( قصة قصيرة بمناسبة يوم المرأة العالمي بعنوان: ( قبض الريح



محمد أيوب
2005 / 3 / 16

ملاحظة قبل البداية : " الحياة عنكبوت ضخم يحيطنا بخيوطه التي ينسجها حولنا ، يدخلنا إلى بيته دون وعي منا ، لنخرج منه ضد رغبتنا " م . أ
الإهداء : " إلى أول من قرأ هذه القصة قبل أن ترى النور ، إلى تلك التي ملأت فضاء روحي بروحها وعذوبة كلماتها ، أهدى هذا العمل المتواضع "


كان يقضي وقته متجولا بين خيوط بيت العنكبوت باحثا عن فكرة هنا أو موقف هناك ، يخلو إلى نفسه مع الكلمة والحرف ، يقرأ ويكتب ، يتابع ويستطلع ، يحاول أن يسبح في فضاء كوني واسع تمنحه إياه هذه الخيوط العنكبوتية ، وفجأة سمع نقرة خفيفة ، فتح نافذته ، لم ير شيئاً ، ولم يشأ أن يكون متطفلا أو أن يكون البادئ بالكلام ، لم يسأل عن الطارق ، أغلق نافذته بهدوء وتجاهل الأمر وكأنه لم يكن ، ولكن النافذة ظلت تلاحقه باستمرار ، ظل على هذه الحال فترة طويلة ، وذات ليلة دفعه حب الاستطلاع إلى فتح النافذة وإلقاء التحية على الطارق الذي لا يعرفه :
- مساء الخير !
- مساء الفل !
- ممكن نتعرف ؟
- اسمي غزالة .
- ولكني لست ظبيا ! أنا إنسان أنتمي إلى عالم البشر ولكني أحب مشاهدة الغزلان ، ولا أحب أن آكل لحمها لأنني ضد أن يذبح كائن جميل كالغزال ولو كنت سأحصل منه على المسك .
سألت : وأنت ، ما اسمك ؟
قلت : محمد !
- وماذا تعمل ؟ هل أنت كاتب؟
- قلت : وكيف عرفت ؟
- خمنت ذلك من أسلوبك ، فيم تكتب ؟
- أتخصص في مجال الأدب .
- من أي البلاد أنت ؟
- قلت : من بلاد قريبة بعيدة ! أو كما يقول فريد الأطرش : " قدام عيني وبعيد علي ... ولا أريد أن أكمل ، لا أريد أن أقول مع فريد : مقسوم لغيري وهو ليَّ ، أنا من فلسطين أجمل بلاد العالم وأقربها إلى الله .
تساءلت : وأنت ؟
- أنا من قطر عربي يحب فلسطين ويضحي من أجلها .
قلت : عرفته .. إنها بلدي التي انحدر منها أجدادي ، بلدي التي ما زلت أهواها ، وأهوى فلسطين وأهوى كل بلاد العرب .
قالت : لهذه الدرجة تحب بلدي ؟
قلت : هواي جنوبي ومزاجي جنوبي .
سألتها عن عائلتها ، ذكرت اسم العائلة دون تردد ، أخبرتني عن أسرتها ، وقالت : هناك من يختبئ وراء أسماء وهمية !
قلت : لا أحب الأسماء الوهمية ، أنا لا أجيد فن الكذب ، أحب الوضوح ، ليس هناك ما هو أجمل من الوضوح .
طلبت منها رقم هاتفها بعد أن استمتعت بقراءة بعض كتاباتها التي طلبت رأيي فيها ، أعطتني رقم الهاتف دون تردد ، كنت أريد التأكد من أنني أواجه الحقيقة ولا أواجه وهما.
