المرأة وفقدان مقوم تقدير الذات واحترامها (الطفلة أمينة نموذجا)



سامر أبوالقاسم
2012 / 4 / 9

تقديم:
قرار الطفلة أمينة في منطقة العرائش بالمغرب، في الشهر المنصرم، المتمثل في وضع حد لحياتها، هو رفض لما تعرضت له من اغتصاب وتزويج قسري وتعنيف، وهو استنكار لفقدانها للكرامة الإنسانية جراء سلوكات الغير المتوحشة، وهو صرخة في وجه البشرية جمعاء للامتناع عن الرضوخ لعقلية الاستعباد التي لازالت تعشش في عقول بعض من يحيون معنا.
قرار الطفلة أمينة المتمثل في الانتحار، هو رفض لإفلات الجاني ـ بالمفرد أو الجمع ـ من العقاب، وهو احتجاج على الابتعاد عن البعد الإنساني حين تسود العقلية الذكورية المتعالية في كل أبعاد تصرفاتنا وسلوكاتنا، وهو تفجير لقضايا كبرى من قبيل تدبير العيش المشترك على قاعدة المواطنة، ومن مثل التنشئة الاجتماعية على قاعدة منظومة القيم الإنسانية.
قرار الطفلة أمينة هو رفض لاستمرار الاتجاهات والمواقف والسلوكات المنافية للبعد الإنساني في علاقاتنا الاجتماعية، وهو تجسيد لشعور الكثير منا بفقدان مقوم تقدير الذات واحترامها، وتعبير عما يتعرض له الكثير منا للإجبار والضغط والحرمان من اتخاذ القرار والاختيار، وإحساس بعدم القدرة على التمتع بكافة الحقوق والحريات على قدر مساو للجميع.
قرار الطفلة أمينة كله عتاب ولوم على عدم قدرة المحيط والمجتمع على التعبير عن السلوك التضامني الإنساني الهادف إلى التخفيف من معاناة وآلام الضحايا والتعاون معهم قبل مماتهم.
الطفلة أمينة زادت بقرارها هذا من عمق شعورنا ووعينا بأن المرأة مهددة وغير آمنة ومحبطة، ومعرضة للمزيد من الظلم والقهر في كل وقت وحين، علما بأن القوى المحافظة لازالت ممعنة في الميل إلى الاعتداء على المرأة وإهانتها وتبخيس أدوارها داخل المجتمع وكافة مؤسساته.
الطفلة أمينة والعيش المشترك على أساس القانون والتنشئة الاجتماعية:
بخصوص حالة الطفلة أمينة موضوع هذه المادة، ونظرا لما فجرته من قضايا كبرى ذات الصلة بتدبير شؤون العيش المشترك للمغاربة داخل وطنهم، وذات الارتباط الوثيق بفهمنا جميعا لانتظام العلاقات الإنسانية فيما بيننا وفق قواعد يؤطرها القانون من جهة والتنشئة الاجتماعية من جهة أخرى، كان لابد من التأكيد في البداية على ضرورة استحضار المنظور التكاملي للتربية القيمية كمسؤولية مشتركة لمختلف المؤسسات المجتمعية في بلادنا.
وهو المنظور الذي يحتم وضع تصور واضح ودقيق لدور القانون والجهات المعنية بإنفاذه، كما يفرض العمل على توضيح الرؤية بخصوص دور مؤسسات التنشئة ـ وعلى رأسها الأسرة والمدرسة ـ في التربية القيمية الموجهة والمؤطرة لمختلف الميول والاتجاهات والمواقف والسلوكات الصادرة عن الأفراد والجماعات.
