بمناسبة اليوم العالمي للمرأة :مناضلات في البال



حزب العمال التونسي
2005 / 3 / 19

اليوم العالمي للمرأة فرصة للتقويم ولكنه فرصة أيضا للتذكّر. تذكّر مناضلات عزيزات نذرن حياتهن للكفاح، كل واحدة في مجالها إلى أن سرقهن منا الموت. ومن هؤلاء النساء العزيزات علينا ثلاث، الأولى عايدة الهاني التي اختطفها المنون يوم 2 مارس 1988 وهي في عز الشباب (32) والثانية هي فاطمة البحري "رتا" والتي توفيت على إثر حادث مرور يوم 16 جـــوان 1988. والثالثة هي حدة النغموشي التي رحلت يوم 3 نوفمبر 2003. تتعرفون على هؤلاء في صفحات هذا العدد.

"حـــدّة" دائما في البال، فصول من سيرة امرأة مكافحة
مساء 3 نوفمبر 2003 فارقت "حدة النغموشي" الحياة. وتتجه أصابع الاتهام إلى قسم الأمراض الصدرية بمستشفى الرابطة الذي دخلته قبل وفاتها بأسبوع ومنه إلى قسم الإنعاش، كما تتجه إلى قسم تصفية الدم بمستشفى شارل نيكول الذي توفيت فيه إثر هبوط حاد في الضغط وسوء إدارة لحصة التصفية على يد إطار غير متعوّد على تقلبات حالتها، وسكتة قلبية. وتولّى زوج الفقيدة، الطاهر الهمامي، تصوير وجوه من التقصير والإخلال وسرد وقائع التقاعس والإهمال في زاويته بالأسبوعية "أخبار الجمهورية" تحت عنوان "يحدث في المستشفيات". وعلمنا أيضا أن قضية مرفوعة ضد الجهات المعنية تجري الآن ولم تفض بعد إلى نتيجة.

و"حدّة" امرأة مكافحة لا يعرف ذلك الكثيرون وكفاحها يصلح، على بساطته الظاهرية، أن يكون مادة للاعتبار. وإكراما لحدة ولصديقاتها وأصدقائها الذين عرفوها في أوقات الصمود، ووفاء لذكرى صديقاتنا ورفيقاتنا اللواتي أضأن الطريق، وشدا لأزر الصديق الشاعر زوجها وهو يعيش لوعة الفقدان، أردنا تخصيص هذه الكلمة للفقيدة التي ما كان من عرفها يتصور أن قلبها الكبير يخذلها، وأن حياتها تتحوّل إلى فعل ماض، وأن يوما يأتي يقف فيه موقف الراثي.

ونقتصر على التذكير بأربعة فصول من سيرتها، الأول باعتبارها عائلة سجين، والثاني عضو نادي المرأة 8 مارس، والثالثة كاتبة موثقة، والرابع وهي تواجه ظروف المرض والعلاج مع مرضى القصور الكلوي.

1 – قفة الأمل، إطلالة الحياة

لا ينسى سجناء "العامل التونسي" بين 1974و1981 في برج الرومي ببنزرت، وفي تونس، والكاف، والقصرين، وغيرها من المراكز السجنية التي كانوا ينقلون إليها، قفة حدة وإطلالة محياها وهي تزور مع زوجها شقيقه حمه. ولا تنسى عائلات هؤلاء الرواد، الذين كانوا يضيئون الطريق ويشقون ليل القمع الحالك، خيال حدة وبحّتها ونكتتها تقشّع أكدار الطريق ومتاعب الانتظار في الحر والقر لإدخال قفة أو أداء زيارة، ونزوات إدارات السجون خصوصا عندما يدخل السجناء في إضرابات جوع تدوم بالأربعة أسابيع أحيانا، وتحتاج فكا للحصار الإعلامي، وشدا للأزر من خارج أسوار السجن.

لا تنسى شتاءات سنوات الصقيع وأصياف سنوات الجمر خيال حدة والطاهر وهما يطلان بالقفة وزعازع رياح ربوة برج الرومي تكاد تقتلعهما، ويطرقان الباب كي يقال لهما إن سجينهما في إضراب عن الطعام.

