المادية التاريخية للجنس - 1



هشام آدم
2012 / 9 / 7

(الجنس .. المرأة .. الإسلام)

في البدء يبدو من البديهي القول بأن الجنس غريزة طبيعية لدى الكائن الحي وهو كأي فعل غريزي يكون الدافع في تكونه النزوع إلى البقاء عبر حفظ النوع، وهو ما تمارسه الكائنات الحية بجميع أشكالها. وإذا ألقينا نظرة متفحصة على عوالم الكائنات الحية فإننا نجد أن الجنس تسبقه عادة طقوس مغازلة وتودد تختلف من كائن إلى آخر، فبعض رقصات الطيور أو التباهي بألوان الريش أو حتى الأصوات التي تطلقها من حويصلاتها ليست سوى مغازلة من الذكر للأنثى، وكذلك شم الأجزاء التناسلية للأنثى كما عند الكـلاب والقطط أو صراع بعض الأنواع من الوعول الجبلية وتناطحها بقرونها وكذلك الصراعات الدموية التي تجري بين الفقمات أو أفراس النهر وإفراز المواد الكيميائية كما في حالة بعض الحشرات والمجهريات كلها تأتي ضمن طقوس المغازلة والاستحواذ على الأنثى وإن اختلفت أشكال هذه الطقوس وتنوعت إلا أنها في النهاية تأتي مقدمة لابد منها لعملية الجنس التي لها أهمية بالغة جدًا في حياة الكائن الحي. وبعض الكائنات الحية تتمتع بحس مشاعي في الجنس (أي أنثى لأي ذكر) كما عند الكـلاب والقطط والأسماك والنباتات، وبعضها لديه حس استحواذي عالي (عدد من الإناث لذكر واحد) كما عند الذئاب والقطط الكبيرة والسنوريات (الأسود والنمور) والدواجن أو (أنثى واحدة لعدد من الذكور) كما في حالة النمل والنحل والدبابير، وبعضها الآخر يتسم بالثنائية الجنسية (أنثى واحدة لذكر واحد) كما هو الحال لدى بعض الأنواع من الطيور والدببة، وهي طبيعة الكائن الحي الذي يتسم بالاختلاف والتمايز وليس التفضيل، فليس هنالك سبب واحد يجعلنا نقول: "حياة النمل الجنسية أفضل من الحياة الجنسية للدببة" (إلا من وجهة نظر الدببة أو النمل طبعًا) ولكن الإنسان لديه نزعة لقولبة السلوك وفق معياره الخاص، فنجده يستهجن ممارسة بعض الحيوانات للجنس في الطريق أمام الجميع كما تفعل الكـلاب مثلًا ويستحسن ما تفعله القطط من نظافة بعد الانتهاء من التغوط وكلا السلوكين يعتبران طبيعيين لدى هذين الكائنين، فهما لا يفعلان ما يفعلانه بدافع أخلاقي أو بقصد كسر القيم الأخلاقية، لأن الأخلاق صناعة بشرية صرفة، وبالتالي لا يصبحان مسؤولين عن تقييم البشر لسلوكهما.

الكائن الحي عبر، ملايين السنين، وتحت وطأة قانون الانتخاب الطبيعي الذي يسري على جميع الكائنات الحية دون استثناء اختار الوسيلة الفضلى له سواء في اختيار نمط حياته الجنسية أو طريقة ممارستها بما يتماشى مع نمط حياته وغذائه ومتوسط عمره ومعدل إنجابه ووو إلخ، (مثال: الجنس لدى بعض الضفادع يكون بامتطاء الذكر ظهر الأنثى والانتظار مطولًا حتى تقذف الأنثى بيوضها في الماء فيسرع الذكر بإفراز سائله المنوي ليلقحها، والجنس لدى بعض الكائنات المجهرية يكون بانقسام الكائن على نفسه!) والإنسان ككائن حي لا يخرج عن هذا القانون قيد أنملة، فالانتخاب الطبيعي هو الذي شكل وعينا الجنسي والتناسلي على مدار ملايين السنين وساهم في تغيير شكل العائلة عبر التاريخ البشري بناءً على ذلك.

