ما تعلمت من القطة



مفيد بدر عبدالله
2012 / 11 / 1


كان ولازال في حديقة منزلي حوض واسع أملئه بالماء وأضع فيه أسماك الزينة الرائعة الجمال والتي اعشقها وأتعاطف معها كثيرا لسحرها الخلاب ، بجانب ذلك الحوض تسكن هرة وديعة تتلقف ما أرميه من أسماك نافقة لتأكلها ولم أرها يوما تصطاد من حوضي وكأنها تعقد معي صفقة ، أحببتها رغم أن سعادتها في تعاستي والتي تكمن بنفوق أسماكي الباهظة الثمن ، بقينا على هذا الحال لأشهر طويلة ، لكنها خرقت العهد الذي بيننا فبعدما أنجبت صغيرين غاية بالجمال في الشتاء الماضي ازدادت حاجتها للطعام مما دفعها لان تتخطى الخطوط الحمراء ، لمحتها ذات مرة تقف على حافة الحوض مع صغيريها وتتلقف بمخالبها أحدى أسماكي الغالية ومن ثم تطعم صغيريها ، اثأر سلوكها الأهوج غضبي وازدرائي وقررت على الفور أن انقلها مع صغيريها لمكان بعيد ومن ثم اتركها وأعود ولن يثن عزيمتي موائها ولا لعبها من حولي ( قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق) وهي من بدأت . في ليلتها الأخيرة في بيتي كان البرق والرعد على موعد مسبق مع المطر ، وبينما أنا في فراشي يلفني سكون الليل فلا يخترقه غير أصوات خرير (المرازيب) وأصوات الرعد المدوية بين الحين والآخر ، وإذا بالقطة تقترب من شباك غرفتي وتطلق صوت ما عهدته منها من قبل ، صوت اقرب للنحيب منه للمواء ، فلم اكترث لها فما زال في داخلي غيضا من فعلتها الشنيعة و كل ما تبادر لي أنها تستغيث من البرد والمطر ، ظلت تذهب وتعود والنبرة تزداد حدتا وشجا فهممت بالخروج لأتحرى الأمر ولكن كسلي وخمولي حالا دون ذلك ، لففت راسي بكوفيه حتى لا يخترق صوتها أذاني . استيقظت فجرا كعادتي لصلاة الفجر ، وقبل أن أتوضأ نظرت من نافذة تطل على حديقة منزلي وإذا بي المح القطة تحمل أحد صغارها وتهرب به مسرعة لخارج المنزل ، لم أجد تفسيرا لما يحصل ، عدت لمنامي بعدما صليت
. ما شاهدت لدى خروجي في الصباح من منظر اقشعر له جسدي ولم استطع تمالك نفسي فأجهشت بالبكاء ، وجدت احد صغارها غارقا في حوض الأسماك فأدركت حينها بان صيحاتها طوال الليل كانت استغاثة لمن لا يلبي النداء واسود قلبه لخسارة بعض الدنانير أمام جوع قطة مسكينة دفعها جوع أبنائها الصغار لأخذ سمكه أو سمكتين من الحوض ، ولم يدفعها جوعها من قبل ولم تفعل هذه الفعلة قبل أن تنجب فلذات أكبادها الذي تسبب كسلي وغضاضة قلبي سببا لان يكون احدهما إمامي الآن جثة هامدة ، اختنق أمام عيني أمه غرقا ولم تنفعها صرخات الاستغاثة الممزوجة بالنحيب والتوسل ، صرخات شبيهة بصرخات العراقيات وهن يتلقن فلذات أكبادهن محمولة بنعوش حروبنا الكثيرة ، رغم أن القطة أفضل حالا منهن لاستطاعتها الهروب بالثاني عن مصدر الخطر والموت ، ولكن أمهاتنا كان خيارهن الوحيد الاستسلام للقدر المحتوم . لو عشت ما عشت من الدهر لن تمح من ذاكرتي المشاهد المروعة التي شاهدتها وانأ طفل بصحبة أمي في البيوت المظلمة التي أطفئت الحروب نورها وفرحتها بيوت أصبحت بلا حياة ، ومنظر الأمهات تلطم الوجوه وتمرغها بالتراب الم وحسرة على الابناء الملفوفة بالاكفان ، والصورة الأخرى للام في المقابر وهي تناغي الثرى بعبارات تسقط دمعت سامعيها قبل دمعتها ( دللول يلولد يبني دللول ) وتحاكيه وكأنه بأحضانها وتتذكر معه الذكريات التي تبدأ منذ أن تحرك الحركة الأولى في أحشائها مرورا بيوم الولادة فالصبا والشباب فيكبر ويكبر معه الأمل ليكون الغاية والحلم ، متى يدرك الكبار وتجار الحروب عظمة مصائب الأمهات ، أم أن كل ما يعنيهم دخولهم التاريخ من أي باب يشاءوا ويصعدوا ويعتلوا الأمجاد على أكوام من جثث وهياكل الأبرياء . متى يدرك المتعسفون في ظلم الأمهات عظمتها وقدرها ، ليكف البعض ما يفعل في أروقة المحاكم من إخضاع الأطفال للمساومات مستغلين عاطفة الأمومة الجارفة والتي لا تقف عند حدود والتي تقيس الأمور بمقاييس لا يدركها بعض الرجال ، لأنها ترى النصر كل النصر بقربها واحتضانها لأبنائها , كنت أتمنى أن يكون هؤلاء معي في تلك الليلة ليسمعوا نحيب القطة على صغيرها ليعرفوا أي عاطفة تحمل هذه القطة التي تنتمي لفصيلة وحشية ( فصيلة النمور) فكيف بالنساء وهن من خير خلق الله سبحانه وتعالى .