ترافقينى؟ طبعاً أرافقك (٢)



نادين البدير
2012 / 7 / 17


مررنا بجنيف. بحيرة خالية من الأوهام، تلوث نسبته صفر. وأشكال أنيقة للحياة والألوان. هل تظنون أن سكان البحيرة سعداء؟

بها شىء غير موجود بداخلى، شىء أشتاق إليه ولم أتعرف إليه بعد. سلام، نظام، حضارة، قانون.

يقول لى أحد أهالى جنيف إنه فى السنة الواحدة قد تمر عليهم سبعة أو ثمانية استفتاءات، لدرجة أن شق طريق ما لا تقرره البلدية إنما يصوت عليه الشعب. تصويت لا يتخلله دماء وقتل وحلقات فضائية حول صلاحية الحضارة لأهل المكان، أو عدم أهلية المجتمع بعد لتقبل النظام والقانون والديمقراطية، لينتهى أى نقاش منطقى وواقعى بالوصول إلى نتيجة مفادها تأجيل الحرية لحين إشعار آخر. لا شىء من مهازلنا العربية، لا شىء من ثرثراتنا، لا أحد يثرثر. كل يعرف واجبه وينفذه إن لم يكن بإرادته فبإرادة القانون.

تصوروا أن من يخالف يذهب لتسديد المخالفة بنفسه، والتزام مطلق بتعاليم المرور دون رقيب. تصوروا شارعاً ليس به شرطى، اسمها الحضارة.

فى البدء خُلق الإنسان فى العراء، همجياً لا يملك الوعى. مثله كالحيوان. ومشى فى الدنيا يطمح للمزيد من الرفعة عن بقية الكائنات، لكنه لم يكن متساوياً بسرعة السير، لذا بقى من بقى فى العراء ووصل من وصل لأطوار راقية من الوعى. لنطمئن أنفسنا نحن العرب فمهازلنا ليست دخيلة على الإنسانية بل إخلاص للإنسان الأول الذى يسكننا، أما الساكن بجنيف فتخلص كلياً من شوائب العراء، نسى الفوضى ونسى الهمجية وتعلم الصبر وتعلم الهدوء وتعلم احترام القانون.

أسير ورفيقى فيخبرنا أحد السكان العرب بأنه قدم إلى المدينة قبل ست وعشرين سنة، ومن ذلك الوقت لم تختلف معالم المدينة عدا تغيرات طفيفة بالطرق، أما بقية المبانى فقائمة كما هى، يُمنع الاقتراب من البناء، يُمنع المساس بالعراقة.

عكس عرائنا. نهدم التاريخ والعمران ونتمسك بالأصول من الأفكار. نتراجع فكرياً ونتقدم بنيوياً. لكنه تقدم وهمى. فينا شبق للتنافس عبر الأسمنت. أما جنيف فليس بها ناطحات سحاب، ليس هناك ما يستدعى هدم القديم ورفع الأبراج. القديم يسد.

عكس عرائنا. تهدم منازل ومبان وآثار ويكتب محلها مشروع برج شاهق أو فندق سياحى. أمام هذه المشاريع الهوائية يزيد إحساسنا بالغربة والوحدة.

الأعمار لدينا محدودة، قصيرة. نبنى منزلاً، نهتم به عامين، نهمله عشرات الأعوام، يشيخ، نتخذ قرار الإزالة فوراً، ثم نبيع مكانه شققاً بالملايين، تليها إعلانات رخيصة تقنعك بأنك لو لم تتملك بيتاً فى الدور الخمسين من الهواء فإنك لا تنتمى لروح العصر. حيلة معمارية لتغطية تخلفنا التنموى. فى عرائنا، الأعمار الإنسانية أكثر محدودية من الأبنية. أما جنيف فأكبر مكمل للأمان بها هذا الكم من الطاعنين والطاعنات بكل مكان وبمنتهى الأناقة والاطمئنان. حيث أسكن لا أرى الطاعنين كثيراً، وإن رأيتهم فليسوا بهذا الجلال والهيبة والكرامة. البلد الذى لا ترون به الطاعنين وبهذه الصورة المحترمة بلد مخيف. لا تأمنوا له كثيراً.

يدور السياح العرب حول البحيرة. يدورون، ولا يخجل أحدهم من عرائها. عراء من التلوث والفوضى والعداء وكل الأوهام..

اسمها الحضارة.