أبى.. أريد وقتاً إضافياً



نادين البدير
2012 / 8 / 14

أريد أن أعود طفلة تختبئ داخل عباءته. كانت هذه عادته، أن يرتدى عباءته ويخفينى داخلها، ثم يسير فى المنزل قبل الإفطار يسأل عنى كأنه أضاعنى. وأضحك للخدعة عالياً، لدرجة أن صوت ضحكاتى باق يرن بأذنى إلى اليوم.

أريد وقتاً إضافياً. أريد أن أعيد الكرة، أن أعود من يوم مدرسى فأخبره بدرجاتى العالية لأراه يبتسم قائلاً: «هذه الوحيدة اللى طلعتلى»، وأتنهد لحظتها بارتياح كبير كأننى أنجزت كل فروض العلم.

أريد وقتاً.. أعبر به عن أشياء لم أتمكن من التعبير عنها فى حينها. لما يعجز القدر عن منحنا أوقاتاً إضافية؟

ماذا سيحدث لو يزيد الوقت قليلاً أو يعود قليلاً؟ ما الانهيار الكونى الفظيع الذى سينجم عن ذلك؟ هل ستسقط النجوم أو تغير الشمس مسارها؟ لما نحن محرومون من استرجاع الماضى؟

كنت أعرف كل تفاصيله اليومية. لم يغمض جفنى يوماً قبل أن يرجع إلى البيت وأتأكد من نومه. جدوله لا يتغير ونظامه صارم لا يتحرك. أعرفه أكثر مما عرفته كل زوجاته بمن فيهن أمى. وهو لم يدرك ذلك أبداً.

رمضان يذكرنى به كثيراً وبجمال زمان. بالنسبة لى الذكريات التعيسة أكثر رحمة من الذكريات الجميلة. الأخيرة قاسية.

بالنسبة لى. هناك جو يستحيل أن يتكرر، أو هكذا أظن. بعد الإفطار. الشاى بالنعناع، أعداد كبيرة من العائلة، فوازير رمضان، أحاديث لا تنتهى وأمان بلا حدود. وأنا كنت صغيرة، ربما لم يشعروا بى كثيراً، لكننى كنت أشعر بهم جيداً وأرقبهم بدقة وأحفظهم جميعاً. لم أكن أهوى الجلوس مع الأطفال، كان مجلس الكبار أكثر إقناعاً، يكفى أنه كان يتصدره. وظننت لسنوات أن كل شىء سيدوم قبل أن يقسو الزمن ليقنعنى بأننى كنت أمر بوقت اسمه الطفولة. نعم. أريد مزيدا من تلك المرحلة. لا تقولوا إن مرحلة الطفولة ساذجة. فالطفل أحياناً يكون أكثر رشداً، كنت طفلة قوية متماسكة لا تشعر بالضعف.

أرادنى أن أكون أقوى النساء. لم أعرف حتى اليوم من تكون المرأة القوية فى نظره. لم يقتنع لحظة بحياة السيدة المحلية السطحية. اعتبره جرماً ألا تكمل الفتاة تعليمها، وجرما ألا تشارك فى العمل والتنمية. لذا أدين له بأكثر طموحى، إذ دون أن يشعر تركنى أحلم بلا حدود.

وحين قررت أن أبوح وأشرك العالم بوحى. كان أكثر قارئ جمع مقالاتى. كلها دون استثناء. يبحث عن اسمى بين الصحف، يجمعها فى ملفات ويضعها فى خزانة بمكتبه. ويراجعها كل حين ليتأكد من اكتمال عددها. تمضى فى الحياة متوهماً أنك على خلاف مع الوطن، ثم تكتشف أن اقترابك منه ونقدك الحازم له ما هو إلا حب عظيم ينمو بداخلك وتحاول المستحيل لتحجيمه فلا تتمكن. لم أتوصل إلى تناقض هذه المشاعر سوى حديثاً. أتظنون أن الوقت قد تأخر؟

كان لى مقعد إلى جانبه على طاولة الطعام «تذكره بابا؟» لم يجرؤ فرد من العائلة على الجلوس مكانى منذ طفولتى حتى كبرت. ولى صور كثيرة معه فى المطاعم والمقاهى وبأسفارنا كلها تظهر مقعدى إلى جانبه، أجملها وأنا فى الثالثة وهو يعلمنى كيفية الإمساك بالشوكة والسكين. ترى ما سيكون مصير كل تلك الصور؟

كتبت هذا المقال لأننى لم أعد أستطيع تحمل ذكرى اختبائى داخل عباءته. وأريد من يحملها عنى حين أبوح بها هنا. أو لعلى أرسلها له ليقرأها.