يا بطلة الراليات السعودية: السكوت من ذهب !



لطيفة الشعلان
2005 / 3 / 26

بينما كنت أهم بكتابة مقالي ونحن على مشارف يوم المرأة العالمي وقعت عيني على خبر فوز السعودية مروة محمود بالمركز الأول في بطولة دبي للراليات النسائية الذي تصدر صحيفة "الحياة" الجمعة الفائت. لم يحمل لي الخبر البشرى التي حملها للصحيفة فطيرته لصفحتها الأولى، ولست ممن يجد في مثل هذه الإنجازات الفردية كرنفالات لتحسين الصورة المعطوبة، ولم أكن لأشير للخبر أصلا، لولا تصريح السيدة الذي احتاج مني وقتا للمواءمة فيه بين صورتها ببدلة التسابق خلف مقود سيارتها، وبين رأسها البرجوازي. فهذه المرأة السعودية التي تعيش في الإمارات وتقول عن نفسها: "لحاجتي إلى السيارة في تنقلاتي تعلمت القيادة " تفتي في شأننا بنفس أمومي: "الوقت لم يحن بعد لقيادة المرأة في المملكة"! والسبب يا سيدة الراليات ؟ "قبل ذلك المرأة السعودية بحاجة إلى العمل في مجالات تنموية وتطويرية أخرى".

يردد كثيرون إذا جاء ذكر الإصلاح، وعلى الأخص مايتعلق منه بشأن المرأة، مقولة الوقت الذي لم يحن بعد، أما ان تقولها هذه السيدة التي تعيش في الخارج، وتشارك في الراليات، وتقود سيارتها لقضاء حوائجها، فهذا مما يثير السخرية ويكشف ان السماجة بلا حد.

لطالما رأينا في التجارب العربية نوعا من التقاطع بين قوة الدفع الإجتماعي والإرادة السياسية في إقرار حق ما للنساء، أو تغيير قانون مجحف بهن، بينما نجد المكتسبات المتواضعة التي حصلت عليها المرأة السعودية، قد أتت بقرارات رسمية لم تؤثر فيها، أو تدفعها أوتعجل بها، مطالبات إجتماعية أو نضال نسوي ما. مثلا البدء في تعليم المرأة عام 1960 كان قرار رسميا خالصا صدر وطبق رغم أنف الممانعة الإجتماعية. ومع انني ممن يعولون على فعالية القاعدة الإجتماعية في التغيير الأنجح، إلا ان قرارا آخر هو تحويل الإشراف على تعليم البنات إلى وزارة التربية والتعليم، أثبت واقعيا ان الإرادة السياسية مطلوبة بشدة لفرض الإصلاحات الإجتماعية، حتى مع توقع ممانعة قوية لدى بعض الفئات.

ولنفهم كيف أن تمكين المرأة السعودية بات مطلبا اقتصاديا اجتماعيا ملحا، علينا ان نتأمل مثلا في ذلك الواقع الذي جعل أمهات من الطبقة الوسطى، ومن منطقة نجد المعروفة تاريخيا بمحافظتها الشديدة، يلجأن بمباركة من قمة الهرم الأبوي، للإنتقال والسكن منفردات مع بناتهن اللواتي يعملن معلمات في قرى ومناطق نائية .. وهو ما كان قبل سنوات قلائل سيعد أمرا شائنا معيبا..

