اُمٌ عظيمة



امين يونس
2012 / 5 / 13

" ب " كانتْ تخبز للناس ، بالتنور .. يومياً ولساعاتٍ عديدة ، صيفاً وشتاءاً ، وعلى مدى سنواتٍ طويلةٍ متواصلة ، لكي تعيل أطفالها الصغار ، بعد الموت المُبكر لوالدهم .. وعدم وجود مُعيل آخر .. رفضتْ " ب " الزواج ، وتفرغتْ بالكامل ، لرعاية أولادها وتربيتهم . هذا الكلام سهلُ القول نظرياً .. لكنه في منتهى الصعوبة على تلك المرأة القوية العظيمة ، التي تصّدتْ لهذهِ المُهمة النبيلة .. في ذلك الزمن الشائك .. قبلَ أكثر من خمسين سنة في العمادية .
أن إعالة أربعة أو خمسة اطفال .. واجبٌ ثقيل .. حتى على رجلٍ في كامل صحتهِ وعافيته .. في تلك المنطقة الجبلية البعيدة ، ولاسيما في الخمسينيات من القرن الماضي .. فكيفَ بإمرأة شابة ؟ ان " ب " بطبيعتها ، كانتْ ترفض ان تكون عالةً على احد .. لم تستجدي في حياتها ولم تطلب الصدقة .. بل إختارتْ ان تُمارِس عملاً شريفاً تستطيع القيام بهِ .. فَحّسَنتْ التنور في حوش منزلها .. وجمعتْ كمية جيدة من الحطب .. وكانتْ تخبز للناس بِكُل إخلاصٍ وتفاني .. وتحصل مُقابل ذلك على ضروريات الحياة اليومية . لم تكنْ ل " ب " أيام عطلة أو أعياد أو مناسبات .. مثل بقية النساء .. فكانتْ تقوم بذلك العمل الشاق والمُضني .. برحابة صدر وإبتسامة عذبة لاتُفارق شفتَيها .
إستطاعتْ " ب " أن ترسل ولدَيها الى المدرسة ، وأكملوا مراحل جيدة .. ولم تجعلهم لا هُم ولا أخواتهم البنات .. يشعرون بالحرمان قَدر الإمكان .. فكانتْ لهم الأم والأب في الواقع .. وحققتْ ما عجزَ عنه الرجال .. بمثابرتها وتحّمُلها وشجاعتها .
" ب " التي لم تتمتع بشبابها حيث ترَملتْ مُبكراً .. والتي كدحتْ عشرات السنين في عملٍ صعب .. والتي رعتْ وتابعتْ أولادها على أحسن مايكون ، حتى شّبوا وإستطاعوا مواجهة الحياة ومتطلباتها .. " ب " أتعبتْها السنين وقصمتْ ظهرَها .. فغادرتْ الدُنيا قبل عقدين .. بعد ان أدتْ رسالتها العظيمة كأُم رائعة .
" ب " هذهِ .. أرْضعَتْني لأشهُر .. فهي اُمي بالرضاعة . سلاماً يا اُمي حيثما ترقدين .