هيباتيا والرهبان: العقل الرشيد والفعل الجبان



حسني إبراهيم عبد العظيم
2012 / 7 / 2

هذه قصة واحدة من أنبغ نساء مصر وأنبلهن وأجملهن، قصة امرأة جمعت بين الخلق القويم والعقل الرشيد والفكر السديد، بالإضافة لجمالها الفريد.إنها هيباتيا Hypatia الفيلسوفة المصرية السكندرية التي عاشت حياة فصيرة في الفترة من عام370 حتى عام 415.م

يصفها المؤرخ الانجليزي العظيم إدوارد جيبون E, Gibon(1737-1794) بقوله: (رغم أن هذه العذراء المتواضعة كانت بارعة الجمال، ناضجة الحكمة فإنها رفضت عشاقها "فالثابت أنها رفضت الزواج من كل من تقدم طالبا الاقتران بها، وظلت عذراء طوال حياتها" وعلمت تلاميذها دروسا رائعة، ولذلك تلهف أشهر الناس مقاما وجداره على زيارة تلك الفيلسوفة) كما كانت قوية الشخصية تفرض احترامها على الجميع.

وجاء في دائرة المعارف البريطانية: (واجتمعت لها الفصاحة والتواضع والجمال مع قدراتها العقلية الممتازة فجذبت عددا هائلا من التلاميذ)، ويقول (كارل ساجان) صاحب كتاب (الكون) عنها "إنها آخر بريق لشعاع علم بزغ من الإسكندرية".

‏وكانت الكتابات الأوروبية الأدبية الخالصة عن هيباتيا قد بدأت في القرن الثامن عشر، إذ طبع الكاتب الإنجليزي جون تولاند (1620 - 1722) عام 1720 كتاباً عن تاريخ هيباتيا، ويقول فيه عنها: "حسب النساء اعتداداً بقيمتهن، أن تكون من بينهن امرأة مثلها في تلك الدرجة من الكمال... ولديهن من بواعث الفخر والاعتداء بقيمتهن أكثر مما لدى الرجال من بواعث الخجل والعار أن يكون من بينهم متوحش لا يرق لمثل هذا الجمال وذلك الطهر، وذلك العلم الرحيب الآفاق".‏ (يقصد الكاتب بالمتوحش هنا بطرس القارئ الذي سيرد ذكره بعد قليل)

وقد وصفها الدكتور يوسف زيدان على لسان الراهب هيبا بطل رواية "عزازيل" التي أثارت جدلا واسع النطاق وقت صدورها وصفاً جميلاً بقوله : "هيباتيا .. أكاد إذ أكتب اسمها الآن، أراها أمامي وقد وقفت على منصة الصالة الفسيحة، وكأنها كائن سماوي هبط إلى الأرض من الخيال الإلهي، ليبشر بخبر رباني رحيم. كانت لهيباتيا تلك الهيئة التي تخيلتها دوماً ليسوع المسيح، جامعة بين الرقة والجلال.. في عينيها زرقة خفيفة ورمادية، وفيها شفافية. في جبهتها اتساع ونور سماوي، وفي ثوبها الهفهاف ووقفتها، وقار يماثل ما يحف بالآلهة من بهاء".‏

ولدت "هيباتيا" فيلسوفة الإسكندرية في عام 370م، وهي ابنة "ثيون" Theon أستاذ الرياضيات في متحف الإسكندرية وآخر عالم عظيم من علمائه الذين سجلت اسماؤهم في سجل أساتذة المتحف. ويحدثنا المؤرخ الكنسي "سقراط" عن المكانة الفكرية لهيباتيا بقوله إنها فاقت كل فلاسفة عصرها، وأنها كانت تقدم شروحها وتفسيراتها الفلسفية لمريديها الذين قدموا من مختلف المناطق التي بلغتها شهرة الفيلسوفة السكندرية، وقد بلغ من رباطة جأشها ودماثة خلقها الناشئين من عقليتها وثقافتها الواسعة أن كانت تقف أمام قضاة المدينة وحكامها دون أن تفقد وهي في حضرتهم مسلكها المتواضع المهيب الذي كان يميزها عن غيرها، والذي أكسبها احترامهم وتقدير الناس جميعا وإعجابهم. وكان والي المدينة "أورستوس" Orestes في مقدمة هؤلاء الذين يكنون لها كل الاحترام.