غني عن القول انه لا وجود في المجتمع السعودي لحركة نسوية، ولا لناشطات في مجال حقوق المرأة. وأنت لن تفهم الصورة الرومانسية الفخمة التي يسقطها أنصار حقوق المرأة على فعل بدأ وانتهى في ظهيرة يوم واحد، قامت به بعض الأكاديميات وتلميذاتهن في 1991 إلا في ضوء هذا الفراغ المريع في الفكر والعمل النسوي. ولو فتشت اليوم عن البارزات ممن تصدرن تلك المظاهرة الرمزية لوجدتهن مثل سواهن قد ابتلعهن ثالوث الوظيفة الحكومية والمنزل والكتابة الصحفية. وشخصيا أزعم معرفتي بفقر (بعضهن) الشديد في الثقافة النسوية، وبساطة تفكيرهن إذا تعلق الأمر بالوعي السياسي وآليات التغيير الإجتماعي واشكالية المرأة. البون شاسع بين التحصيل العلمي المرتفع وطبيعة الوعي المشخص آنفا، فهما لايرتبطان بالضرورة. ومثل هذا الوعي هو مايعوزنا لخلق حراك نسوي أبعد مايكون عن لغة الشعارات الثورية، الفارغة فراغ بعض الروؤس والتنظيرات. وحتى لا أظلم أحدا، فقد ركنت النخبة من النساء - ولا أستثني نفسي- لدعة الوظيفة الأكاديمية، وأمان الأبواب المغلقة في وجه الريح، مكتفيات بشغب الكتابة، هذا إن شاغبن أصلا. إنهن يعرفن في قرارة أنفسهن انهن بلا سند ولن يرحمهن كائنا من كان، فربما فضلن قول نصف الكلام أو نصف الحلم أو نصف الحقيقة على صمت الجدران.

ولو تركنا النخبة الثقافية إلى نخبة بمواصفات أخرى وهي البرجوازية، فسنكون أمام وضع أكثر تعاسة، مع أنها قد تملك ما لاتملكه النخبة الثقافية من ممكنات الفعل والتأثير. أنا آخر من يبخس العمل الخيري حقه وأهميته، ولكن التاريخ يعلمنا ان البرجوازية قد تتحالف ضمنيا مع القوى التقليدية لبقاء الأوضاع كما هي. المرأة البرجوازية لها واقعها الخاص المنفصل والمتعالي في رفاهيته عن واقع النساء اليومي. إذا وضعت على ذلك قليلا من بهارات الرجعية الفكرية -كما لدى أختنا مروة محمود- رغم أحدث ما يرتدينه من موضات أوروبية، عرفت ان العمل الخيري لا مساحة فيه إلى جانب توزيع الأرز والسكر، لتبني قضايا المرأة أو دفعها للواجهة.

إن انعدام النسوية في السعودية حتى على الصعيد التنظيري، ليس أمرا عصيا على التفسير. فله جملة عوامل متشابكة يتضافر فيها المكون الأيديولوجي بسلطانه الشاسع، والبنية الاجتماعية التقليدية للمجتمع، مع الانخفاض الواضح في وعي المرأة السياسيي والاجتماعي. لكن القراءة في تاريخ وأدبيات النضال النسوي في مجتمعات عربية كمصر وفلسطين والعراق والجزائر، تبين ان ذلك التفسير وحده لن يكون كافيا لتشخيص الحالة. فالسعودي لم يعرف الحياة الحزبية، في حين كانت الأحزاب القومية واليسارية، وتحديدا الأخيرة، هي الحاضن والملهم لحركات المطالبة بحقوق المرأة. أما بالذهاب إلى البدايات المبكرة، فسنجد التيار النسوي إن من ناحية إنضاج وعي المرأة، أو من ناحية التشكل والتموضع، قد انبثق ضمن الإطار العام لحركات التحرر ومقاومة الإستعمار، بينما انتفى لدينا هذا العامل التاريخي. على سبيل المثال كانت مشاركة المرأة المصرية بقوة في ثورة 1919 هي الشرارة التي وضعت حجر الأساس لمسيرة العمل النسوي. ولم يكن ببعيد عن ذلك ما افضى إليه انخراط المرأة الجزائرية أو العراقية أو الفلسطينية في النضال ضد المستعمر. هذا طبعا يخالف كلية الزعم الذي يحشى في الرؤوس ليل نهار بأن الدعوة إلى حقوق المرأة من رجس الحضارة الغربية الفاسدة. بل إن هذا الربط بين حقوق المرأة وبين الغرب القاهر حضاريا وسياسيا، أنتج لنا ذلك الفهم الجائر للقضية، كما أفقدها فرصة درسها من زاوية موضوعية تضعها في مكانها من قضايا التنمية والإصلاح العربي عموما. ويبقى أن أي انحراف بعد ذلك في بعض الطروحات النسوية العربية، أو تحويل الحركة من تيار نضالي له قضاياه العادلة، إلى نزعة عصبوية أو عقيدة شوفينية موجهة ضد الرجل ومؤسسة الأسرة، من الأشياء التي لايعلق وزرها بقضية حقوق المرأة.