أمي



جهاد علاونه
2012 / 12 / 12

لن أقول كغاندي: بأن أمي أرضعتني عاما أو عامين وبأن البقرة ترضعني العمر كله, فأمي ما زالت حتى اليوم ترضعني الصدق والأمانة والمحبة والنور والضياء والأخلاق الكريمة والسخرية من الأيام ...أين أذهبُ هذا المساء؟ وأي امرأة تستطيع أن تحتملني أنا وجراحي وكل ما عندي من وجع إلا أمي؟ وفي أي محرقةٍ أحرقُ فيها أوراقي؟ أمي بركانٍ كبير تذوبُ فيه كل أوجاعي ومن عيونها أستمد النور الذي يضيء لي الطريق، لقد جمعت كل ما كتبته من مقالاتٍ ورسائل شوقٍ وما زلتُ أفكرُ بالذي أفعله فيهما؟ من سيستضيفني هذا المساء؟ وعلى أي شماعة أو على أي علاقة ملابس أعلق أخطائي وعلى يد من سأنام هذا المساء الذي كلما اقتربتُ منه واقترب مني أشعرُ بحزنٍ عميق؟ ذهبت أمي في رحلة استشفاء إلى المستشفى ولم تعد حتى الآن إلى البيت رغم أنها قالت بأنها لن تتأخر وستعود قبل حلول الظلام,آهٍ منك يا أمي,أعرف بأنك تدركين بأنني ما زلتُ طفلا أخافُ من الظلام الدامس وأشعرُ بأن البيت بدونك ليس فيه أي نور أو أي ضوء خافت,الظلامُ عم أرجاء المنزل وحتى الآن لم تعد أمي إلى البيت,لقد أدمنت على سماع صوتها وهي تتألم من هشاشة العظام ...وعلى صدر من أرمي نفسي إذا قررتُ أمي مغادرتنا إلى أبد الآبدين؟ لقد كبرت أمي وشاخت ولم يعد بوسعها إرضاعي أو تفقّد وسادة رأسي...أمي هدها المرض والحزنُ والألم ورغم ذلك تحاول أرضاعي مع أنها غير قادرة على ذلك،صحيح أنني تركت الرضاعة من صدرها ولكن من يعتقد بأن الأم لا تُرضع إلا من صدرها فإنه مخطئ جدا...أمي الآن مستلقية في فراشها ومستسلمة للأمراض الكثيرة وأنا أشعر بأنني مثلها مريض لأنها ستتوقف اليوم أو الغد عن مدي بالمغذيات الطبيعية,إنها ما زالت ترضعني من يديها الحنونتين، إن أمي اليوم امرأة ساخنة وترتجف جدا ولا تقدر أن تصل المرحاض إلا بشق الأنفس...تصحو من الفجر هي وزوجتي وتصلي وتدعو لي وتسأل الله الهداية لي والرزق معا..آهٍ.. لقد شاخت أمي وأصبحت جدة بعد طول العمر وحين أسمعها تتألم لا أملك أن أقول لها إلا كلمتين:خذي الدواء, فتبكي المسكينة وهي تقول أخذته وما زلتُ أتألم جدا فتنزل من عيوني دمعة عليها ثم إذا رأتني أبكي تتظاهر أمامي بأنها امرأة حديدية لكي تزيد من قوة احتمالي،إنها ترضعني القوة أيضا من خلال إيحاءات وجهها وملامحها الملائكية وما زالت بكل قواها وعنفوانها فتتألم بصمت دون أن تسمعني صوت أنينها...آهٍ ماذا أفعلُ يا أمي؟ حتى لو كنتُ طبيبا فليس بوسعي أن أقدم لك إلا بعض الوجبات الطبية الصغيرة والكبيرة وكمية لا بأس فيها من أدوية الأعصاب والدسك والقرحة وآلام المعدة والأنسولين وأدوية الضغط وأدوية تميع الدم و...و...إلى ما لا نهاية من الحبوب الصغيرة والكبيرة والصفراء والحمراء والبيضاء والبرتقالية اللون.. أمي تأسفت هذا اليوم كثيرا لأنها لم تعد قادرة على إرضاعي من صدرها وتدعي بأنني كبرت جدا فليس من المعقول أن أبقى أطلبُ منها أن ترضعني وهي بعمر ال66 سنة وأنا بعمر ال14 سنة,قالت هذا عندما قال طبيب قسم الجراحة الباطنية بأن أمك ستتشرف بزيارتنا لمدة أسبوع على الأقل ولن نفرج عنها إلا بعد الاطمئنان على صحتها,فقلت وعلامات الدهشة تملئ وجهي:ماذا...