ويذكر المؤرخ المصري الكبير الدكتور مصطفى العبادي استاذ التاريخ اليوناني والروماني بجامعة الإسكندرية أن حاكم الإسكندرية كان يمر على هيباتيا في الصباح ليحييها قبل ذهابه لمقر عمله. لقد كانت "هيباتيا" شخصية جذابة إلى أبعد الحدود، جميلة، واضحة الفكر والعقل، قوية الأخلاق لدرجة متطرفة، لقد كانت واحدة من نساء الأسكندرية الكبريات.

وقد عاصرت "هيباتيا" شخصية مهمة في التاريخ المسيحي وهي (البابا كيرلس الأول) الذي تولى منصب رئيس أساقفة المدينة عام 412م خلفا لعمه ثيوفيلوس Theophillus بعد أن تشرب في منزل هذا العم دروس الغيرة والحقد والهوس الديني، صحيح أنه كان قد قضى خمس سنوات من شبابه في أديرة صحراء النطرون مع مجموعة من الرهبان عندما ظهر نظام الرهبنة المسيحية أول ما ظهر في مصر، وفي مدينة الإسكندرية على وجه التحديد، لكنه رغم ذلك كانت تسيطر عليه قيم الحياة الدنيا ومباهجها، أو بعبارة إدوارد جيبون :(كان كيرلس يؤدي الصلاة والصيام خلال إقامته في الصحراء، غير أن أفكاره "وهذا تقريع من صديق له" ظلت عالقة بالدنيا).


واشتد حماس "كيرلس" لمحاربة الهرطقة التي اتسع مفهومها عنده حتى شمل كل من ليس مسيحيا يدين بأفكار كبير الأساقفة، فاليهود الذين زاد عددهم حتى بلغ أكثر من أربعين ألفا، بل يرى البعض أن عدد أفراد الجالية اليهودية في الأسكندرية تجاوز عدد يهود أورشليم نفسها في ذلك الوقت.كانوا يعيشون في جو من التسامح كفله القياصرة والبطالمة من (الوثنيين) وإقامة طويلة قدرها 700عام منذ تأسيس الإسكندرية. غير أن كيرلس ودون أي سند قانوني، ودون أي تفويض ملكي، ودون أن تكون له أدنى سلطة سياسية قاد – مثلما فعل عمه من قبل – مجموعة من الغوغاء من الجمهور المتمرد ومن مثيري الشغب والفتنة في فجر أحد الأيام لمهاجمة معابدهم، وعجز اليهود عن المقاومة وهم عُزّل، ولم يعدوا للأمر عدته، فهدمت أماكن عبادتهم وسويت بالأرض، ثم كافأ الأسقف المناضل قواته الظافرة بأن سمح لهم بنهب ممتلكات اليهود، ثم طرد من المدينة من تبقى من أبناء "الشعب الكافر" مبررا عمله هذا بأنهم كانوا شديدي الثراء وكانوا يكرهون المسيحيين.!!!

وكانت "هيباتيا" تمثل مصدر قلق للأسقف "كيرلس" الذي يلقبه المسيحيون بـ(عمود الدين) !!! حيث كان التفاف جمهور المثقفين حول هيباتيا التي عرفت بفيلسوفة الأفلاطونية المحدثة يسبب حرجا بالغا للكنيسة المسيحية وراعيها الأسقف "كيرلس" الذي كان يدرك جيدا مدى الخطورة التي يمكن أن تمثلها هيباتيا على جماعة المسيحيين في المدينة، خاصة وأن أعداد سامعيها كانت تزداد بصورة تلفت الأنظار، فإذا أضفنا إلى ذلك صداقتها لوالي المدينة وتقديره إياها، في الوقت الذي كان فيه العداء قائما بينه وبين الأسقف السكندري الذي كان ينافس الوالي اختصاصاته، وهو ما يصفه المؤرخ الكنسي الناقد "سقراط" بالغيرة السياسية القائمة بينهما والسائدة آنذاك ، تأكدنا إلى أي حد كان كيرلس مغتما لما يمثله وجود "هيباتيا".

