ليس بالنسوية وحدها تنجو النساء



هبة عباني
2020 / 3 / 7

منذ مدّة، قالت لي إحدى الصديقات إنّ مجموعة عربية تعمل على قضايا النساء بحاجة إلى مساعدة النسويات اللبنانيات من أجل إنجاح حملتها. فلا شك في أنّ تلك النظرة إلى الحركة النسوية اللبنانية ظهرت من جراء الإطلالات الكثيفة عبر صفحات الصحف، والوسائل المرئية والمسموعة. ويشتد بريق الحركة وإنجازاتها من خلال تزايد الاعتصامات والتحركات التي تحمل في الغالب سقفاً عالياً من الشعارات والخطابات.

من المؤكد أنّ هذه الضجة والحراك ذا اللهجة الحادة والحاسمة يسهمان في بناء وعي مجتمعي ويسعىان إلى وضع قضايا المرأة على جدول أعمال القضايا المجتمعية التي تستلزم تدخلاً سريعاً لإيجاد العدالة المفقودة. ولكن، هذه الضجة ـــ وعلى الرغم من أهميتها وأحقيتها ـــ تبتعد بالحركة النسوية عن واقعها المحدود التأثير، غير القادر على كسر الحاجز الجليدي بينه وبين عامة النساء، والمنهمك في مشاكله الداخلية وطموحاته الشخصية. في الواقع، تعبّر الصورة المنعكسة عن الحركة النسوية بقدر ما تعبّر وسائل الإعلام ووزارات السياحية المتعاقبة عن صورة المرأة في لبنان.
بطبيعة الحال، لا يهدف هذا الرأي إلى التقليل من شأن النضالات المختلفة والضرورية للنسويات في لبنان، ولا إلى تهميش الإنجازات المحققة على مدى سنوات. ولكنّه يسعى إلى التعبير عن هاجس حاضر دائماً في ذهني، وتخوّف من سقوط النشاط النسوي في فخَّي الانبهار والغرور الذاتيين والمبنيين على أسس هشّة لا تعبّر عن الواقع، بل تبقينا أسرى في فقاقيع تختزل العالم بكليته. وأرجو أن تكون هذه المساحة مكاناً لنتشارك ونفكر معاً في الأسئلة الآتية:
لماذا تبتعد الأغلبية الساحقة من النساء عن حراكنا؟ لماذا نحن غير قادرات على إنتاج لغة مشتركة؟ ولماذا لا يجد الخطاب النسوي الخلاب والراديكالي أي صدى وامتداد خارج الدوائر الضيقة التي لا تتعدى شارعين إلى ثلاثة من شوارع العاصمة؟ هل فعلاً النساء في لبنان يجهلن تماماً حقوقهن وقدراتهن؟ أم أنّهن مازوشيات بطبيعتهن كما يقول فرويد؟ وهل هن سلبيات وعاجزات تماماً ينتظرن عمليات الإنقاذ البطولية؟
لماذا لا تنتشر عدوى المبادرات والعمل النسائي إلا في حالة واحدة: الانشقاق على ذاتها؟
لا أملك صفة أكاديمية ولا بحثية ولا تمثيلية تخولني الإجابة عن تلك الأسئلة، ولكن أليس لكل امرأة الحق في مساءلة الحركة التي تتكلّم باسمها؟ وفي ما يلي بعض الأفكار التي أود مشاركتها.
ــ لا تعاني الحركة النسوية اليوم من مشكلة مرتبطة بالأدوات فحسب. فالخلل يكمن أيضاً في الاستراتيجيات التي ابتعدت تماماً عن إشراك النساء في هذا النضال، علما أنّهن صاحبات القضية والمعنيات الأساسيات في تحديد الأطر والأشكال والتوجهات الخاصة بالحركة. وفي الوقت الذي تزداد فيه الحاجة إلى مخاطبة النساء والعمل معهن، لا من أجلهن، نرى أنّ غالبية الاستراتيجيات ترتكز حصراً على التوجه إلى المؤسسات الحكومية والتشريعية من أجل إصلاحها لتصبح أقل تمييزاً بحق النساء، أو أنّها تتجه إلى المجتمع عموماً لجعله حساساً لهذه الظاهرة. وعلى الرغم من كون هذا التوجّه أساسياً وضرورياً لجهة استجابته لمشكلة تمسّ غالبية النساء، إلا أنّه سيبقى عالقاً في دائرة محدودة التاثير إذا لم يقرن بمقاربة أخرى تعمل على توسيع الحركة وجعلها فضاءً يتسع