وفي الغالب الأعم في عوالم الكائنات الحية يكون الذكر هو المبادر بالإغواء والإغراء وليست الأنثى التي ينحصر دورها في المراقبة إما لاختيار الأفضل/الأجمل أو قبول الأقوى، وهكذا كان البشر في بداية التاريخ البشري فالأنثى البشرية لم يكن لها دور إغوائي أو إغرائي يذكر، فقط كانت تنتظر لاختيار الأفضل أو الأقوى، رغم أن الحياة الجنسية للبشر في بدايتها كانت تتسم بالمشاعية (كل أنثى لكل ذكر والعكس صحيح) ولكن ظلت الأنثى لحقبة طويلة متمتعة بإرادة الاختيار وليس القبول ولهذا فإن الأطفال الذين ينتجون عن عمليات الجنس هذه كانوا ينتسبون مباشرة لأمهاتهم عبر ما كان يعرف بقانون الأم (Mother’s Law) ولم يكن مطالبًا من الأنثى الاحتفاظ برجل واحد طيلة حياتها بينما كانت مطالبة برعاية الأطفال والاعتناء بهم حتى سن يتمكنون فيه من الاعتناء بأنفسهم والاعتماد عليها بشكل مستقل وكامل تمامًا كما هو الحال عند بعض الأنواع. في ذلك الوقت لم يكن مفهوم العائلة قد ظهر بعد فكان كل الأفراد أبناءً للقبيلة، وإنما كان ذلك مع ظهور ما يسمى بالمجموعات الطوطمية. والطوطم هو كائن تدين المجموعة له بالولاء والاعتقاد فتوزع البشر في مجموعات طوطمية كبيرة: مجموعة النسر، مجموعة الأسد، مجموعة الأفعى ووو إلخ. فظهر أول شكل من أشكال العائلة في ذلك الوقت.

ظلت البشرية تطور من وعيها الجنسي والتناسلي مع استمرار ضغط قانون الانتخاب وتغير أنماط الإنتاج وشكل الاقتصاد في المجتمعات البشرية حتى ظهور أول بوادر الملكية الفردية مع اكتشاف الزراعة والتي بدورها أحدثت ثورة كبيرة في مفهوم الإنتاج ونمطه، فأصبح عدد من الأفراد في المجتمع ممتلكين لوسيلة الإنتاج وبالتالي أصبح البقية في حاجة إلى هذه المجموعة من الأفراد. وكانت التبادلية هي الوسيلة الوحيدة المعروفة آنذاك فالذي يزرع البصل يبادله بالبطاطا التي يزرعها شخص آخر الأمر الذي عزز مفهوم الملكية الفردية، بعد أن كان كل شيء ملك الجميع. فمن يصطاد غزالًا مثلًا لا يمكنه أن يقول إن الغزال له وحده، بل كان الجميع يشاركه في أكل هذا الغزال، بينما لم يكن من الممكن تطبيق هذه المشاعية على نطاق واسع في الزراعة.

تغير نمط الإنتاج هذا (والذي ساعد بدوره على تكون نزعة الملكية الفردية) بدأ يأخذ طابعه الشرس مع مرور الزمن وظهور الآفات الزراعية والكوارث الطبيعية التي كانت تقضي على بعض المحاصيل وتتسبب في إيقاف عجلة التبادلية، فأصبح زارع البطاطا لا يجد بطاطا ليبادل بها البصل الذي بحاجة إليه، في الوقت الذي أخذت فيه زراعة البصل بالنمو المضطرد والتوسع، فأصبح لا مناص أمام زارع البطاطا من العمل لدى مزرعة زارع البصل للحصول على البصل الذي يريده مقابل عمله، ويصبح الأمر أكثر سوءًا إذا استطاع زارع البصل من زراعة البطاطا أيضًا بحيث تنتفي حاجته إلى الآخر في حين تستمر حاجة الآخر له. بهذا تغير شكل المجتمع من مساواة كاملة إلى تفاضلية بسيطة، من أشخاص لا يملكون شيء أو يتشاركون كل شيء إلى أفراد يمتلكون وأفراد بحاجة إلى ما يمتلكه الآخرون، وبمعنى آخر من المشاعية إلى الإقطاعية البسيطة أو الكلاسيكية. ولكن ما علاقة هذا الأمر بالجنس؟