وزاد الأمر سوءا أن الأسقف - كما بينا منذ قليل - دخل في صراع مع اليهود الموجودين في الأسكندرية، وسعى جاهدا لإخراجهم منها، ونجح في ذلك إلى حد كبير وذلك بمساعدة أعداد كبيرة من الرهبان الذين كانوا يشكلون جيش الكنيسة ، والذين استقدمهم إلى المدينة لهذا الغرض، ولم يستطع الوالي أن يتصدى لهذه الفوضى ، بل إنه تعرض هو بدوره للإهانة والتطاول من جانب الرهبان الذين قذفوه بالحجارة في شوارع المدينة بعد أن علموا بالتقرير الذي بعثه إلى الإمبراطور متضمنا الفوضى التي وقعت في الإسكندرية من جراء اشتباكاتهم مع اليهود. ومن ثم تأزمت العلاقات تماما بين المسيحيين وعلى رأسهم كيرلس والوالي، وسرت الشائعات بين جموع المسيحيين بأن السبب في هذا العداء بين رجلي الإسكندرية يعود إلى هيباتيا وتأثيرها على حاكم المدينة، وكان هذا يعني أن المدينة لن تعرف الهدوء إلا بالخلاص منها.

لقد كان "كيرلس" يشاهد بعين الحقد والحسد ذلك الرتل الضخم من الجياد التي اصطفت على باب أكاديميتها . . . فسرت الإشاعة السابقة – وكان كيرلس هو مصدرها على الأرجح – وهي إن هيباتيا تمثل العقبة الوحيدة في طريق التوفيق بين الحاكم اليوناني و"كيرلس"، كما لو أن هذه العذراء المتواضعة كانت المصدر الذي أوحى لكيرلس بأن يبدأ عهده بالتنكيل بأتباع (نوفاشيانوس) وهم أكثر أبناء الطوائف الدينية براءة وبعدا عن الأذى، أو أنها هي التي أشارت عليه بمهاجمة حي اليهود في المدينة ونهب ما فيه، وطرد من فيه، أو أنها رتبت قيام خمسمائة من الرهبان باعتراض طريق الحاكم ومهاجمته بالصورة التي ذكرناها آنفا، ومن اللافت أن المؤرخ جيبون يتحدث عن القديس كيرلس قائلا أنه قد نال لقب القديس لقاء ما ارتكبه من جرائم في حق الطوائف الأخرى انتصارا للمسيحية.

لم تكن (هيباتيا) سببا في أي من هذه الأحداث، لكن رئيس الأساقفة كان يمهد لجريمة جديدة،، حيث سمع بطرس القارئ Peter The Reader ( قارئ الصلوات في الكنيسة) وهو زعيم الجماعة التي قتلت "هيباتيا" عظة البابا كيرلس وهو يدعو إلى تطهير أرض الإسكندرية من أعداء الرب، مشيراً في ثنايا حديثه _ أي البابا كيرلس- إلى أن " أذيال الوثنيين الأنجاس، مازالت تثير غبار الفتن في ديارنا، إنهم يعيثون حولنا فساداً وهرطقة، يخوضون في أسرار كنيستنا مستهزئين، ويسخرون مما لا يعرفون، ويلعبون في مواطن الجد ليشوهوا إيمانكم القويم" .‏

يشرح لنا الدكتور إمام عبد الفتاح العمل الوحشي الذي قام به الرهبان بزعامة بطرس القارئ ضد هيباتيا قائلا: في إحدى أيام فصل الصيام الكبير (المقدس) وعلى وجه التحديد في ليلة مظلمة من ليالي مارس 415م، اعترضت مجموعة من رهبان صحراء وادي النطرون الذين (قضوا سنوات طويلة في الصحراء يصارعون قوى الشر، ويديرون صراع باطني ضد شهوات الجسد ووسائل النفس الأمارة بالسوء) اعترض هؤلاء الرهبان طريق عربة "هيباتيا" بايعاز من كبيرهم "كيرلس" فأوقفوا الفيلسوفة الجميلة كما فعلوا مع حاكم المدينة من قبل، ثم جروها إلى كنيسة قيصرون" Caesareun حيث تقدمت مجموعة من هؤلاء الرهبان وقاموا بنزع ثيابها واحدا واحدا حتى تجردت من ملابسها؛ لتصبح عارية - كما ولدتها أمها – مشهد بالغ الغرابة يقوم به النساك (الأطهار).