وفجأة اختفت تلك الغزالة كما ظهرت فجأة ، تركتني مشدوها ومشدودا إلى خيوط بيت العنكبوت الذي لا يتيح لي أن أفلت منها ، غابت غزالة عني على غير موعد ودون سابق إنذار ، ترى هل أنا مستيقظ ؟ أم أنني غفوت قليلا ، فتحت عينيّ على وسعهما لأتأكد مما إذا كنت مستيقظا أم لا ، آثار تلك الغزالة ما زالت أمامي حروفها التي مازالت أمامي تؤكد أن الحروف هي التي جمعت بيننا ، دققت النظر في بيت العنكبوت علني أجدها ولكنها ذهبت ، قلت في نفسي هي الوهم لا أكثر ولا أقل ، طيف زارني فجأة وتركني دون إشارة إلى لقاء آخر ، رأيت رقم الهاتف الذي كنت قد كتبته على ورقة أمامي ، هل هذا الرقم حقيقي يا ترى أم أنه وهم آخر ؟ هل كنت أحلم ؟ أمسكت هاتفي النقال وكتبت أرقامها ، ضغطت بلطف وتردد خشية أن أزعجها ، رد علي من الطرف الآخر صوت ناعس حالم ، كأن سنة من النوم ألمت بصاحبته ، هي الحقيقة إذن ! لم أكن أحلم ، كنت مستيقظا وبكامل وعيي ، كانت قد أخبرتني عن عمرها ، أخبرتها عن عمري وقلت لها إنني لن اتركها ترى صورتي حتى لا تخاف منها فأنا رجل عجوز وهي في عمر ابنتي ، أنا الخريف وهي الربيع ، فهل يمكن للخريف أن يلتقي بالربيع إلا إذا وصل بينهما الشتاء أو الصيف كما تصل المفصلة بين الباب وحلقه ؟ أنا الماضي والحاضر ، وهي الحاضر والمستقبل ، أنا وهي قطبا مغناطيس لا يلتقيان ولا يفترقان ، يكمل كل منهما الآخر ، الشباب في حاجة إلى حكمة الشيوخ ، والشيوخ بحاجة إلى حماس الشباب وحيويتهم ، هو التكامل إذن .
وبينما كنت أتجول في فضاءات بيت العنكبوت أحاول التخلص من خيوطه التي تزداد التفافا حول جسدي ، لاحت لي عن بعد مهرة عفية جامحة ، حاولت امتطاء صهوتها فجمحت بي وأنا المجرب ، كادت تلقيني أرضا لولا أنني تشبثت بها تشبث الطفل بأمه ، أو تشبث الغريق يتلك القشة الصغيرة التي يتوهم أن فيها نجاته من الغرق ، كانت مهرة غاضبة ، تجتاحها أحزان عاتية تقض مضجعها ، ترى الوحوش من حولها فتنفر وتقفز مبتعدة عنها ، دققت النظر فيها فرأيت فيها غزالة التي تركتني دون سابق إنذار ، هذه أنت ؟ قال لها ، وأردف : لم تركتني مع وساوسي ، لقد اعتقدت أنك كنت وهما !
قالت : أنا الحقيقة ، ولكني أملك أكثر من بعد ، لست واهما وأنا لست وهما تراءى لك !
قلت : كوني وهما أو كوني حقيقة .. كوني واقعا أو كوني خيالا ، كوني سرابا أو كوني ماء يرتوي منه الظمآن ، حتى لو كنت سرابا فإنه السراب الذي يوهم العطشان بقرب الارتواء ، كوني ما تشائين ، ولكن لا تدعي الأحزان تسد منافذ روحك ، فالبشر يعيشون على الأمل ويتخطون حواجز الأحزان ويتناسون الهموم التي تخلفها الآلام وراءها .
تسربت مهرتي من بين يدي فوجدتني أقبض الريح بين أصابعي ، وكلما رأيتها ، وكلما تسربت إلى مسام عقلي وخرجت منها ازددت تعلقا بها ، ترى : هل عدت مراهقا من جديد ، وهل العقل يمر بفترة مراهقة ، أعتقد أن لا ! ولكن كيف تتعلق أيها العقل أو أيها القلب بغزالة لم تقابلها ولا مرة في حياتك ، كيف تعشقها من خلال حروفها النارية المتوهجة؟ أنا لا أعشق الوهم ، هي حقيقة متجسدة بشحمها ولحمها أمامي ؛ لم أرها نعم ، ولكنها تسكن خلايا عقلي وجسدي ، أفكارها قريبة من أفكاري على الرغم من الفارق الزمني بيننا .