كانت حدة وعلى مدى سنوات الحبس ورغم ظروفها المادية الصعبة تجتهد في إسعاف ضحايا القمع هؤلاء وهم في قبضة الجلاد، وتفكر فيهم حالة حالة غذائيا وصحيا، وتعمل على الحيلولة دون سقوط من أصابه الهزال بسبب حياة السرية وظروف الاعتقال أو الوضعية الاجتماعية، وتتفانى في دعم قدرته الدفاعية وطاقة المقاومة عنده.

ثم جاء دور شقيقها ودقّت ساعة محنتها العائلية بدءا من أوائل التسعينات وعلى إثر حملات الاعتقال الواسعة التي شنها نظام بن علي على معارضيه وعلى كل ذي فكرة حرة ورأي مخالف. فقد حُشر شقيقها ضمن أتباع "النهضة" وحوكم ففر مع الفارين من التعذيب والتنكيل ولما قبض عليه حوكم بقرابة عشرين عاما انتقاما، ووجدت الفقيدة نفسها تواجه المشكلة وتتحمل فواجع الاعتقال وهي مصابة بعدُ بالسكري وحالتها تتعكر لكنها لم تتوقف عن الوقوف مع شقيقها بالقفة والزيارة والمتابعة القضائية ورفع المعنويات العائلية. ولم تكفّ عن ذلك حتى وهي مصابة بالقصور الكلوي وتتداعى يوما بعد يوم، إلى أن رحلت وما يزال شقيقها رهينة عند زبانية الدكتاتور مع عدد كبير من ضحايا التعسف. رحلت وفي حلقها غصة لم تفرح بزوالها. وكانت حدة تتحمل، أحيانا وفي فترة ما، أعباء قفتي شقيقها وشقيق زوجها الموقوف مجددا بين الفينة والأخرى.

2 – 8 مارس ومشروع التحرر

وفي مستهل التسعينات، وفي علاقة بالفجوة التي عرفتها الحياة الجمعياتية قبل أن تعيد السلطة النوفمبرية ترتيب البيت وتعاود الكرّة القمعية على نحو غير مسبوق، شهد التعبير السياسي والفكري والفني والتنظم انتعاشة اتسع خلالها نطاق الأنشطة الشبابية والنسائية والثقافية واستطاع حزب الحرية أن يفرض مساحات تعبير مستقل وتقدمي داخل الأطر الموجودة أو خارجها، فكانت شبكة نوادي المرأة المنبعثة على أساس برنامج المساواة بين الجنسين ورفض مشروعي المرأة –السلعة الليبيرالي والمرأة –العورة الأصولي.

وكان نادي المرأة "8 مارس" الناشط في إطار النادي الثقافي الطاهر الحداد أحد أنشط هذه النوادي وكانت حدة عضو هيئته التي أشرفت على عديد الأنشطة الجادة وأصدرت النشرية واستقطبت جمهورا وشكل ذلك متنفسا لمشروع الانعتاق وبديل الكرامة. والتجربة ثرية وحافلة وتحتاج إلى تدوين وتوثيق يسجلان صفحة من سجل المرأة المشرق، رغم العوائق والعثرات.

3 – خدمات للباحثين

عندما يُشاع خبر وفاة الفقيدة كان الباحثون الذين ترددوا على مكتبة الآباء البيض (إبلا) بين 1980 و2000 من أكثر الناس تاثرا وأشدهم لوعة، وخصوصا أولائك الجامعيون والجامعيات الذين أعدوا رسائل وأطروحات بمساعدة سخية منها (توفير مصادر ومراجع، تصوير، إعارة..إلخ) رغم متاعب العمل والتنقل والبيت والسجن. فقد اكتسبت خبرة في علاقة بالمكتبة ورصيد الكتب والدوريات سخرتها لخدمة قاصديها ولم تثنها عن ذلك ظروف شغلها الشاقة والمناوشات المفروضة عليها أحيانا مع مشغلها من أجل تخفيف تلكك الظروف والحصول على بعض الحقوق.

