أظن أن الدائرة بدأت من هنا - إضاءة على مقال السيدة وجيهة الحويدر



كامل السعدون
2005 / 2 / 11

الحقيقة أن في كل واحد منا قسطٌ من الأنوثة والذكورة بذات الآن ، وهذا القسط يتباين كما تتباين تفاصيل ملامح المولود فلديه أنف أمه وفم أباه أو تردد أمه وخبث أباه ، وتلك موروثات جينية لا خيار للأبوين فيها إلا في هامش ضيق ( يمكن للتماهي والتوحد الحار الصادق بين الأبوين لحظة زرع بذرة المولود ، وكذلك منظومة تصوراتهما ونمط تفكيرهما الذهني ، ووضعهما النفسي ، يمكن لجميع هذا أن يلعب دورا في أنتاج أبناء أصحاء نفسيا وعقليا وحتى جماليا ) .
حسنا ليس هذا موضوعنا ، ولكن موضوعة الأتصال والأنفصال بين الجنسين هو محور المقال .
في قناعتي أن كل العلائق الأنسانية ينبغي أن تكون بذات نمط العلائق الكونية الطبيعية من حيث أنها لا تتماهى ولا تتوحد مع بعضها إلا ضمن حدود معينة ثم تعود لمداراتها الأعتيادية ، تماما مثل الألكترون ونواة الذرة أو مثل البذرة والشجرة ، تركيز ثم أنتشار ، وفي أغلب الأوقات أنفصال وأتصال بذات الآن ، مثل هذا وحده يحمي فردية الفرد أو الجنس وبذات الوقت يغني الآخر أو يضيء له عن بعد دون ضرورة أن يذوب فيه أو يذيبه في جوهره .
لو إننا مثلا تخيلنا يوما أن تدنو الشمس منا ولو بضع أمتار عن هذا القائم والمقرر في جوهر برنامج الشمس ، لأحترقنا جميعا ولأنتهت الحياة على الكرة الأرضية ، ولو أن كل ألكترون بارح مكانه والتصق بنواته لما ظل في أجسامنا الكترون مستقل ولتحولت كل عضلاتنا وأعضائنا وملامحنا إلى فتات أو سيول من الطاقة التي تتدفق إلى الخارج ليبتلعها الكون العظيم .
قدرنا أن نكون متصلين ومنفصلين عن بعض بحدود محسوبة بدقة ، فأما لحظات التوحد الجميل القصيرة ، فهي لحظات أنفجار كوني جميل بهي يحصل حين يبلغ الشوق منتهاه ، وفي هذا الأتصال تجدد الأكوان لعبة الخلق الأولى تماما كذلك الإنفجار الرهيب الجميل الذي حصل حين شاء الخالق أن يتماهى مع ذاته ليخلق بوعيه الذاتي المقدس هذا الكون الجميل ، أو كما تقول الفيدا الهندية ، أراد الخالق أن يرتدي ثوبا ماديا فخلق الأكوان لتكون مظهره المادي .
حسنا ...نتماهى مع بعض ونتوحد فنعيد لعبة الخلق الأولى وننجب الأبناء ، وذات الأمر تفعله كل الأحياء ، ولكننا وللأسف أختلفنا عن بقية الأحياء ذات البرمجة الغريزية الثابتة والأكيدة والتي لا تخطيء ، في أننا نمتلك قدر أن يكون لنا نظام عصبي متميز متطور يمتلك القدرة على وعي ذاته .
نحن المخلوقات الوحيدة القادرة على أن تعي ذاتها وتقول هذا انا وتلك ملامحي وصفاتي وخواصي ، ونحن الكائنات الوحيدة التي مارست عملية برمجة وعيها بذاتها فأضافت على البرمجة الطبيعية التلقائية الأولية برمجتها الذاتية التي سجلتها عبر كاميرا العين ومستشعرات الحواس الأخرى ، ولهذا فإن دماغ أجدادنا قبل ملايين السنين ليس هو ذاته دماغنا في يومنا هذا .
حسنا أين الإشكالية إذن في هذا التمايز غير الصحي وغير الجميل بين هذين الجنسين الجميلين للغاية ؟
هذا التمايز المتمثل في الإستعلاء من جانب الرجل والرغبة في أقصاء الآخر والتقصير في أحترامه أو الأستهانة به والتلذذ بإيذاءه أو غزوه أو أغتصاب كينونته والسعي لتدجينها والتعتيم عليها ووضعها إلى الخلف .
في قناعتي أن المسألة تاريخية أكثر مما هي غريزية وإن كان للغريزة دور ما في ذلك ، إنما الدور الأكبر هو للأسبقية التاريخية للرجل في أكتشاف الخارج بينما المرأة إنكفأت على الداخل أو على نفسها وبضعة تلك النفس إلا وهي بذرة الرجل التي ألقيت فيها .