تقدم بعد ذلك بطرس القارئ وفام بذبحها وهي عارية وقد أمسك بها مجموعة من الرهبان ليتمكن قارئ الصلوات من ذبحها ذبج الشاة، ثم عكف الرهبان (أنقياء القلب) على مهمة بالغة الغرابة، وهي تقطيع جسدها إلى أشلاء مستمتعين بما يفعلون، ثم أمسكت كل مجموعة قطعة بعد قطعة وراحت تكشط اللحم عن العظم بمحار حاد الأطراف، وفي شارع سينارون Cinaron أوقدوا نارا ذات لهب وقذفوا في النار بأعضاء جسدها وهي ترتعش بالحياة كما يقول "راسل" حتى تحول الجسد إلى رماد، وهم يتحلقون حوله في مرح وحشي على حد تعبير "ديورانت"

ويصف يوسف زيدان على لسان الراهب هيبا مشهد مقتل "هيباتيا" وصفا بالغ التأثير بالقول: "تجمعوا فوق هيباتيا، حين وقف بطرس ليلتقط أنفاسه. امتدت إلى يدها يد مازعة، ثم امتدت أياد أخرى إلى صدر ردائها الحريري الذي تهرّأ، واتسخ بالدماء والتراب.. أمسكوا بإطار الثوب المطرز وشدوا فلم ينخلع، وكاد بطرس يقع فوق هيباتيا من شدة الشدّة المباغتة، لكنه سرعان ما عاد واستعاد توازنه، ومضى يجر ذبيحته، ومن ورائه انحنى أتباعه محاولين اقتناص رداء هيباتيا .. هيباتيا .. أستاذة الزمان .. النقية .. المقدسة .. الربة التي عانت آلام الشهيد، وفاقت بعذابها كل عذاب" إلى أن يقول وهو يصور سماعه صرخة امرأة عجوز شمطاء بأن يسحلوها: "انهالت الأيدي على ثوب هيباتيا فمزّعته.. الرداء الحريري تنازعوه حتى انتزعوه عن جسمها، ومن بعده انتزعوا ما تحته من ملابس كانت تحيط بجسمها بإحكام. كانوا يلتذّون بنهش القطع الداخلية ويصرخون، وكانت العجوز تصرخ فيهم كالمهووس:اسحلوها!" ثم يصف لنا سحلها فوق شوارع الإسكندرية وتقشير جلدها بالأصداف، ومن ثم حرقها قائلاً: " كانت هناك كومة من أصداف البحر. لم أر أول من التقط منها واحدة، وجاء بها نحو هيباتيا، فالذين رأيتهم كانوا كثيرين. كلهم أمسكوا الصدف، وانهالوا على فريستهم.. قشروا بالأصداف جلدها عن لحمها.. علا صراخها حتى ترددت أصداؤه في سماء العاصمة التعيسة، عاصمة الله العظمى، عاصمة الملح والقسوة". إلى أن يقول "وجروا هيباتيا بعدما صارت قطعة، بل قطعاً من اللحم الأحمر المتهرئ. عند بوابة المعبد المهجور الذي بطرف الحي الملكي البرخيون ألقوها فوق كومة كبيرة من قطع الخشب، وبعدما صارت جثة هامدة .. ثم .. أشعلوا النار.. علا اللهب، وتطاير الشرر .. وسكتت صرخات هيباتيا بعدما بلغ نحيبها من فرط الألم عنان السماء".‏

والحقيقة أننا عندما نعرض هذا المشهد الدموي المأسوي الوحشي فإن ثمة سؤال يطرح نفسه بإلحاح: لماذا جرد الرهبان هيباتيا من ملابسها قبل اغتيالها؟ فمادام "الذبح" في نيتهم فلم يكون وهي عارية تماما؟ ألا يمكن أن يقول لنا علم النفس الشئ الكثير عن هذا الموقف الغريب؟ أليست هناك علاقة بين هذا الموقف، وما قاله أحد أصدقاء كيرلس عنه من أن فكره ظل عالقا بالدنيا؟ ألا يعني ذلك أن الرهبان عندما دخلوا في معركة مع شهوات الجسد لم ينتصروا فيها، بل كان انتصارهم ظاهريا في حين ظلت الغلبة لهذه الشهوات؟ أيكون تجريدها من ملابسها قد تم حتى يتمكن الرهبان "أنقياء القلب" من معاينة جسد العذراء وهو عار تماما قبل الذبح؟ لقد سبق أن رأينا كيف حدث هذا المشهد نفسه مع "أورستيس" حاكم المدينة وكاد الرهبان أن يفتكوا به لولا أن أنقذه المخلصون من أبناء الإسكندرية: ترى أكانوا يقومون بتجريده هو الآخر من ملابسه قبل اغتياله لو حدث أن تمكنوا منه؟ ربما ترتسم ابتسامة عريضة على وجه القارئ لهذا السؤال، مما يجعلنا نكرر السؤال: لماذا جردوا العذراء الجميلة من ثيابها اللهم إلا إذا كانت شهوات الجسد ما تزال طاغية، فأرادوا أن يمتعوا القلب (النقي) بمشهد الجسد الجميل العاري.