فقضية الطفلة أمينة وغيرها من الطفلات القاصرات المعرضات للوقوع في نفس الوضعية المأساوية، تتطلب منا مجهودا كبيرا من حيث إبراز الدور الكبير للراشدات والراشدين في غرس القيم والميول والاتجاهات الإيجابية لدى الأجيال الناشئة ذكورا وإناثا منذ الحلقات الأولى في مسار نموهم الوجداني والعقلي والحس حركي. كما يتطلب منا مجهودا على نفس القدر من الأهمية من حيث إبراز الأهمية القصوى للفلسفة المؤطرة لصياغة القواعد القانونية، وكذا مناهج ومحتويات التربية القيمية داخل مؤسسات التنشئة الاجتماعية، في إطار من التشارك الذي يسمح بتبادل الخبرات والاطلاع على المستجدات والتجارب الريادية العالمية في مجال التربية القيمية.
فالاغتصاب، والتزويج قسرا، والتعنيف، جرائم شنيعة، لما ينتج عنها متفرقة من مآسي نفسية ومادية واجتماعية على المجني عليها كما على المحيط القريب منها، فما بالنا إن اجتمعت في حالة واحدة، وهي كلها جرائم طالت الطفلة أمينة للأسف الشديد "بحضور" الأهل والأقارب وعلى مرأى ومسمع الجيران والساهرين على إنفاذ القانون.
وبدل أن يتعرض الجاني للعقوبات التي تدرجت فيها معظم القوانين البشرية من الحبس المحدد إلى المؤبد في مثل هذه الحالات، "تواطأ" الجميع على ترك سفينة الطفلة أمينة تغرق إلى حد اتخاذ قرار وضع حد لحياتها، كشكل من أشكال الاحتجاج المدوي على مثل هذه الأوضاع التي يمكن أن تزج بآلاف الطفلات في متاهات فقدان الكرامة الإنسانية والرضوخ لعقلية الاستعباد المتوحشة.
أتناول بالكتابة قضية الطفلة أمينة المُغتصَبة والمُزَوَّجَة قسرا والمُعنَّفة داخل "المؤسسة الزوجية" حسب ما تناقلته وسائل الإعلام، لا لتقليب المواجع، ولا للمزايدات السياسية، ولا حتى للاجتهاد في ابتداع صيغ تقديم العزاء لبراءة أطفالنا، بل فقط لمساعدة أنفسنا على إدراك واستيعاب ما يضغط علينا حتى اليوم للتعايش مع هذا الوجه البشري المتوحش، الذي لا زال متخفيا في ثنايا عقليتنا وموجها لبعض تصرفاتنا وسلوكاتنا داخل فضاء علاقاتنا الاجتماعية المتعددة.
ولِمَ لاَ، للتمكن من تحديد مواقفنا بدقة بخصوص ما يعتمل في حقل واقعنا من أحداث، قد لا يعيرها الكثير منا الاهتمام اللازم تحت ضغط الثقافة الذكورية السائدة، وقد يدعمها البعض الآخر بدعوى التشبث بحرفية هذا العرف أو التقليد أو النص أو ما شابه، علما بأنها أحداث تشكل علامات دالة على مدى قرب ممارساتنا وتصرفاتنا وسلوكاتنا أو ابتعادها عن البعد الإنساني، الذي من المفروض أن يشكل مناط كل القواعد والأحكام ذات الصلة بتنظيم وجودنا الجماعي داخل ما يسمى بالكيانات الدولتية، التي يجب أن تعمل على تجذريه في عمق ثقافتنا الموجهة لكافة تحركاتنا تجاه بعضنا البعض.
الطفلة أمينة والمنظومة القيمية الإنسانية:
وتكمن مهمة هذه القراءة في الانطلاق من قضية الطفلة أمينة وبعض مكوناتها، لتحديد السلوكات الدالة على وضعيات التنافي مع المنظومة القيمية الحقوقية الكونية، الكامنة في ثنايا العلاقات الاجتماعية التي ننتظم داخلها في مجتمعنا، وللعمل على تحديد أشكال التموقف من مثل هذه الظواهر السلوكية من طرف القوى الفاعلة، بغض النظر عن تلك التفاصيل والجزئيات ذات الصلة بالسياق والحدث والزمان والمكان والشخوص، على اعتبار أنها من اختصاص القائمين على التحقيق القضائي في القضية.