لقد أسهم ظهور الإقطاعية البسيطة في تغيير وعي البشر التناسلي والجنسي، فلم يكن بإمكان زارع البصل أن يسمح للمرأة التي تحبل منه طفلًا أن تنسبه إليها؛ لاسيما إن كانت من مجموعة طوطمية أخرى ليس فقط لأنه كان بحاجة إلى الأبناء في مساعدته على إدارة زراعته وأملاكه فحسب، وإنما لرغبته في الاحتفاظ بوسيلة إنتاجه عبر توريثه للأبناء الذين من صلبه، وبهذا أصبح من الضروري ضمان أن يكون الأبناء فعلًا من صلب هؤلاء الرجال، وأصبح بالتالي من غير الممكن القبول بالتعددية الجنسية للمرأة بينما ظل بإمكان الرجل أن يتعدد وبهذا أصبحت المرأة جزءًا من أملاك الرجل لأنها في حد ذاتها منتجة للأيدي العاملة والورثة الذين بإمكانهم المحافظة على وسيلة الإنتاج واستمراريتها. فنزعة الملكية الفردية الناتجة عن اكتشاف الزراعة أول الأمر كانت هي الدافع وراء إحداث تغيير جذري في بنية الوعي التناسلي والجنسي لدى المجتمعات البشرية الأولى وكان ذلك بمثابة أول ظهور لشكل العائلة (زوج + زوجات + أبناء) فأصبحت الأنثى موضوعًا للجنس بعد أن كان الرجل هو موضوع الجنس الأول، فكان عليه أن يختار المرأة من العائلة القوية والمقاتلة حتى يضمن الحصول على أبناء أقوياء ومقاتلين، ولم يعد بإمكان المرأة الاختيار والتعدد؛ لاسيما بعد ظهور عادة الزواج وهي ببساطة ما يعطي الغطاء العرفي لملكية المرأة وأبنائها للرجل الذي يختارها.

كان ذلك، في المقابل، انتقالًا بالمجتمعات البشرية من طابع الأمومية التي تسود فيها المرأة، إلى طابع البطرياكية الذي يسود فيه الرجل. وظلت صلاحيات المرأة تقل وتتقلص شيئًا فشيئًا مع ازدياد سلطة الذكور وسنهم للقوانين التي يهدفون منها في المقام الأولى إلى تنظيم المجتمع بما يحفظ عليهم مصالحهم الاقتصادية، وبما يدعم سيادتهم المطلقة على المرأة. وبدأت هذه السيطرة في مظهر عنيف منذ بدايته لمحاربة ظاهرة حرية المرأة في جسدها ومشاعية المجتمع اللتان لم تختفيا بين يوم وليلة، لذا فإن تلك السلطوية أخذت طابعًا شرسًا وعنيفًا في محاولة لإحلال فكرة حرية الرجل في جسده محل حرية المرأة في جسدها، لأن حرية المرأة في جسدها كان يعني بالضرورة اختلاط الأنساب وبالتالي عدم معرفة آباء الأطفال الذين سوف ينتجون من عمليات الجنس المتعددة هذه. ويبدو أن هذا الانتقال الجذري من الأمومية إلى البطرياكية لم يكن انتقالًا سليمًا ليس فقط من ناحية الرجل كما سلف، ولكن أيضًا من ناحية المرأة كذلك، فأسطورة النساء الأمزونيات المقاتلات يعطي لنا تصورًا عن صراع دموي نشب بين المرأة والرجل في تلك الحقبة؛ إذ تقول الأسطورة إن مجموعة من النساء قررن الثورة على الظلم الذكوري بخروجهن من القبيلة وإقامة قبيلة نسائية وتدربهن عن فنون القتال وغزوهن المتكرر لقبائل الرجال ومعاشرة الرجال بالقوة بغرض الحمل والإنجاب، وكن يقتلن أي طفل ذكر يولد لهن بينما يبقين على الأطفال الإناث، وتقول الأسطورة إن إحدى النساء حملت بمولودها فخرج ذكرًا ولكن عاطفة الأمومة طغت عليها فأشفقت من قتله وأخفت عن الباقيات حقيقة المولود الذي وضعته، وظلت ترعاه سرًا وبعيدًا عن أعين الأخريات حتى كبر وشب وأصبح قويًا وهو الذي قضى على قبيلة النساء المحاربات هذه فيما بعد.