حصل هذا قبل ملايين السنين ربما ، إذ حين وجد الإنسان البدائي نفسه على هذه الأرض البكر بكل ما فيها من حيوانات متوحشة ومخاطر جمة تتربص به في كل مكان وخلف كل شجرة من أشجار ما قبل التاريخ العملاقة في تلك الغابات الرهيبة المرعبة الممتدة على مدى البصر ، بدأ الجنسين الذين خلقا في ذات الآن ربما ، يسجلان إنعكاسات الحواس المختلفة ، وهنا في مرحلة ما ، بدأ يتشكل الدماغ وكانت مادته الأولى تلك الأنطباعات التي تسجل ، وكان إكتشاف مبهر للإنسان أن يعرف أنه قادر على أن يتذكر وأن يبني عادات تعتمد في الأساس على تلك الأنطباعات الأولية التي كانت تعتمد في البدء على مبدأي الهرب أو الأقتحام .
هذا أسد لا يمكن أن تلعب معه ، إذن عليك أن تهرب ، ذاك ديناصور أليف لم يسبق له أن ألتهم رفيقك ، يمكن أن تلعب معه ، ثم هذا أرنب بمقدورك أن تلتهمه لأنه لا يملك ما تملك من قوة ولا يستطيع المقاومة .
سجلت هذه الإنطباعات وسجل أيضا هذا التوافق الغريزي بين الإثنين وأدركا أن له محصلة تتمثل في ولادة نسخ جديدة من الأبوين يمكن أن تكون مسلية ومفيدة ، هنا بدأت العلاقة بين الرجل والمرأة وهنا أيضا حصل الأفتراق في تكوين الكم المعرفي .
المرأة وجدت نفسها غريزيا تنحاز لهذا الذي ألقي فيها من بذور ذاك الآخر ذو اللحية الكثة والعضل القوي ، أما هو فلم يستطع أن يجد في نفسه ذاك الميل الغريزي للبقاء ومتابعة الصغير ، المرأة حملته شهورا تسعة ، تألمت ورعبت وهي ترى بطنها تنتفخ ، أحساس غريب بالولاء والحب لهذا الذي يرضع من دمها ويتشكل من لحمها ، دفعها للبقاء معه حين خرج وتابعته شهورا وأعوام ، فتشكلت لديها مدركات مغايرة أو دون مستوى مدركات الرجل ، لأنه لم يمتنع عن الخروج ولم يركن إلى البيت ولم يتابع الصغير إلا بقليل القليل من الأهتمام .
كان أهتمامه متركز على غزو الخارج بكل ما في هذا الخارج من إغراءات وجاذبية وتحدي ، هنا تعزز الأنفصال بقوة أو بالأحرى سجل في ذهن المرأة أن هذا الدور هو الأحب لها والأقرب إلى تكوينها الغريزي ، أولا لأنها تعودت عليه ، وثانيا لأن الآخر لا يريد أن يتنازل عن دوره ليحتضن تلك البضعة التي بذرها في المرأة ، بل حتى ربما لم يكن يعرف انها بضعته ، وإن كان يشعر ببعض الأهتمام والحب لها ، وثالثا لأن هناك توافق بين الغريزة والعقل لدى المرأة في أن عليها أن تحتضن هذا الذي خرج من أحشائها .
ولما وجد الرجل أن تلك الشريكة مهتمة باللهو مع هذا الذي ولد ، شعر بالراحة لأن لا أحد ينافسه على الدور القيادي في البحث والأستكشاف وغزو الخارج ، ولما وجد أن تلك الأخرى شغوفةٌ به ومعجبة بقوته التي تحقق لها وللصغير الأمان والدفء ، حصل أول أتفاق ضمني أو لنقل أول أغتصاب لكينونة المرأة بوضعها في هذا القالب وهذا المستوى من نمو الوعي وتسجيل الإنطباعات وتكوين المعارف ، ومع مرور الزمن تكونت ثقافة نسائية وأهتمامات نسائية وأخلاق نسائية وحدود للحركة والأداء واللبس و...و....و...الخ ، تكون من حصة المرأة وحدها لتأكيد تمييزها عن الرجل ، وطبعا جاءت الأديان الرجولية لتؤكد ذات الحقائق التي أتفقت جموع الرجال أو العقل الجمعي للرجال بل والنساء عليها ، وصارت المرأة عرفيا ودينيا ، وكثابت من ثوابت الثقافة الإجتماعية ، في منزلة أدنى من الرجل ، وتحت قيمومته دوما ، بل وكانت تباع في بعض الأمم وتشترى كما تباع أي بضاعة جميلة أو أي أداة جميلة للغناء أو الطبخ أو تربية الأطفال او التسرية عن الضيوف وتسليتهم .