يعلق المؤرخ الكنسي "سقراط" على ذلك بقوله "ليس هناك أبعد عن الروح المسيحية، أكثر من السماح بالمذابح أو الحروب أو أي وحشية من مثل ذلك، وإن هذا العمل لم يلحق الخزي والعار بالأسقف "كيرلس" فقط بل بالكنيسة السكندرية كلها. بينما يبدي المؤرخ جيبون E, Gibbon استياءه وازدراءه الشديد لهذا الأسلوب الهمجي قائلا: " أن قتل هيباتيا وصم أخلاق كيرلس وديانته بوصمة عار لا تزول ولا تمحى، ويضيف "جيبون" أن أسقف الأسكندرية تمكن عن طريق "الهدايا المناسبة" التي قدمت للجهات المختصة ، من إيقاف سير التحقيق أو إنزال العقاب بمرتكبي هذه الفعال، واكتفى الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني بأن أصدر في سبتمبر عام 416 أي العام التالي لمقتل هيباتيا قرارا يقضي بعدم تواجد الرهبان في الأماكن العامة أمام الجموع.

والحقيقة أن جل المؤرخين والكتاب الذين تناولوا قضية الفيلسوفة هيباتيا وكلهم مسيحيون عابوا على كيرلس تصرفه المجافي تماما للروح المسيحية، بينما أثنوا على هيباتيا رجاحة عقلها وحسن خلقها، فإلى جانب ما وصفها به مؤرخ الكنيسة سقراط من وقار ودقة تفكير. نجد "سينيوس" أسقف طلميثة يخلع عليها من العلم والمهابة والجلال، ما يجعله عابدا في محراب علمها، وهو رجل الدين المسيحي، وتكشف رسائله العديدة إليها عن عظيم تقديره لها، ولم يكن يذكرها إلا بـ "العزيزة هيباتيا" التي يترك من أجلها بلاده ويقدم عليها يحمله الشوق ويحدوه حادي الود الخالص والولاء الطاهر"، فقد كان سينيوس القوريني واحدا من أخلص تلاميذها وظل على وفائه لها بعد ارتحاله إلى أثينا ليكمل دراسته، ثم عودته إلى موطنه "المدن الخمس الغربية" Pentapolis في ليبيا، ورسمه أسقفا لمدينة طلميثة. وقد كتب ذات يوم إلى أخيه يقول: "حقا لقد كانت أثينا من قبل مصدرا للمعرفة، أما الآن فلم يعد لها شيئ إلا بعض أسماء المدن الشهيرة، وتجار العسل فقط هم مصدر فخارها، أما مصر فقد احتلت اليوم مكانتها، وراحت تأخذ عن هيباتيا الحكمة وفصل الخطاب.

وهذه "بوتشر" E. L. Butcher صاحبة كتاب قصة الكنيسة المصرية Story of the church of Egypt, London 1897 وقد عقدت فصلا خاصا في كتابها للحديث عن "سينيسيوس القوريني" وعرضت فيه لعلاقتة العلمية بأستاذته هيباتيا التي وصفتها بقولها: "وكان وجهها مثالا للجمال، بينما كان عقلها نموذجا للعلم والمعرفة، ومواهبها لاحدود لها، مما ترك أثره الكبير في نفس سينيسيوس الذي لزم بابها تلميذا وفيا فلما تحول إلى المسيحية ظل صديقا مخلصا. ولا يرد ذكرها في كتابها إلا قدمت اسمها بلقب "العلامة هيباتيا".