هكذا فإننا نرى أن هذا الانتقال لم يكن سلميًا ويبدو من المنطقي أن يحدث الظلم والقهر الاجتماعي ثورة دموية يتمرد فيها الأفراد المقهورون، وسواء صحت هذه الأسطورة أم لم تصح فإن ما يهمنا في مقالنا هذا هو لفت الانتباه إلى فكرة نشوء مفهوم العائلة بشكله الأبوي المعروف والحيثيات التي ساهمت في نشوء هذا المفهوم وتدعيمه والتكريس له. ولقد ظلت مثل هذه الأسطورة سببًا في خلق هوة عميقة بين الرجل والمرأة متمثلة في عدد من الأمثلة التي من شأنها جعل عالم النساء والرجال عالمين منفصلين تمامًا وكل منهما يرى أن العالم الآخر عالم سيء ومليء بالشرور، ولا يمكننا هنا الفصل بين ما فعله الرجال إزاء ذلك وما فعلته النساء بالمقابل، وربما كان ذلك مؤشرًا على صحة تلك الأسطورة.

مع مرور الزمن أصبحت العائلة تعرف القيمة المادية لأفرادها من الإناث، فالرجل الذي يأتي طالبًا الزواج من إحدى إناث العائلة فإنه بالضرورة يرغب في حماية مصالحه وأملاكه وبالتالي فإنه كان لابد أن يدفع مقابل هذا الأمر من إنتاجه الخاص الذي يحتكره، كأن يدفع عشر سلال من البصل (كما في مثالنا هذا) فأصبحت المرأة ذات قيمة مادية تعود على عائلتها بالمال، فأصبح الظاهر في تلك المجتمعات الاهتمام بالمرأة ولكن ليس من واقع إنسانيتها بل من واقع إنها مصدر رزق مؤكد ولا غنى عنه للعائلة، ولقد ظلت هذه النظرة البراجماتية للمرأة مستشرية حتى عهد قريب جدًا إذ ينظر الأب لبناته على أنهن دفاتر توفير يمكن الاستفادة منها في أي وقت، ومن هنا ظهرت عادة تزويج الفتيات الصغيرات بمجرد أن تظهر بوادر أنوثتها وبلوغها وتكون (في نظر المجتمع) قادرة على الزواج والإنجاب، ومن المؤسف أن هذه النظرة موجودة حتى يومنا هذا في بعض الدول كالسودان والسعودية ومصر وبعض الدول العربية والإسلامية. وكأي بضاعة يجب أن تعرض بشكل جيد لتغري الزبائن فإن فكرة الإغراء والإغواء في تلك الحقبة انتقلت من الرجال إلى النساء بتغيّر المصلحة عبر تغير نمط الإنتاج ووسيلته، فظهرت عندها أول بوادر التبرج والتجمّل وعادات الوشم ولبس الحلي البدائية التي ظلت حقبًا طويلة حكرًا على الرجال، وهذا لا يعني أن الرجال توقفوا عن التبرج والتزيّن ولكن تغيرت فكرة التبرج لديهم من مجرد مظهر من مظاهر الإغراء والإغواء وإظهار القوة إلى مظهر من مظاهر الثراء والمكانة الاجتماعية وإظهار الفحولة، وبقدر ما يرتدي الرجل من حلي وريش وأصباغ فإن ذلك يعبر مباشرة عن وضعه الاقتصادي ومكانته في القبيلة. ولاشك أن فكرة الملكية الفردية واستشرائها وسيطرتها على المجتمات البشرية ساعدت بشكل مباشر في ظهور عادات كثيرة بدأت مرتبطة بهذه الفكرة ثم أخذت تتخفى وراء منظومة الأعراف والتقاليد دون أن يعرف أحد منابعها الأساسية، كفكرة ختان الإناث مثلًا، إذ أن الرجل صاحب وسيلة الإنتاج الذي يتزوج من امرأة للحصول على وريث أو مجموعة ورثة فإنه كان يشترط أن يتزوج من فتاة عذراء ليس لأي سبب أخلاقي ولكن لضمان ألا يكون له منافسين في الورثة مع أبنائه الذين من صلبه، فكانت العذرية مظهرًا من مظاهر الضمان الاقتصادي يضمن بها الرجل ألا تنتقل أملاكه إلى ورثة من غير صلبه. ولو بزغت في أي مجتمع نظرة ذكورية متشائمة من ختان الإناث كأن تصبح الأنثى المختونة غير مرغوب بها من الرجال فإن هذه الظاهرة سوف تختفي في زمن وجيز جدًا، لأن ظاهرة ختان الإناث كما أسلفنا ظهرت بدافع إظهار العذرية للرجل الذي يرغب في الحصول على فتيات عذراوات.