وما يهم بالأساس في نطاق هذه القراءة، بالإضافة إلى "الوضع الفردي الانهزامي المأساوي" الذي تواجدت فيه الطفلة أمينة داخل فضاء محيطها الأسري والمجتمعي، وبالإضافة إلى دلالات الحدث/الجرم المتمثل في الاغتصاب والتزويج القسري قبل الآوان والتعنيف، هو تملك مقومات ومحددات مفهوم القيمة الحقوقية في حد ذاتها، والتمكن من الوقوف على المؤشرات الدالة على وضعية التنافي معها في هذه القضية على وجه الخصوص.
وليتضح لنا بشكل جلي مقدار المسافة التي تفصلنا عن العيش المشترك في ظل منظومة قيمية إنسانية معززة للذات/الفرد، ولندرك حجم المهام والمسؤوليات التي تنتظرنا على مستوى التنشئة الاجتماعية، خاصة داخل الأسرة والمدرسة ودور الشباب وكافة المؤسسات الثقافية، بدل التراشق بالشعارات والخطابات التي لا يمكن تصنيفها سوى في باب المزايدات السياسوية الضيقة، طالما لم تؤد الإصلاحات المتتالية فعلا إلى مخرجات إيجابية ممكنة ومحتملة في حال تحمل المسؤولية واعتماد الجدية والحزم والصرامة في التعاطي مع معضلات المجتمع.
فالطفلة أمينة وهي في سن الخامسة عشرة من عمرها، وهو سن إبراز الذات والاعتناء بها أكثر من اللازم والتعبير عن الاستقلالية الشخصية والتأكيد على القدرة على ممارسة الحرية الشخصية... لم تتذوق طعم قيمة الكرامة أو الحرية أو المساواة، بل توفيت وفي دواخلها غصة تجاهنا نحن الكبار الذين لم نتقن في يوم من الأيام سوى التعبير عن عجزنا في نقل الجانب المشرق من الحياة وترسيخه لدى أطفالنا، وهو في نهاية المطاف ما يلزم كي يقبلوا عليها بتفان ويتشبثوا بها باستماتة.
الطفلة أمينة وقيمة الكرامة الإنسانية:
للكرامة مفهوم في سياق المنظومة القيمية الكونية، بحيث نجد أنفسنا في غير حاجة للإطناب بما ورد في معاجم كافة لغات العالم الحية منها والميتة، وهو بالمنظور الإنساني لا يمكن أن يخرج عن نطاق تقدير الشخص لذاته واحترامها أولا، واعتزازه بنفسه والافتخار بها أمام الآخرين ثانيا، والحرص على رفض وعدم قبول الإهانة من الآخرين أيا كان موقعهم ثالثا.
وهذا المنطلق يمكنه مساعدتنا على فهم إقدام الطفلة أمينة على "اتخاذ قرار" وضع حد لحياتها، إذ في حالتها يتبين أنها تعرضت لأسوأ معاملة تجسدت في تعرضها للاغتصاب كسلوك ألحق بها أشنع أنواع الإهانة الممكنة، وتم إخضاعها للرضوخ لمُغتصِبها داخل "مؤسسة الزوجية" دون أدنى مراعاة لمقومات وخصائص قيام هذه العلاقة بين رجل وامرأة، كما كانت موضوع تعنيف من طرف الجاني طيلة فترة التزويج، وهو ما أشعرها بفقدان مقوم تقدير ذاتها واحترامها لها لِمَا تعرضت له من تحقير في كل الحالات، فأصبحت بذلك مستبطنة للعجز الكلي عن الاعتزاز بذاتها والافتخار بها داخل محيطها.