وبعد عرض هذه القصة المؤلمة نتساءل مع الدكتور إمام عبد الفتاح: أيمكن أن يكون هؤلاء الوحوش من تلامذة السيد المسيح؟ أيمكن أن نقول إنهم (ملح الأرض) كما كان يصف المسيح حوارييه؟ المسيح الذي عفا عن مريم المجدلية الزانية (وقال لها مغفور لك خطاياك) لوقا 7/48 وقال عن زانية أخرى (من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولا بحجر..) يوحنا 8/7 هل يمكن لمن ذبح فيلسوفة شهد لها أهل زمانها أن يكون تلميذا (لابن الإنسان) الذي رفع شعاره في موعظة الجبل بعدم مقاومة الشر بالشر: (لا تقاوموا الشر بالشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا...)متى 5/9

الخلاصة من تلك القصة أن العنف (والإرهاب بالمصطلح الحديث) هو سلوك إنساني مجرد لا يرتبط بالضرورة بدين أو مذهب أو طائفة معينة، فهؤلاء الرهبان الأتقياء الذين نذروا حياتهم للعبادة وأداء الطقوس وتطهير الذات والبعد عن الدنيا، وينتمون لديانة المحبة والسلام يقترفون جريمة من أبشع الجرائم التي عرفها التاريخ الإنساني، هل يمكن أن نطلق حكما - بناء على تلك الواقعة - بأن المسيحية ديانة إرهابية؟ بالقطع لا . . . إنما التحليل الموضوعي يقتضي القول بأن تلك الواقعة نتيجة تعصب أعمى لرأس الكنيسة، وفهم قاصر لقارئ الصلوات وتدين غبي لهؤلاء الرهبان، وكل أولئك من يتحملون وزر هذه الجريمة، ولا يمكن أبدا أن نحمل الديانة المسيحية وزرها.

بالمثل، هل نحمل بعض التصرفات الخاطئة لبعض المسلمين على الإسلام ونصفه هكذا بلا أدنى تحليل بأنه دين إرهابي؟ للأسف الشديد نلاحظ أن كثيرا من الكاتبين لا يكفون عن الحديث ليل نهار عن أن الإسلام هو دين الإرهاب استنادا لبعض الوقائع التاريخية والتي لا يتحمل وزرها إلا فاعلوها، أما الإسلام نفسه فهو دين العدل والإحسان والسلام. وفي هذا الصدد فإنني أردد كلمة قالها المفكر الليبي الراحل الصادق النيهوم (ليست المشكلة في كلمات الله، إنما المشكلة فيما فعله الناس بكلمات الله).

وأقول في النهاية ألا تستحق هذه الواقعة اعتذارا من الكنيسة الأرثوذكسية للمجتمع الإنساني على ما فعله هؤلاء الرهبان بتلك السيدة التي أثرت الفكر الإنساني؟ باعتبار أن سلوكهم هذا لايمثل الكنيسة، بل إنه يجافي روح المحبة في دين السيد المسيح عليه السلام. ليتها تفعل !!!!



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لمزيد من المعلومات حول حياة هيباتيا وقيمتها الفكرية والإنسانية أحيل القراء الأعزاء للمراجع التالية:
1 - إدوارد جيبون، اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، ترجمة محمد علي أبو درة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الألف كتاب الثانية، 1997.
2 - إمام عبد الفتاح إمام، نساء فلاسفة: سلسلة الفيلسوف والمرأة، مكتبة مدبولي، القاهرة،1996.
3 - بيانكا ماضيّة، هيباتيا: الفيلسوفة الإسكندرانية التي أثارت شجون الأدب والفن في العصر الحديث، مجلة أمواج سكندرية العدد العدد 43 يناير 2010.
4 - رأفت عبد الحميد، الفكر المصري في العصر المسيحي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،2000.
5 - عبد المنعم الحفني، موســوعة الفلسفة والفلاسفة، الجزء الثاني، الطبعة الثانية، مكتبة مدبولي، القاهرة،1999
6 - مصطفى العبادي، سينوس القوريني: مفكر فترة التحول من الوثنية إلى المسيحية، بحث منشور ضمن أعمال المؤتمر الأنثروبولوجي الثاني، كلية الآداب ببني سويف (التابعة سابقا لجامعة القاهرة) 1998.
7 – وول ديورانت، قصة الحضارة، المجلد 12، ترجمة محمد بدران، دار الجيل للطبع والنشر، بيروت
8 - يوسف زيدان، عزازيل، مكتبة الشروق، القاهرة، الطبعة الرابعة عشرة،2009.