في هذا الصدد لا ننسى نشوء فكرة الدين وتطوره مع تطور وعي البشر وتغير نمط إنتاجهم كأي ظاهرة من الظواهر الثقافية الأخرى المصاحبة لتطور المجتمعات البشرية، ولقد ساعدت هيمنة فكرة الإله (الآلهات) وتدخلها المباشر في مظاهر الحياة الاقتصادية (إنجاح/إفساد المواسم الزراعية، إخصاب/عدم إخصاب الأرض) فبدأ الاعتقاد بضرورة إرضاء هذا الإله للمحافظة على استقرار الوضع الاقتصادي الذي يساعد استقراره في استقرار الحياة الاجتماعية بكافة تمظهراتها، وعندما بدأ المجتمع في الانتقال من العهد الأمومي إلى العهد البطرياركي فإن فكرة الآلهة الأنثى تغيرت في المقابل إلى الآلهة الذكر وبدأ استخدام فكرة الإله لشرعنة القوانين التي لم تظهر في الأصل إلا لضمان مصلحة طبقة أو فئة معينة من المجتمع، ولهذا فإن طبقة رجال الدين ورجال السلطة أو المال كانت على وفاق وارتباط دائم على مر التاريخ، لأن كل طبقة تمنح الأخرى شروط بقائها واستمرارها وتوفر لها السبيل لذلك. وهكذا فإنه لم يكن بمقدور المرأة أن تثور على قانون الرجل (الدين) وإلا اعتبرت متمردة على قانون الإله، لذا فإن المرأة التي تملك بذرة هذا التمرد كان يعتقد أن الإله يعاقبها بسلب الخصوبة منها، ولذا ارتبطت فكرة العقم منذ الأزل بالمرأة ولم ترتبط بالرجل إلا بعد عصور العلم المتأخرة جدًا بالنسبة لتاريخ البشرية. مع مرور ملايين السنين أصبح الأمر طبيعيًا وبديهيًا أن تصبح المرأة مستشعرة بتبعيتها للرجل وارتباط هذه العلاقة بمرضاة الإله (لأنك حين تعتاد العتمة يزعجك الضوء) وبدأ رجال الدين بتضمين كافة القوانين التي تضمن مصالحهم المباشرة ومصالح طبقة رجال الأعمال والأثرياء وملاك الإنتاج ووسائله ضمن قوانين الدين وكأنها جاءت من الإله مباشرة مستفيدين من اعتقاد الغالبية بأنهم على علاقة بالقوى السماوية والغيبية والروحية، ونشأت فكرة أن الدين جاءت لتنظيم الحياة الاجتماعية للبشر، والحقيقة فكرة الدين تمثلت ببساطة في تنظيم حياة فئة معينة من الناس بما يضمن لهم استمرار مصالحهم، فكان استقرار هذه الطبقة بطريقة أو بأخرى يعني في المقابل استقرار المجتمع وأمنه؛ ولذا فإن فكرة ختان الإناث (التي رأينا منابعها الحقيقية) تم تغليفها بغلاف ديني والاحتفاء بها في شكل طقوس دينية. مع مرور الزمن أصبحت فكرة العذرية مرتبطة بمفهوم العفة الذي جاء به رجال الدين لتثبت الفكرة بشكل أكثر حزمًا وضراوة، ومن هذا فإن بعض الشعوب كانت تقدم الفتيات العذراوات قربانًا للإله، لأن العذرية ارتبطت كما قلنا بالعفة، ولا يمكن أن تقدم للإله قربانًا نجسًا أو مدنسًا، كما يحدث في بعض شعوب أفريقيا وسكان أستراليا الأصليين ومن قبلهم ما كان يحدث في مصر القديمة الذين اعتادوا على تقديم فتاة عذراء للنيل.

