حينما يُقتل التمرد يموت التغيير



بلقيس حميد حسن
2013 / 3 / 9

قبل أيام وعبر برنامج الفيسبوك كنت قد استعدت علاقاتي ببعضٍ من أقرب وأعز الناس الى روحي, وهن صديقات طفولتي وزميلاتي في المدرسة. كانت إحدى صديقاتي تحدثني في التلفون ليعود الزمن بي الى مرحلة المتوسطة, حيث كنا شابات صغيرات نقرأ كتبا في تحرر المرأة ونتداول من الفكر والثقافة مايغذي عقولنا التواقة للنهوض بحياتنا, حتى وجدنا أنفسنا نتمرد أكثر وأكثر لنغوص في كتب من سبقنا لرفض حياة الجمود وأفكار القرون العتيقة والمساهمة بخلق الثورات العظيمة في تاريخ البشرية لبناء مجتمعات العدالة والمساواة وحقوق الانسان , المجتمعات التي يتمنى كل عراقي اليوم حياتها, فكنا نقرأ سيمون دي بوفوار, وقاسم أمين, وجبران خليل جبران, ونوال السعداوي, والكسندرا كولونتاي, ومكسيم غوركي, ودستوفسكي, ونلصق في دفاترنا صور انجيلا ديفيز, وجيفارا, وفهد, وسواهم من المناضلين في العالم والذين قادوا حركات تغيير الفكر البشري, وتركوا فكرا لاينضب لكل الأجيال. وكنا نذهب أبعد بطموحاتنا فنتداول كتب الفلسفة التي قد لا نفهم بعضها ونحن في تلك المرحلة من العمر.
كانت قدرتنا على القراءة ولهفتنا لها تشدنا الى الرغبة في الانعتاق الأبدي من كل مايكبـّل أرواحنا وعقولنا, فكنا نتمرد على الأهل ايجابا وليس سلباً, وكأن حال عقولنا تنطق بشعار "لا لحياتكن الحزينة ايتها الأمهات".
كانت صديقتي التي حادثتني قبل أيام, تعاني من عذابات زوجة أبيها, فحينما نجلس وحيدين , تحدثني وتمسح دموعها النازفة وجعاً من صراعات ومؤامرات تدور في منزلهم, ومن الظلم الواقع على والدتها وهي امراة طيبة وحكيمة, اتذكر هدوءها والحزن الذي يلف حديثها حتى وهي تسلم علينا وتستقبلنا نحن صديقات ابنتها.
كان دافع صديقتي للتغيير يفوق كل الدوافع وهي ترى أمها تـُهمل بكل مابها من مشاعر ورغاب بشرية لتتحول الى مخلوق يعيش على هامش المنزل كقطة لا يسمح لها بشي سوى بقايا الطعام, حيث تفضل عليها امرأة لا فضل لها سوى انها أصغر وأجمل..
كنا نتناقش في هذا دائما وكيف أن المرأة تجبر على قبول وضع مؤلم كهذا, وكنا نقارن مانقرأ في الكتب وواقع المرأة عندنا, فنشعر بالثورة تغلي في عروقنا لنندفع مؤمنين بمواجه ظلم التقاليد المجحفة للمرأة, تلك التقاليد التي تملك قدسية رغم جورها وسلبها انسانية النساء.
واليوم تحدثني صديقتي عبر الهاتف من العراق, لتخبرني وهي غارقة في الدهشة والعجب من اختلاف جيلنا ذاك عن جيل اليوم. تقول بأننا لم نكن نرضى بما يفرضونه علينا الأهل من ملبس مثلا, فكنا نرتدي مانريد من موديلات حديثة, ومما نراه في التلفزيون حتى لا نختلف عن ملابس أية امرأة في دولة اوروبية كفرنسا اضافة الى أننا, لم نكن نأخذ القشور والمودة فقط, انما كنا نحرر عقولنا بالقراءة, والاطلاع, والانخراط في تجمعات نسائية وثقافية رغم سريتها وخطورة الموقف, فكانت غالبية نساء العراق الواعيات والراغبات في التغيير عضوات في منظمات ديمقراطية كرابطة المرأة مثلا, رغم ان هذه التنظيمات تواجه مصاعب من نظام البعث المقبور, وكم كنا نناقش الأهل ونقنعهم أحيانا ليمنحوننا بعض حرية تتمناها اليوم كل بنات العراق, وتقول صديقتي بوجع:
الان إن قال الأهل للبنات عليكن ارتداء الجوارب في حر الصيف, فالبنات ينصعن لهم, وإن قالوا لهن الطمن واذهبن للعزاءات فهن يفعلن, في حين كنا نتندر على تلك التقاليد والطقوس البالية ونضحك على مايفعلون ونؤلف النكت.
عجبا !
أين هن من سنوات عمرنا الصغير في السبعينات, حيث كنا نستغل أيام عاشورا لنفعل موسعات واجتماعات نتداول بها كيفية تغيير أوضاع المرأة في العراق وكيفية خروجها من مأزق التخلف الذي يفرضه أغلب الأميين والجهلة المغيبين.
من هنا أتسائل بحسرة الفاقد:
من سيعيد للمرأة سويـّة التمرد في عمر الشباب الأول, وهل يأتي المدّ التحرري ليعيد سويـّةً في العقل والروح هي وحدها القادرة على قيادة التغيير والبناء الصحيح؟
من هو القادر على تمزيق أستار الخنوع لماضي القرون الهمجية, وإلغاء صورها البشعة من قطع الرؤوس, والرجم والتعتيم على العيون, وإطفاء نور العقول لتكون المرأة أو الأم وهي نواة بناء أول خلية للمجتمع, نواة صلبة, وليس نواة هلامية, ضعيفة, رجراجة لا تستقيم على موقف ومكان؟
من يعيد لعقول النساء ذاك التمرد الجميل, ويطلق الشمس في العراق من جديد؟