وما أكثر السنوات التي كانت فيها حدة تغادر عملها مساء وتقطع المسافة الفاصلة بين معقل الزعيم ومحطة الحافلات بساحة برشلونة وتصل إلي بيتها محملة بما تُستلزمه قفة سجين ثم تأخذ في إعدادها ومن الغد تقوم باكرا كي تصل بالقفة إلى السجن وتقف في صف كي تسلمها ثم في صف آخر كي تزور شقيقها ثم تقصد عملها مهدودة (حصة مسائية) حيث تستكمل دورة المعاناة. فصل آخر من حياتها جدير بوقفة مفصلة.

4 – المرض ومعركة البقاء:

أفضت المتاعب الجمة التي عانتها حدّة في حياتها القصيرة والتي سكتنا عن العديد من فصولها، إلى إصابتها بالقصور الكلوي ودخولها في نسق معالجة يومية صعبة يعرفها المترددون ثلاث مرات أسبوعيا على مراكز الدم. وتتضاعف الصعوبة بالنفقات الباهضة التي يتكبدها المريض كي يبقى على قيد الحياة حتى ولو كان مضمونا اجتماعيا، وكذلك بالمواجهات المستمرة مع المصالح الاستشفائية وبيروقراطياتها ومع التلاعب الذي يحصل في مجال الحقوق البسيطة العائدة إلى المريض، ولا يقف على حجم هذا التلاعب وآثاره الوخيمة إلا من أقعده المرض أو تولى أمر مريض.

وبقدر ما يعتبر علاج مرض مزمن كالقصور الكلوي أمرا في غاية الدقة لأن ضحيته يمكن أن يقضي نحبه بين ساعة وأخرى إذا لم يجد الرعاية الصحية واليد الطبية العارفة، فإن منطق الربح السهل وسلطان الخوصصة المتوحشة شاء أن تظل مراكز تصفية الدم تبعث كمراكز التاكسيفون دون مراعاة أدنى شروط الوظيفة العلاجية إطارا وتجهيزا طبيا. كما أن القائمين على الصحة العمومية لم يفكروا بعدُ في بعث وحدات علاجية داخل المستشفيات خاصةٍ بمرضى الأمراض المزمنة وخصوصا منها القصور الكلوي الذي يتطلب تقنية علاجية ما تزال معقدة، والذي يتعرض مريضه لأمراض جانبية أخرى، ما يسكن أحـدها حتى يتحرك الآخر (مفاصل، قلب، رئتان…) فضلا عن السكري والضغط الملازمين له عادة.

ولقد أدى غياب تلك الوحدات المتخصصة في علاج ضحايا هذا المرض ومضاعفاته المصاحبة داخل المستشفيات، وأدى الإخلال والإهمال الذي لا يتحمله مريض من هذا النوع، إلى التعجيل برحيل الفقيدة، وكانت اللحظة الحاسمة تحت ماكينة التصفية بمستشفى شارل نيكول في غياب طبيبها المباشر المتعوّد على تقلبات حالتها أثناء حصة التصفية، بعد أن تم إقصاؤه بدعوى أن المستشفى عنده إطاراته ولا موجب لدخيل، فكان الاستهتار وكانت اللامبالاة وكان الهبوط الحاد في الضغط وكانت السكتة القلبية. ويروي زوجها في إحدى الحلقات المنشورة التي أشرنا إليها، أنه حين جاء يحتج على التهاون بحياة زوجته نادوا على فيجيل المؤسسة وأعوان البوليس لإخراجه. وكذلك فعلوا حين جاء ليتأكد من أسباب وفاتها. والقضية جارية.

ويذكر رفاق الفقيدة في مركز تصفية الدم بمصحة التوفيق دورها وهي تواجه معهم تعسف "الأيدي العليا" التي شاءت في مرحلة أولى إقصاء الطاقم الطبي لإحلال طاقم آخر موال مكانه، وفي مرحلة ثانية إغلاق المركز بدعاوٍ واهية، وتشتيت المرضى على مراكز أخرى مما جر لهم متاعب كثيرة كانوا في غنى عنها.

كانت حدة وهي في أعتى ظروف المرض، لا تفارق البسمة محياها ولا تتخلى عن واجباتها السجنية، ولا تبدي من الضعف ما يجعلك تتصور أنها قريبة الرحيل.

"رتّـا"… مازالت بيننا..