وإذا كان المفهوم يشير إلى الكرامة الإنسانية، بما تعنيه من حفاظ على الحقوق البشرية في المعاملة والتصرف والتفكير، وهي حقوق أساسية من حقوق الإنسان، فإننا نخمن بأن الطفلة أمينة كانت أمام وضعية قهر مليئة بالإحساس بعدم قدرتها هي كشخص، وعدم قدرة الأسرة والجماعة من حولها، وعدم قدرة المجتمع ككل والقانون على ضمان حقها في العيش في نطاق الكرامة وكل أشكال التعبير الذاتي عنها، سواء في إطار التمتع بحريتها في التصرف والتفكير، أو في إطار التمتع بمعاملة الآخرين لها بما يحفظ كرامتها الإنسانية.
إن تحقيق كرامة الطفلة أمينة كقيمة إنسانية، والتي تشكل حجر الزاوية في منظومة حقوق الإنسان، كان يتطلب منا جميعا محاربة الاتجاهات التي تسهم في بث الحقد والكراهية، ومنها هذه الثقافة الاجتماعية السائدة المبنية على الأعراف والتقاليد الفاسدة المعززة لشروط استمرار التحقير الذي تعاني منه جل نسائنا. وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بالسير في اتجاه إقرار تشريعات وآليات فعالة قمينة بمحاربة كل هذه الأشكال من الانحراف على الطبيعة الإنسانية للإنسان من جهة، وبإعلان حالة طوارئ قصوى على مستوى طبيعة وشكل التنشئة الاجتماعية داخل المجتمع ومؤسساته من جهة أخرى.
فإذا كانت للكرامة مؤشرات دالة، حسب المنظور الكوني لهذه القيمة المركزية في المنظومة الحقوقية، من قبيل الحاجات الحيوية والنفسية والروحية والفكرية والاجتماعية، يحق لنا التساؤل عما إذا كان المجتمع يوفر لأمثال الطفلة أمينة شروط تقدير الذات واحترامها من خلال حقها في التربية والتعليم والراحة واللعب والبيئة السليمة والثقة بالنفس والشعور بالأمن...
الطفلة أمينة وقيمة الحرية:
الحرية كقيمة إنسانية، في المنظومة الحقوقية، هي التعبير الأمثل عن تمكن الفرد من إمكانية اتخاذ قرار أو تحديد خيار من عدة إمكانيات موجودة، دون أي جبر أو ضغط خارجي.
وهذا من شأنه تمكيننا كذلك من فهم إقدام أمينة على "اتخاذ قرار" وضع حد لحياتها، إذ في حالتها يتبين أنها تعرضت للاغتصاب عن طريق الجبر والضغط الخارجي الذي كان مصدره المُغتصِب، وهو سلوك مهين يستحيل على الطفلة أمينة بمستواها العمري تَقَبُّله، كما أُجْبِرَت على الرضوخ لمُغتصبِها داخل "مؤسسة الزوجية" دون أدنى مراعاة لحقها في اتخاذ قرار مصيري في شأن حياتها الخاصة، ودون اعتبار لحقها في اختيار شريك حياتها، علما بأنها قاصر ولم تصل بعد مرحلة التمييز، ومع إمكانية الضغط عليها للقبول بالعيش داخل علاقة موسومة بالتعنيف في حقها من قبل المُغتصِب، تكون جميع العوامل قد تضافرت ليتولد لديها الشعور بفقدان مقوم حريتها الشخصية، وبضغط وتَدَخُّل الآخرين في تحديد مصيرها، وبتعريضها مجبرة للإهانة والتحقير، ولتصبح فاقدة للإحساس بكينونتها، بل ومدركة لكونها عبارة عن شيء مؤثث لفضاء "الرجل" الذي لا يمتلك أدنى إحساس بالآخر.
فإذا كان مفهوم الحرية يحيل بشكل عام على شرط التحكم الذاتي في معالجة موضوع أو قضية ما، وإذا كانت الحرية هي حالة التحرر من القيود التي تكبل طاقات الإنسان، سواء كانت هذه القيود مادية أو معنوية، فالطفلة أمينة وهي في هذه السن المبكرة وجدت نفسها في قلب التبعية المفرطة المقيدة لشخصها، وفي دوامة الضغوط القاهرة المفروضة عليها لتنفيذ أغراض مرتبطة في الحالة الأولى بنزوة المُغتصِب، وفي الحالة الثانية برغبة الأهل في التستر على "العار". بمعنى آخر؛ وجدت نفسها في وضعية الفرض والإجبار بشكل عام، وفي منأى عن كل ما يمكن أن يفيد حالة التخلص من العبودية، التي حاربتها البشرية وجرمتها في القرن الماضي.