بناءً على ذلك كان لابد من تحريم الجنس خارج إطار مشروع الزواج الذي عرفنا فيما مضى من أين جاء وكيف نشأ، وبدا من الصعب للكثيرين تصور فكرة استمرارية المجتمع دون هذه الوسيلة، واعتقدوا بأن فكرة الزواج هي فكرة إلهية نشأت مع نشوء البشرية الأولى وكان الغرض منها تنظيم الحياة الاجتماعية والأخلاقية للمجتمع، فرأينا كيف صورت لنا الميثيولوجيا الدينية شكل الأسرة في المجتمع البدائي (زوج "آدم" + زوجة "حواء" + أبناء) ولأنه لم يكن هنالك بشر غير هذه العائلة فكان لابد أن يتزوج الأخ من أخته وهو تصور سطحي للغاية وقافز على التاريخ كان الغرض منه تكريس فكرة الزواج كمشروع إلهي (فطري) لا بديل عنه لضمان استمرارية الحياة البشرية. وبمساعدة آلة الإعلام لطبقة رجال الدين كان من الممكن تثبيت هذه الفكرة عبر ربطها دائمًا بمجموعة من القيم الدخيلة على المجتمع البشري والتي لم تأت أصلًا إلا كشرط من شروط تغير نمط الإنتاج لهذا المجتمع أو ذاك. فبدأت الفكرة الواضحة والبديهية لديهم إن الحصول على الجنس لا يكون إلا عن طريق الزواج، لأن هذه الفكرة بالتحديد هي ما أرادها الرجل من طبقة الملاك وساعده في ذلك الرجل من طبقة رجال الدين، وكذلك الأمر بالنسبة إلى فكرة التعدد أيضًا. فأصبح من غير الممكن التصديق بأن تتعدد المرأة في الوقت الذي يعتبر فيه التعدد للرجل أمرًا طبيعيًا ومشروعًا، والأدهى من ذلك إن هذا الأمر تم تغليفه بغلاف ديني وأخلاقي فأصبحت فكرة التعدد للمرأة وفكرة ممارسة الجنس خارج مشروع الزواج الذكوري ذو الخلفية الاقتصادية البحتة فكرة غير أخلاقية. وعندما يشعر الإنسان بنفسه محاصرًا بعدد لا يحصى ولا يعد من القوانين المجتمعية والدينية والأخلاقية التي ظلت تتكرس على مدى ملايين السنين فإنه يصعب التصديق بغير هذه الفكرة إلا بشق الأنفس، فتحول الجنس من مجرد طاقة "غريزية" طبيعية يجب الاستفادة منها وبذلها للحيولة دون اعتلال النفس وتشوه الوعي التناسلي والجنسي، إلى مادة محرمة (Taboo) لا يمكن تفهمها إلا عبر مؤسسة الزواج الذكورية الدينية، الفضل في هذا التصور يعود طبعًا إلى الديانة اليهودية التي تعاملت مع الجنس بمنتهى القسوة وكانت تعاقب الخارجين على هذا القانون (قانون الزواج) بأبشع الصور، وركزوا في ذلك على معاقبة المرأة برجمها بالحجارة حتى الموت، ثم انتقلت هذه التعاليم بالعدوى إلى الديانات الأخرى: المسيحية الكلاسيكية ثم الإسلام الذي لم يمتلك الجرأة على إشاعة هذه العقوبة البشعة والدخيلة على المجتمع العربي عبر وضع شروط تعجيزية غير قابلة للتحقق لتطبيق هذه العقوبة، إلا بالاعتراف، وحتى عندما قدمت المرأة الغامدية اعترافها على نفسها حاول محمد (نبي الإسلام) جاهدًا التغاضي عن تطبيق العقوبة باختلاق بعض الأعذار بعد أن أعرض عنها مرارًا دون جدوى. فالمجتمع العربي كان له طريقته الخاصة في التعامل مع المرأة، وهو شكل من أشكال الاحترام الذي يمكن أن أسميه بالاحترام المحتقر، فالمرأة مكرمة ومصانة في المجتمع العربي ليس لأنها إنسانة وذات كيان مستقل، ولكن لأنها ضعيفة وعاطفية ويمكن التأثير عليها بسهولة وهي ذات النظرة التي حافظ عليها الإسلام فيما بعد. ورغم التشابهه الكبير بين الإسلام والديانتين اليهودية والمسيحية من حيث التعاليم إلا أنه تعاطى مع مفهوم الجنس بفهم أكثر براجماتية عبر تشريع التعدد وملك اليمين؛ الذي أتاح للرجل أن يتزوج بأربع زوجات ويتمتع بعدد غير محدد من النساء تحت مظلة الدين، دون أن يسمح للمرأة بالأمر ذاته (عدد من النساء لرجل واحد) والآن بعد قرون من تطبيق وممارسة هذا الفعل البراجماتي انتقل إلى بديهية من البديهيات التي لا يتقبل المسلم النقاش حولها. (لأنك حين تعتاد العتمة يزعجك الضوء).