لنساء ذوات تجارب وخلفيات وبيئات مختلفة. ولا شك في أنّ وجود مؤسسات تعمل من خلال هذا التوجه يُعَدّ أمراً ملحاً، ولكن ينبغي أن تبادر المجموعات غير الممأسسة إلى سد الفراغ والتوجه إلى العمل مع النساء مباشرة. ولعل هذا الأمر من أبرز المعوّقات التي تحول دون تثمير الحركة. من جهة، هو يفقد شرعيته، ومن جهة أخرى يستنزف الطاقات والقدرات الإبداعية، وأخيراً يجمد الخطاب السياسي النسوي وقد يحوله إلى مجموعة من الشعارات غير القادرة على التأثير.
يحمل الخطاب النسوي إلى حد كبير نفساً تضامنياً مع النساء أكثر من كونه خطاباً عضوياً ــ ندياً. هذا الخطاب يلغي إمكانية الالتقاء والاندماج مع النساء، ويعزز لوجود معادلة «نحن وهن». تصبح العلاقة معهن شبيهة بالعلاقة مع الآخر وكأننا من خارج النساء، فنحن مجرد رسل ونخبة مصطفاة ومهتدية تطلب منهن تبنّي رسالتنا لأنّها طريقهن إلى الخلاص المحتم.
وهنا علينا أن نسال أنفسنا: هل ما ينقص النساء هو مجموعة أخرى ترسم لهن نمطاً جديداً للتفكير والتصرف؟ وإلى أي حدّ يتماهى فرض هذه الأنماط المنزلة كنموذج للتحرر مع المفهوم الذكوري للسلطة الذي يبرر استخدامها من أجل ضمان مصالح الآخرين وحقوقهم؟
على الرغم من تنوع خلفيات وطبقات النساء الناشطات في الحركة، لكن ترتفع أصوات صاحبات الامتيازات الطبقية والإعلامية في الكثير من الأحيان على حساب النساء الأقل امتيازاً. مثلاً، من الصعب جداً أن تجد المرأة العاملة والمنهمكة في تسديد حاجاتها اليومية مساحةً تمكنها من تصدير همومها. يبقى فضاء الحركة النسوية حكراً على اللواتي تمكنهن ظروفهم المعيشية من التفرغ، وتعلم المصطلحات ــ المفتاح، وإتقان اللغة الأجنبية، وفي النتيجة إبراز خطابهن السياسي من دون التوقف للتفكير في امتيازاتهن.
على الرغم من إدراكنا كنسويات أنّ الذكورية منظومة كاملة تعتمد على ديناميات ومعايير ومفاهيم معينة، إلا أنّ مقاربتنا للذكورية تقتصر على أنّها خلل حقوقي بين الرجال والنساء، ينتج منه تمييز يضع النساء في الخانة الأضعف. يجرّنا هذا التغاضي عن التعاطي مع الذكورية كنمط مرفوض، إلى انزلاقنا جميعاً، وأُولاهُنّ أنا إلى اعتماد المعايير والديناميات ذاتها التي نشهدها على سبيل المثال لا الحصر في: إنتاج قيادة تمثل السلطة، سواء بشكل معلن أو غير معلن. تقوم هذه القيادات برسم الرؤى المناسبة وتصدر المشهد واحتكار الصوت. ولكن مهلاً، ألا تعتمد العائلة بمفهومها الأبوي والسلطوي على قمع فتياتها بحجة الحفاظ على مصلحتهن؟ ونلمسها أيضاً في عدم اكتفاء القيادات بإبراز صوتها، بل اعتمادها على الإقصاء والعزل للأصوات المختلفة، ولو تطلب ذلك حملة لتشويه السمعة. أليست سمعة البنت وشرفها ينغصان عيشتها في هذا المجتمع الذكوري؟ ليس المقصود أن نكون ملائكة لا تخطئ، لكن علينا امتلاك الجرأة الكافية للتعلم من هذه الأخطاء والاعتراف بها.
ما نحتاجه أكثر من أي وقت مضى هو التعلم من أخواتنا العربيات في خوضهن النضال مع زميلاتهن الناشطات، والأمهات، والعاملات. فالذي يبقى في الأذهان ويحدث التغيير هو التجربة، لا الإنجاز. بالتجربة وحدها نجد المساحة الكافية لخلق أرضية ولغة مشتركة تجمعنا بالمرأة العاملة، والأم، وعارضة الأزياء، والسحاقية، وغير المتعلمة. وبالتجربة وحدها نستحدث الأدوات ونتعلم ونخلق تفاصيل ومفاهيم جديدة ومعيشة.