كل هذا يتجه بنا نحو التساؤل عما إذا كان مجتمعنا ـ بكل قواه الفاعلة ـ مدركا لأهمية اشتغاله على هدف الحفاظ على قيمة الحرية، التي لا تعني في نهاية المطاف سوى تكريس الحق في حماية الحياة الخاصة للإنسان، وكذا ضمان مجموعة من الحريات على أساس المساواة.
وإذا كانت للحرية مؤشرات دالة، حسب المنظور الكوني لهذه القيمة الأساسية في المنظومة الحقوقية، من قبيل حرية التفكير والتعبير والمعتقد والاجتماع والانتماء والتنقل... يحق لنا أن نتساءل عما إذا كان المجتمع قد وفر لأمثال الطفلة أمينة القاصر شروط حرية الاختيار وحرية الزواج وتأسيس أسرة...
الطفلة أمينة وقيمة المساواة:
قيمة المساواة تدل على الحق في التمتع بجميع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، على أساس ألا يخضع هذا الحق في التمتع بجميع الحقوق لأي تمييز بسبب الدين أو اللون أو اللغة أو الجنس أو المستوى الاجتماعي أو الإعاقة أو...
وهذا أيضا يمكنه إفادتنا في فهم إقدام أمينة على "اتخاذ قرار" وضع حد لحياتها، إذ في حالتها يتبين أنها تعرضت للاغتصاب كعملية تهدم من الأساس إمكانية أن تكون متمتعة بما يضمن لها الحق في التمتع بكافة حقوقها على قدر مساو لنا جميعا وللمُغتصِب الذي تصرف بشكل غريزي وحيواني أمام جبروت نزوته دون أدنى مراعاة لإنسانية الطفلة أمينة، والمؤكد هو أنها كفرد كانت تتوسم فينا جميعا وهي لا زالت طفلة قاصر أن نكون كمجتمع في مستوى ضمان حقوقها ومحاربة كل الأفكار والنزعات والممارسات والسلوكات التمييزية، بما فيها النزعة الذكورية المتعالية، التي أشعرتها بوضعها الدوني غير المساوي لـ"الرجل".
وقد وُضِع مفهوم المساواة ضمن المبادئ الحقوقية العالمية الأساسية، وكذا ضمن مرجعية تشريع القوانين الوطنية، وقضية الطفلة أمينة تطرح التساؤل بحدة عن قدرتنا الفعلية في المضي تجاه فرض مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الكرامة الإنسانية والحرية في اتخاذ القرار والاختيار وعدم الرضوخ للفرض والجبر والإهانة والقهر، أو بمعنى آخر فرض مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الحق في التمتع بجميع الحقوق.
لأن المساواة بهذا المعنى، هي تعبير عن الأدوار الحيوية التي يلعبها الجميع في المجتمع ذكورا وإناثا، لذلك ينبغي أن يتمتع الجميع بالمكانة التي يستحقها كإنسان بغض النظر عن جنسه، وعلى مجتمعنا إن كان جادا في خطواته التنموية أن يقضي على كل أشكال التمييز بين البشر، ويشجب كل أشكال الحيف ضد أي فرد أو جماعة، ويعمل على إدماج مبدأ مساواة الجميع في الحقوق والحريات، ويضع حدا لكل هذه السلوكات المنافية للمنظومة القيمية الحقوقية.