توفيت "رتّا" يوم 16 جوان 1989 على إثر حادث مرور بمدينة جندوبة. التحقت بالجامعة التونسية 84/85 حيث رسّمت بكلية الآداب منوبة (فرنسية). عُرفت بنضاليتها وكفاحيتها الفائقة. والكل يشهد لها بدورها المميز في إنجاز المؤتمر الثامن عشر الخارق للعادة. وكذلك في الانتخابات القاعدية للمؤتمر 19 هذا إضافة إلى نشاطها ضمن الحركة النسائية الديمقراطية.

انخرطت في النضال منذ أن كانت تلميذة بالمعهد الثانوي بقليبية حيث كانت في المواقع الأمامية خلال التحركات التي شهدتها المعاهد الثانوية ببلادنا سنة 80/81 وهو ما انجر عنه طردها من الدراسة وحرمانها من المبيت، غير أن عزيمتها وثقة التلاميذ فيها كانا أقوى من تعسف الإدارة التي رضخت لمطالب التلاميذ ورجعت "رتّا" إلى الدراسة. ونفس السيناريو تكرر في حياتها الجامعية إذ حرمت من دورتي جوان وسبتمبر 88/89 بسبب قيادتها للاحتجاجات الطلابية على الظروف التي حفت بوفاة الطالب لطفي بن عمر زميلها في الدراسة.

بعد حوالي 15 سنة على رحيلها لاتزال رتّا بين رفاقها وأصدقائها يذكرون خصالها ويضربون بها المثل في النضالية ورفعة الأخلاق.

و عائدة … تتحدّث …
"..تطورت الأوضاع النقابية وتوليتُ أنا خطة مندوبة نقابية بمعهدي. وكان يتحمّل معي هذه المسؤولية أستاذ يدرس الموسيقى كبير السن (أحيل أخيرا على التقاعد) ثم نقابي يتحلى بروح شابة. لذلك كنا نتفاهم إلى أبعد حد.

تعددت الاجتماعات النقابية وكانت سنة 82 متحركة وساخنة بالنسبة للاتحاد وبصفة خاصة قطاعنا. وكان معهدنا الصغير لم يعرف مثل تلك الاجتماعات التي عرفها تلكم السنة وتمكنا من شد كل أنواع الأساتذة إلينا. وكنت أهتم بصفة خاصة بالنساء لانشغالهن عن العمل النقابي بالشؤون المنزلية وتربية الصغار والاهتمام بـ"آش طيبت اليوم.." و "محلاها روبتك.. منين شريتها..". وبدأن يخرجن من عزلتهن تلك وقضين على الانقسام الجنسي الذي كان موجودا في قاعة الأساتذة. من جهة تجد الأساتذة الرجال يعلقون على الجرائد وأخبار اليوم والشبان منهم يتحدثون ربما عن الكرة وأشياء أخرى. ومن جهة أخرى نجد الأساتذة النساء يتحدثن عن أزواجهن وأولادهن وحملهن والبعض عن خادماتهن. كان ذلك الوضع يقلقني حتى أنني كنت أرفض الاختلاط بهن. وكنت في البداية أجلس في غالب الأحيان مع الرجال لكن شيئا فشيئا ومع تطور ممارستي النقابية أصبحت أشعر بهن وبمشاغلهن أكثر، وبأنهن رغم ثقافتهن هن في النهاية ضحية نظام اقتصادي واجتماعي يبلد ذهن المرأة ويجعل منها إنسانا دونيا ويبعدها عن كل شيء من شأنه إخراجها من دائرة مشاغل البيت.

بدأت وزميلي نجلب اهتمام الجميع بالإعلام الذي نأتيهم به فكنا قبل بداية كل حصة وأثناء الراحة نتبادل الأخبار ونفسر لهم مطالب الأساتذة وخاصة منها مطلب التنظير الذي من شأنه أن يحسن الحالة المادية للأساتذة. ومطلب فتح الآفاق الذي سوف يحسن وضعهم المعنوي(...) وتوالت الاجتماعات العامة بالمعاهد وبدار الاتحاد وتمكنا من أن نجعلهم يحضرون بأعداد وافرة الاجتماعات التي ننظمها داخل المعهد. لكن بنسبة أقل بساحة محمد علي. وكان الحماس متوفرا وكانت ثقتهم كبيرة لذلك كانت كل إضراباتنا بالمعهد ناجحة 100%."