما هي إلا امتدادا لحاضرنا المشوّه، ففي ظل هذه النظرة السلبية لن يأخذ الأطفال نصيبهم من الحب والحنان، ولن ينالوا حظهم من الرعاية والاهتمام، وبالتالي فإنهم لن يعيشوا حياتهم كذات مستقلة، ولن يؤمنوا بوجودهم ولا بقيمتهم.
والمرأة التي يُنظر لها كمتاع، أو إنسان لم تكتمل إنسانيته، أيضا لن تكون عنصرا فاعلا وإيجابيا في المجتمع لأنها نظرتها لذاتها تتسم بالدونية وعدم الثقة، وإذا ما عطّل المجتمع أهم أدوات بناءه وخاض معركة التحرير والتغيير والبناء بنصف طاقته، وكان النصف الآخر مشوها، فكيف سيكون شكل البناء ؟!

بدون احترام الأم، وبالنظر للمرأة كإنسان ناقص، وبالإنجاب العشوائي وبالتربية الفوضوية وسيادة المفاهيم الغيبية، سيظل مجتمعنا يطحن الفقر ويكابد القهر ويُنتج التخلف، وهذه هي البيئة المثالية لاستشراء العنف وتفشي الفساد وانتشار الجريمة، وبالتالي سيظل المجتمع عاجزا عن إنتاج منظومة قانونية وثقافية واقتصادية نظيفة، وإذا كانت هذه البيئة هي الحاضنة والمغذية لانتشار العنف، فإنه لا بدَّ وأن تزداد وتيرة العنف كلما كانت هذه المنظومة أكثر تخلفا، وستكون الأسرة الفقيرة أو الجاهلة لبِنةً مهمة في تكوين هذه المنظومة، لأنها ببساطة لا تستطيع توفير المناخ النفسي والثقافي المناهض للعنف وهي بالكاد تستطيع توفير الطعام أو المسكن اللائق، وفي ظل الفقر والجهل والتخلف لا تستطيع المجتمعات أن توفر مقومات البناء النفسي السليم وإنتاج الفرد الذي يؤمن بسيادة القانون والمساواة والديمقراطية، وهذا أكثر ما يعيق عملية التنمية والبناء الحضاري للمجتمعات.

ليكن احتفالنا بعيد الأم دعوةً لاحترام المرأة، وصرخةً في وجه الفقر والجهل والتخلف، ودعوةً لأن يتضمن نضالنا الوطني والجماهيري كفاحا من أجل التغيير الاجتماعي لبناء وطن حر ومستقبل مشرق، ومن حق الأم في عيدها وفي كل يوم أن يُنظر لها باحترام يليق بعطائها وبإنسانيتها قبل كل شيء.