لقد احتلت المساواة أهميتها الكبرى في الفكر الإنساني، ومنها كان تحقيق العدالة الاجتماعية حلم الشعوب والمجتمعات دائما وأبدا، وعلى هذا الأساس ورت المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان "يولد جميع الناس أحرارا، متساوين في الكرامة والحقوق". وما من فلسفة أو دين إلا وكانت المساواة من أهم القضايا التي عالجتها، وحثت على وقف التمييزَ ضد الأقليات العرقية والإثنية، وضد النساء، وضد المعاقين جسديا، فلتكن إذا قضية الطفلة أمينة حافزا إضافيا في هذه المرحلة لتوجه مجتمعنا نحو تحقيق العدالة الاجتماعية كحلم دائم وأبدي لشعبنا ومجتمعنا.
الطفلة أمينة وقيمة التضامن:
يعتبر التضامن قيمة إنسانية تساهم في بناء المواطنة الحقة، وتضمن استقرار المجتمعات وتطورها، كما أنه يشكل تعبيرا عن سلوك إنساني؛ يعمل على تخفيف المعاناة والآلام عن بني البشر ويقوم على التعاون بين الناس.
وهذا المنطلق بدوره يمكنه مساعدتنا على فهم إقدام الطفلة أمينة على "اتخاذ قرار" وضع حد لحياتها، إذ في حالتها يتبين أنها تعرضت للاغتصاب، وتم إخضاعها للرضوخ لمُغتصِبها داخل "مؤسسة الزوجية"، كما تم تعنيفها وتحسيسها بفقدان مقوم تقدير ذاتها واحترامها لها، وهو ما يطرح تساؤلات عريضة بخصوص أحاسيس ومشاعر الطفلة أمينة قبل وفاتها من حيث تمتعها بصفة المواطنة داخل مجتمع لم يضمن لها الاستقرار والنمو الطبيعي الذي يحتاجه كل فرد في مثل مرحلتها العمرية، ومن حيث تعبير هذا المجتمع ذاته عن السلوك التضامني الإنساني الهادف إلى التخفيف من معاناتها وآلامها والتعاون معها في محنتها وهي على قيد الحياة، لا بعد مماتها.
خاصة وأن قيمة التضامن تعتبر من القيم الأساسية والعالمية التي ينبغي أن تقوم عليها العلاقات بين الشعوب وأفرادها في القرن الحادي والعشرين، وهو ما يحتم التزام الحكومات بالقضاء على كل أنواع القهر باعتبار ذلك حتمية أخلاقية واجتماعية وسياسية واقتصادية للبشرية، وقضية الطفلة أمينة تضعنا جميعا وبشكل متضامن أمام مسؤولية القضاء على مثل هذه الأنواع من القهر وتعزيز مكانة المرأة ضمن استراتيجية التنمية البشرية والاجتماعية في بلادنا.
والتضامن بهذا المعنى يدخل في باب مسؤولية الأفراد والجماعات والدولة، كل حسب موقعه وإمكانياته، علما بأن التخلي عن روح التضامن بهذا المعنى العام هو نوع من التخلي عن روح الإنسانية ذاتها، ونوع من التخلي عن أطفالنا الذين يعدون بالآلاف وهم معرضون لنفس المآل الذي تعرضت له الطفلة أمينة في أي زمان ومكان.
القوى المحافظة والموقف من المرأة:
نعيش اليوم على إيقاع تراجعات مدوية عن مكتسبات ما قبل الدستور الجديد بخصوص قضية المرأة، سواء تعلق الأمر بالتمثيلية النسائية أو بالمواقف المعلن عنها من طرف العديد من الوزراء والأعضاء القياديين للحزب الذي يتولى قيادة الحكومة الجديدة، أو بالوقائع الاجتماعية المكثفة للتعبير عن استمرار حضور النظرة المحتقرة للمرأة وأدوارها داخل نسيج علاقاتنا بشكل عام.
