النساء والطعام



عائشة خليل
2013 / 1 / 19

يشكل الطعام جزءا حيويًا من حياتنا اليومية ومن مناسباتنا الاجتماعية والدينية ومع ذلك لم ينتبه علماء الاجتماع لدراسته إلا في العقود القليلة الماضية. ومازال الحديث عن الطعام في الدوائر الأكاديمية يرسم ابتسامة ساخرة على وجوه البعض. ونحن لا نتحدث هنا على ما قد يطلق عليه في بعض الدول "الأمن الغذائي" والذي يعني بتوفير محاصيل معينة داخل الحدود الجغرافية كجزء من الأمن القومي؛ وإنما نعني الطعام كممارسة يومية واحتفالية لدى الأفراد والشعوب المختلفة.

ينتظم إيقاع اليوم على الوجبات اليومية التي تجتمع حولها الأسرة. فندعو الأصدقاء لتناول كوب من الشاي أو القهوة والتي خصصت لها دور معينة لتناولها: المقاهي، أو ندعوهم إلى مطاعم صار بعضها وجهة لما تقدمه من "فنون". وتتمحور احتفالاتنا الدينية والقومية حول الطعام: فمن شهر رمضان إلى عيدي الفطر والأضحى، إلى شم النسيم يكون الطعام الخاص بتلك المناسبة بعينيها محور الاحتفالية. فيتم الإعداد المسبق لها: بدءا من توفير المال اللازم، وشراء المستلزمات الخاصة بأعدادها، مرورًا بعملية الإعداد، وتبادل الأطباق مع الأهل والجيران، ثم تقديم الوجبة الاحتفالية وتناولها، وانتهاء بالنظافة والترتيب فيما بعد الاحتفال. كما أن مناسباتنا الاجتماعية مثل الخطوبة والزواج والولادة تنتظم أيضًا حول الطعام.

وتقول النظريات الأولية (انظر مثلا كتابات عالمة الأنثروبولوجيا الأميركية مارجريت ميد) التي تمخضت عن دراسة الطعام في حياة الشعوب، إن الظروف الموضوعية التي عاشت في ظلها الشعوب كانت تتميز بالفقر النسبي: فالوجبات اليومية لم تكد تختلف عن بعضها البعض، وما ساعد على تحمل الرتابة والتكرار، ناهيك عن الفقر، هو انتظار الأعياد والمناسبات المختلفة التي يبذل خلالها الغالي والثمين من أجل إيجاد بعض التوازن في حياة الشعوب. وبمعنى آخر: كانت هناك دورات يومية لوجبات فقيرة مملة وممتدة، ودورات موسمية لوجبات غنية نادرة وقصيرة. ولكن الظروف الموضوعية للحياة في العصر الحديث غيرت كل ذلك، فلم يعد الاستهلاك من الإنتاج المحلي (الذي مهما تنوع فهو فقير نسبيًا) وإنما أصبح الاستهلاك من الإنتاج العالمي بتنوعه اللا محدود. وهكذا صارت الوجبات اليومية احتفالات دائمة وخاصة في المدن. كما انفصل المنتج عن المستهلك، فلم يعد لدينا علاقة وطيدة بما تنتجه الأرض، وتطور الأمر بحيث انفصل الأمر في مخيلة الأطفال انفصالا تامًا، فمثلا إذا سألت طفلا من أين يأتي القمح؟ لرد قائلا: من السوبر ماركت!

وللطعام دور محوري في حياة النساء خاصة، ذلك أن المجتمع البطريركي قد أوكل إليهن المهمة الشاقة والرتيبة والمتكررة لإعداد الطعام. وهكذا تنخرط الفتيات منذ نعومة أظافرهن في مهام الإعداد، وتتعلمن من خلال مراقبة النساء الأكبر سنًا وهن يقمن بالمهام العديدة من إعداد وتقديم - فلكل مجتمع أصول مرعية في تقديم الأطباق المختلفة على التوالي - ويتدربن على المسموح والممنوع وعلى المسكوت عنه. وهكذا تشب الفتاة متقنة لبعض الأطباق المتوارثة عن الجدات، كما تتعلم أصول التقديم، و"فنون" النظافة. وقد لاحظ عالم الاجتماع الفرنسي بيار بوردو أن الرجال يقومون بذبح الخرفان في عملية احتفالية لا تستغرق الكثير، ثم يمضون بقية النهار في التدخين وتجاذب أطراف الحديث، بينما تكدح النساء في المطبخ لإعداد وجبات يتناول معظمها الرجال، فهناك بعض الأطعمة التي تعد رجالية وأخرى تعد نسائية. واللحوم من الأطعمة الرجالية التي يكثر منها الرجال، وتقلل منها النساء. كما لاحظ بوردو أن الاحتفال ببلوغ الشاب يعني التدريب على مضاعفة مقدار ما يتناوله من طعام، بينما الاحتفال ببلوغ الفتاة يعني التدريب على الحرمان والامتناع.

وقد بدأت بعض الدراسات في البحث عن أوضاع النساء وعلاقتهن بالطعام في العالم العربي. ومن أطرف ما قرأت في هذا المجال، دراسة للباحثة الغربية إيانثي ماكلاجن عن "الطعام والنوع الاجتماعي في اليمن". حيث تتحدث الباحثة عن التبادلية بين النساء في النهارات الطويلة في تلك القرية اليمنية النائية، فتتحدث عن أنواع الطعام الذي تتبادله النساء مع بعضهن البعض، وعن أنواع الطعام الذي يتبادله الرجال مع بعضهم البعض، وعن علاقات القوة بين الزوج والزوجة فيما يختص بالطعام. فتقول إنه بينما يختص الرجل بجلب الطعام إلى العائلة فإن الزوجة هي من تقوم بإعداده، ويمكن أن تضعه في مأزق بهذا الخصوص إن هي قررت العودة إلى بيت والديها، فبدون زوجة لا يمكن للزوج استضافة أصدقائه لتناول الطعام في منزله، مما يؤثر على مكانته الاجتماعية. فالرجل يأنف من إعداد الطعام، حتى وإن كان قد أتقنه خلال سنوات الغربة، كما يأنف العربي من الذبح ويوكله إلى فئة مهمشة تدعى: الجزارون. كما قارنت بين الزوجات وبين الجزارين في تلك المجتمع وهما الفئتان الأقل حظوة مجتمعيًا، ولكنهما يسديان خدمات جليلة يعتمد عليهما المجتمع الذكوري المسيطر، وانتهت إلى أن فئة الجزارين أصبحت أكثر ثراء - وبالتالي أكثر استقلالا اقتصاديا - من الفئات المسيطرة تقليدًا، تحديدًا لقيامها بالخدمات التي تأنف الفئات المسيطرة تقليدًا عن القيام بها؛ بينما لا تزال النساء معتمدات اقتصاديًا على المجتمع البطريركي.

وهكذا أخذت الدراسات عن الطعام طريقها إلى المجال الأكاديمي، وبدأت الدراسات عن الطعام في شتى أصقاع العالم تنتشر، فألفت عنها الأبحاث، ونشرت الدوريات، وعقدت المؤتمرات. كما بدأت النسويات في الدراسات المعمقة عن الأوضاع الموضوعية التي تحدد وضع النساء في المجتمعات البطريركية وربطت تلك الأبحاث بمجال الطعام على وجه التحديد.