إذن فالأفتراق له جذور سيكولوجية وغريزية ، بدأت مع تشكل وعي الأنسان الأول والأنفصال في حجم المعلومات وأهميتها التي أستُنبت في الوعي في فجر ولادة الإنسان والتي أدت إلى الأفتراق بعد هنيهة قصيرة في الوظائف ، حيث أخذ الرجل الوظائف الأخطر ورضيت المرأة بتلك التي تتوافق مع غريزتها ، ومع مرور الزمن تحول الغريزي - العقلي إلى تركيبة سيكولوجية تفصل بين سيكولوجية الرجل وسيكولوجية المرأة ، ثم إلى عادات وإنعكاسات عقلية يتم تداولها عبر الكرموسومات .
المشاهدات التي سجلتها السيدة الحويدر من بعض الصحف في أمريكا ، تمثل بالحقيقة بعض إفرازات الطبقة الأولى والقديمة جدا من الدماغ ، أي تلك التي كانت تحتضن أول معطى إنعكاسي حسي من معطيات الوعي إلا وهو هذا المعني برد الفعل الهروبي او الإقتحامي ( هذا أسد يجب الهرب منه ، هذا أرنب يمكن أصطياده وأكله ) .
بمعنى لا زلنا نتوارث مفهوم هذه أمرأة أي أم ، أخت ، حبيبة ، منافس لاينبغي أن يعرف أكثر لكي لا يتخلى عن دوره الحبيب الذي أتفقنا معه عليه يوما ما في بدء عصر تشكل مفردات الوعي الأولى .
بالمناسبة ، أما تلاحظ عزيزي القاريء أننا ولحد الآن لا زلنا نتصرف بذات منطق أجدادنا قبل ملايين السنين ، خذ هذا المشهد :
في حفل كبير وبينما كنت أنا أو أنت هناك وبكامل إناقتي أو إناقتك ، وفجأة ظهر شخص ما وأستفزني أو نكأ دملة خفية من قبيل التشكيك بالكفاءة الرجولية أو شيء من هذا القبيل ، فجأة تجدني أحل ربطة عنقي وأرغي وأزبد وربما أتناول سكينا من على الطاولة لأهجم على الآخر ...!
هذا السلوك الذي سأستهجنه أنا ذاتي ربما بعد أن أتناول قدح ليمون أو سيجارة ، من أين نبع يا ترى ، إنه من منتجات هذه الطبقة العتيقة من الدماغ التي كانت لدى جدي قبل مليون سنة ربما والتي ورثت معلوماتها عبر الشفرة الوراثية التي حملتها الجينات التي تضمنتها مادة خلقي والمتكونة من مواصفات أمي وأبي .
الحقيقة أننا قطعنا شوطا طويلا في مضمار التحضر ، وتطور علم الجينات وعلم النفس وعلم تشريح الدماغ بشكل رهيب في الخمسون عاما الأخيرة ، وأظن أن هناك مستقبل مشرق ليس للمرأة حسب بل وللرجل في مضمار السيطرة على الدماغ وإعادة برمجة العقل والسيطرة عليه ، كما وهناك آفاق واسعة لزيادة عمر الإنسان والتلاعب في عمليات الخلق وتكوين الجينات وبالتالي فكل هذا يعدنا كرجال ونساء لمستقبل أرقى في العلائق بيننا ، مضافا إلى أن مهمات الرجل في الخارج لم تعد بذات الخطورة التي يمكن للمرأة أن تمتعض من إدائها وتتحجج بوجود الطفل والحاجة لرعايته ، كما وإن أنظمة الرعاية الإجتماعية والتكافل الإجتماعي كالتي موجودة في دول أسكندنافيا أدت إلى تقارب كبير في المهمات وتقاسم المسؤوليات بين الرجل والمرأة بحيث يتعذر عليك في السويد أو النرويج أو الدنمارك أن تجد تمايزا بين المرأة إلا بحدود ضيقة ، وصارت حالات التنافس شبه نادرة ، بل تقريبا قاصرة على الأجانب من الأفارقة والآسيويين والقادمون من أمريكا اللاتينية .
أما عندنا في الشرق فمصيبتنا رهيبة موجعة ولا أظن أن من الممكن أن يصلح حالنا إلا بأقصاء الدين عن الشارع والمدرسة وتركه لمسجده حسب ، مضافا إلى تحقيق إصلاحات سياسية ديموقراطية يمكن أن تعيدنا إلى جادة الصواب وتضع عربة هذا الشرق وراء عربات الآخرين أو بين عرباتهم في الطريق السليم المفضي الى الحرية والكرامة والمشاركة الجميلة بين الرجل والمرأة على طريق الحب الحقيقي والبناء الحقيقي للأسرة والأوطان .