فقد تكون للاهتمام المتزايد بقضية المرأة، في ارتباط بقضايا التنمية والدمقرطة والتحديث خاصة في العقدين الأخيرين، أسباب وعوامل مرتبطة إما بمنظور قيمي ومبدئي معين أو بوقائع محددة، غير أن هذا وحده غير كاف لمعرفة أسباب هذه الدرجات القصوى من التعطش، التي فرضت إيقاعا خاصا على مستوى مواكبة النقاشات الدائرة حول المرأة، سواء في علاقتها بالمجتمع، كما هو الشأن بالنسبة لإدماجها في المحيط الأسري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، أو في علاقتها بالدولة، كما هو الحال بالنسبة لمشاركتها السياسية إلى جانب الرجل في مواقع المسؤولية.
والمؤكد أن الاهتمام بشأن المرأة كان وليد الوقع السلبي الكبير على مستوى الإحساس بالدونية الذي أفرزته مجموعة من العوامل التاريخية والثقافية، المعبرة عن الميل إلى التعصب الديني والمذهبي، والأثر البالغ على مستويات التأطير والتوجيه التربويين، ومن خلالهما على مسار تلمس مداخل معالجة الوضع غير السليم للمرأة، والانعكاس الخطير على مستوى الخطوات الإجرائية لإقرار وضمان وإعمال ترتيبات مشروع تيسير الاندماج.
النساء اليوم، مهددات وغير آمنات ومحبطات، نتيجة تعرضهن للظلم والقهر بسبب دعم قوى المحافظة لتقاليد وأعراف غير عابئة بوضعية المرأة المعاصرة ومصالحها. كما أن طروحات هذه القوى، حول الإصلاح والديمقراطية والعدالة والمساواة الاجتماعية متناقضة على أرض الواقع.
فالتخوف من الانعكاسات السلبية لهذا التهديد على النساء مشروع اليوم، وله من الدواعي ما يدفع إلى التفكير في إنتاج الصيغ والآليات والطرق الدفاعية، لممارسة نوع من الممانعة للتخفيف من حدة حجم الانعكاسات السلبية لعملية النكوص هذه.
إذ هناك ميل دائم لقوى المحافظة نحو الإسراف في الاعتداء على المرأة وإهانتها وتبخيس أدوارها داخل المجتمع ومؤسسات الدولة، ولم تنفع في هذا الميل دقة المرحلة السياسية والاجتماعية التي نمر منها، كما لم تنفع كل التوجهات والإجراءات الترتيبية التي نقوم بها لتثبيت دعائم المشروع المجتمعي.
القوى الديمقراطية وجهود استنهاض وتحرير طاقات المرأة:
فالجبهة المدافعة عن قضية المرأة جاءت كتعبير عن حاجة مجتمعية موضوعية استشعرتها المرأة المغربية بذاتها، من مختلف مواقع تواجدها وفعلها داخل المجتمع، واستشعرتها شرائح متنوعة من الفعاليات المدنية والسياسية، كما جاءت تعبيرا عن حاجة شعبنا إلى إطلاق وحفز طاقات نصف المجتمع، للمساهمة في بناء الحاضر والمستقبل.
هناك إدراك واستيعاب لضخامة التحديات ذات الصلة بقضية المرأة، وهناك وعي بالرهان الأساسي المتمثل في استنهاض وتحرير طاقات المرأة، لتخرج عن "سلبيتها" وتشارك في تقرير مصيرها بنفسها، وهو ما يدخل في صميم واجبات العمل المدني والسياسي المُطالَب بإثبات قدرته على إنتاج النخب النسائية القادرة على التنافس والتداول على المسؤولية في ظل بناء مؤسساتي قوي قادر على مواجهة مختلف التحديات التي تواجه بلادنا، والمُطالَب أيضا بتجسيد قدرته على إثبات أن قوة الدولة والمجتمع معا ومصداقيتهما تكمن في توفير شروط اندماج حقيقية لكل الطاقات المتمرسة في الحياة والإطارات والمؤسسات، وفي القلب منها الخبرات النسائية التي تتراكم داخلها، خاصة في هذه المرحلة المفصلية.