تكررت زيارات غزالة لي ، كانت تأتيني كالطيف ، مرة على شكل غزالة ، وأخرى على شكل مهرة ، وثالثة تأتيني إنسانا من لحم ودم يملأ فراغ روحي وتعزف على أوتار قلبي فيرتعش هذا القلب رعشة الفرح ، رعشة قلب أم فقدت وليدها لتعثر عليه بعد طول غياب فتتعلق به بشغف ومتعة ، أصبحت غزالتي جزءا من كياني ، تملأ الفضاء من حولي ، تغمرني بوهج يجعل من قلبي شمسا مشرقة بالآمال العذاب ، يا إلهي ما أجمل أن تشعر أنك محط اهتمام إنسان رائع كل هذه الروعة .
اتفق معها على لقاء قريب ، تواعدا فيما بينهما ، ظل يتخيل شكل غزالته أو مهرته وهل هي غزالة أو مهرة ، ليس ذلك مهما على كل حال ، المهم أن موعد اللقاء بات قريبا ، أعد أمتعته واستعد للسفر ، كان السفر متعبا ، ولكن لقاء غزالة يجعل كل أنواع التعب تهون في سبيل ذلك ، وبعد طول اشتياق ، اشتياق المريض إلى الشفاء ، فقد كانت بلسم روحه ، حدد معها مكان اللقاء ، وهناك رآها .. صمت قلبه لحظة ثم دق بسرعة .. إنها أجمل مما كنت أتصور ، ضمها إليه بشوق قبلها بين عينيها ، توجها إلى المكان الذي ينزل فيه ، جلست بجانبه ، شعر بدفء جسدها يسري في أوصاله ، كانت تبعث فيه شحنة من الدفء اللذيذ ، أمسك يدها ولثمها بشفتيه ، قال : كم انتظرت هذا اللقاء أيتها الحبيبة .
تأوهت حين سمعت وجيب قلبه الذي وشى به وفضح مكنون نفسه ، حاول أن يسكت هذا القلب لكنه لم يفلح ، فقد ظل يخفق ويجري كأنه طفل ترك أمه ليلهو في حديقة رائعة الجمال ، طوقها بذراعه ، قبلها في وجنتيها أكثر من مرة ، لثم شفتيها ، ذاق طعم الشهد ، مسه تيار دغدغ مشاعره ، احتضنها بلطف ، ضمها إلى صدره ومالت بهما الدنيا في قبلة لا أحلى ولا أعذب منها ، جذبهما السرير إليه ، فطوقها بذراعيه، ولكنه استيقظ من خدر عواطفه: لا ، لن أدنس بكارتها ، لن ألوث طهارتها .
افترشها فكانت أكثر اتساعا من الوطن من محيطه إلى خليجه ، ولم تكن أقل اتساعا من الكون ، كانت كل ذلك في وقت واحد ، كانت أرضه وسماءه ، كانت الدفء الذي يسري في عروقه ، قالها بلهجة ظافرة منتصرة : وجدته يا جلجامش ! وجدت ما فكرت أنك حصلت عليه وأضعته ، لقد عرفت سر الخلود أيها الباحث عن حياة أبدية وعن سر الخلود ، إنه يكمن هنا ، على صدر هذه الأنثى التي تتسع لتصبح أكبر من الوطن ولا تضيق لتصبح أصغر من الكون ، إنها سر الخلود ونبع الحياة الذي لا ينضب ، إنها المرأة .. الأم والوطن ، الأرض والعطاء ، الأخت والابنة ، الزوجة والحبيبة ، الصديقة والعشيقة ، نبع سعادتنا الفياض ومصدر الحياة وتعاقب الأجيال ، دمت لي يا مهرتي الأصيلة نبعا لا ينضب .
الجمعة 11/3/2205م