أسبوع؟,فردت أمي وقالت: من شو زعلان؟ أي هو أنا بدي أرضعك؟ فقلت: لا ولكن(فقاطعتني): روح روح على مرتك وولادك إنت إكبرت وصرت كبير على الرضاعة ولا تكترث لكلام الطبيب لأنني سأعود غدا قبل حلول الظلام,وكل يوم تسمعني هذا الكلام ومضى على مكوثها بالمستشفى عدة أيام وأنا بصراحة غير معتاد على غيابها فحين رجعتُ إلى البيت جلست مكان جلوسها متألما وحزينا على فراقها وأستذكر كل ما فعلته من أجلي وأجل إخواني وأخواتي طيلة 45 عاما,تذكرت سهرها لكي ننام,وتذكرت حملها لي بيديها حين كنت أنام في غرفة جدتي فقد كانت تنقلني وتحملني بين يديها دون أن تضطر لإيقاضي من النوم حرصا على راحتي علما أنني في أغلب الأحيان أكون صاحيا ولستُ نائما كليا...تذكرت يوم احترق قلبها عليّ وأرادت أن ترمي نفسها في البئر حين وصلها خبر سيارة صغيرة صدمتني,أهٍ ما أعظمك وما أقواك وما أحلاك وما أجملك يا أجمل وجه رأيته في حياتي...إنها فعلا مشكلة كبيرة أن أعود إلى البيت بدون أمي ففي اليوم التالي نمتُ على البلاط في إحدى ممرات المستشفى حتى طلع الفجر فذهبتُ إليها وقلت لها: أنا من أول ما إصحيت من النوم أجيت على طول ولكن أولادي فضحوا سري حين قالوا لها بأنني لم أعد للبيت ليلة الأمس، أنا لست رجلا ناضجا إلى هذا الحد أو إلى هذه الدرجة فما زالت تصرفاتي طفولية بعض الشيء وما زالت كلما اقتربتُ من أمي أتصرف أمامها كما كنتُ أتصرف وأنا طفل صغير ولكن حين أمر من أمام زوجتي أتظاهر أمامها بأنني رجل كبير وأتحمل المسئولية...لم يعد باستطاعة أمي أن تمسك بالملعقة لتطعمني لأنني قد كبرت وأصبح بمقدوري أن أطعم نفسي رغم أن هذا الكلام ليس صحيحا وعاريا تمام الصحة عن الحقيقة فأنا ما زلت أطلب منها أن تضع لقمة الخبز في فمي وما زلت كلما وضعتُ رأسي على الوسادة أن تأتي لي من الغرفة المجاورة إلى غرفتي لكي تضع عليّ الغطاء...أحن إليها وهي لا تبعد عني سوى عدة أمتار..أتعبتني جدا من كثرة الأمراض التي تعاني منها وهي بحاجة لي لكي أقودها إلى باب الحمام أو إلى باب دار خالي التي لا تبعد عن بيتنا إلا عدة أمتار ومع هذا كلما قُدتها لتتكئ على كتفي كلما مِلتُ عليها بثقل جسمي واتكأت أنا عليها...إنني رجل مخدوع بنفسي وما زلت بحاجة إلى كتف أمي, أنا إنسان ولدتني امرأة وأرضعتني امرأة وربتني امرأة وعلمتني في البيت امرأة وتزوجت من امرأة ومسحت دموعي امرأة وأحبتني امرأة ووهبتني الحياة امرأة ورغم كل هذا يتهمني الناس بأنني منحاز إلى مجتمع النسوة ويصرون على أن المرأة نصف الرجل.


http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=198561


http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=232836


http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=238495

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=226360