وقد كان الجهد منصبا على فتح الباب أمام المرأة المغربية للاندماج والعمل والتموقع، كما كان الاشتغال منصبا على إقرار وضمان وإعمال حقوق النساء وحرياتهن، بعيدا عن أي منحى يهدف إلى عرقلة هذا الاختيار، ولو تحت طائلة استعمال الغطاء الديني لإخفاء الرغبة الجامحة في التعبير عن المحافظة ومعاداة التوجه نحو التغيير.
لكن للأسف قوبل كل هذا الجهد والاشتغال بكثير من الإساءة والمزايدة وعدم مراعاة شروط المساهمة في بناء وترسيخ وتثبيت قواعد التعامل التعاقدي والديمقراطي، كما قوبل بقدر غير قليل من غياب رجاحة العقل والتميز في السلوك، كأساس لتمتين اللحمة بين بنات وأبناء هذا البلد.
البعض تصرف بمنطق المتحكم الوصي على الدولة والمجتمع، وتسبب بخصوص قضية المرأة في الكثير من الأذى، قبل أن يتحول إلى الترهيب على مر الزمن الفاصل بين بدايات الدفاع عن حقوق المرأة وحرياتها واندماجها السلس داخل المجتمع، وبين هذه الفترة التي يجب أن تتسم بالتنزيل الديمقراطي للدستور وبأجرأة منطوق فصله 19.
وعلى الجميع تفادي العمل على عرقلة مسارات إنماء شروط عيش المجتمع وتحسينها، وفي القلب منها شروط إدماج المرأة في التنمية. ونعتقد أنه لا حق لأحد في الوقوف حجرة عثرة أمام قضية رد الاعتبار التاريخي للمرأة في الإصلاحات الهيكلية تحت أية ذريعة كانت.
دعم مشروع الدمقرطة والتحديث لا محيد عنه للدفاع عن قضية المرأة:
لقد تأسست مرجعية الدفاع عن المرأة على قيم المواطنة والأصالة المغربية ومقومات الأمة المغربية الأساسية، وعلى الرؤية المتفتحة المتسامحة، التي شكلت باستمرار الأساس الذي سمح للدين الإسلامي بأن يمثّل أحد أهم عناصر اللحمة المشكلة لهذه الأمة، حيث الاعتدال في التديّن وضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية والالتحام الوطني، ولا يمكن بزلة تفكير أن يتم تحويل دور هذا الدين إلى فرملة للانفتاح على إيجابيات العصر والتفاعل معها.
إن قضية المرأة اليوم، بفعل مواقف القوى المحافظة، توجد في قلب التنافس السياسوي، الذي تقويه نظرة سياسية/دينية متطرفة تسير في اتجاه التحايل باسم المقدس المشترك والاستقواء به من أجل إعاقة تطور المجتمع والحيلولة دون تحرير طاقة المرأة، ومن شأن هذه الفرملة أن تشكل خطرا على وحدة البلاد وكيانها الوطني.
ينبغي أن ينصب عملنا على دعم جهود التنمية المستدامة، والنهوض بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتعزيز وتطوير مكتسبات دولة الحق والقانون، وتطوير أداء المؤسسات، ولا يمكن لكل هذا أن يستقيم بدون إيلاء الأهمية لقضية المرأة.
والمؤكد اليوم هو أننا لعبنا أدوارا جد إيجابية في التفاعل مع قضية المرأة من منطلق التعبير عن الرغبة في تيسير سبل اندماجها داخل مجتمعنا، وشكلنا حركية مدنية وسياسية تحظى اجتهاداتها واقتراحاتها برضى جل الفرقاء، وهو ما يجعل قوى المحافظة متخوفة وغير قادر على ممارسة الوضوح فيما يخص رؤيتها لقضية المرأة.
لذلك، فالمزيد من العمل في اتجاه إحقاق حقوق المرأة وحرياتها يشكل بعدا أساسيا في معركة الدمقرطة والتحديث بشكل عام، علما بأن الاشتغال على دعم مشروع الدمقرطة والتحديث يمثل أساسا لا محيد عنه في الدفاع عن قضية المرأة.