جرائم الشرف بين الدين والقانون



خالد الحروب
2013 / 3 / 18


بثينة حمدان ناشطة فلسطينية في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان والمرأة تستحق مع ناشطات أخريات زميلات لها أوسمة شرف على الجهود المتواصلة والمثابرة ضد ما تواجهه المرأة الفلسطينية من قمع ذكوري وتمييزي سواء من قبل المجتمع أو القانون نفسه. داخل قاعات الدراسة في معهد أبو لغد للدراسات الدولية في جامعة بير زيت وفي نقاشات مساقات برنامج الماجستير هناك حيث سعدت بتدريسها وزميلاتها وزملائها، كانت بثينة تطرح الأسئلة الصعبة والجريئة وتنتقد البنية المجتمعية القامعة للمرأة. وخارج قاعات الدراسة، كانت قد بدأت تطل على الفضاء المفتوح من خلال مدونتها ومقالاتها وما تنشره في أكثر من منبر. هذه الأيام تتضافر جهود بثينة مع ناشطات كثيرات في فلسطين وخارجها للوقوف أمام فضيحة ما يُسمى بـ«جرائم الشرف» في فلسطين وهي ذات النسخة المعيبة من القتل الرخيص المنتشرة في المنطقة بشكل عام. والحملة النبيلة التي تقودها الناشطات الفلسطينيات تستهدف كشف المستور ووضع هذا الموضوع تحت الشمس والأهم من ذلك تغيير القوانين التي تخلق المناخ المساعد والمسهّل على قتل المرأة بدعوى الشرف.

في مقالة جريئة لبثينة في شهر نوفمبر الماضي موجهة للرئيس عباس بعنوان «سيدي الرئيس: هل تصمت على قتل النساء؟»، أطلقت بثينة صرخة قوية وعالية باسم كل الإناث الضحايا اللواتي قتلن بأيد باردة واختبأ قتلتهن وراء «قانون العذر المخفف» الذي لا يمكث المجرم القاتل بسببه إلا شهوراً قليلة في السجن. في المقالة المذكورة عددت بثينة بعض الحالات الحديثة و«الطازجة» من القتل والضحايا البريئات. إنهن بنات في عمر الورود لهن وجوه وأسماء وأحلام وحياة كانت ممتدة أمامهن، ولسن أرقاماً في سجل الموتى. وقد أوردت المقالة حالاتهن ومختصراً موجعاً عن الجرم ذاته، حيث تم إثبات جريمة القتل ومعرفة القاتل ولكن الأحكام لم تطبق عليهم. وتتضمن الحالات قصة آية برادعية ابنة العشرين عاماً التي وجدت جثتها في بئر بالخليل في أبريل من عام 2010 وقد تحللت بالكامل بعد ثلاثة عشر شهراً من إلقائها في البئر، وقد اعترف عمها والجناة بالقتل ولم يحاكموا حتى الآن. وقصة المرأة التي قتلت على يد زوجها في شهر يوليو عام 2012 في أحد شوارع بيت لحم، وفتاة قتلت في طولكرم وأخرى في مخيم الشاطئ في الشهر نفسه. ثم في شهر يناير عام 2012 حالة أخرى مروعة حيث صدر حكم بحق أب اغتصب ابنته عام 2007 أي بعد وقوع الجريمة وسجنه بخمس سنوات، وكان حكم السجن عشر سنوات، تم تخفيفه إلى خمس بسبب إسقاط الحق الشخصي. علماً أن نسبة الاعتداءات الجنسية داخل الأسرة هي 75 في المئة من مجمل الاعتداءات الجنسية في المجتمع الفلسطيني. وفي فبراير من عام 2012 حكم بالسجن خمس سنوات على قاتل شقيقته في طولكرم! قاتل مع سبق الإصرار يصدر هذا الحكم المخفف عليه، الذي غالباً ما يخفض بعد فترة! وفي سبتمبر من عام 2011 في مخيم الدهيشة اغتصبت طفلة بعمر 12 سنة، وقتلها خالها بعد أن اكتشف حملها، والقضية حتى الآن بلا حكم منذ أكثر من عام! وفي صيف نفس العام وفور إعلان نتائج الثانوية العامة هذا الصيف قتلت فتاة عمرها 18 عاماً على يد والدها فلم تكتمل فرحتها بنتيجتها المشرفة ولم تكتمل حياتها.

وبشكل عام ثمة تحالف في كثير من بلادنا العربية ضد المرأة يضم موروثاً من التقاليد البالية، والتفسيرات القاصرة للنصوص الدينية، والأطراف المنتفعة المدافعة عن السيطرة الذكورية على المجتمعات وقمع المرأة، وعلى رأسها القوى العشائرية والقوى الإسلاموية. ويستقوي هذا التحالف بقوانين تميز ضد المرأة ولا تكرس المساواة بينها وبين الرجل بشكل تام، وتوفر لهذا الأخير القدرة على التحكم في المرأة وإخضاعها في البيت وخارج البيت، في مكان العمل والدراسة والترفيه. ونتائج الدراسات العلمية والمسحية حول وضع المرأة في المنطقة مخجلة حيث القمع وممارسات الضرب وانتهاك الحقوق وصولًا إلى ما يُسمى «قتل الشرف». ولأن الممارسات القمعية والتمييزية ضد المرأة تضرب بعمق لعقود طويلة، إن لم نقل لقرون، فلم تعد مُستهجنة بل وُتعتبر أشياء طبيعية وتُنسب إلى «الخصوصية الثقافية» لمجتمعاتنا -بمعنى أن لنا خصائص ثقافية تسوغ ما تمارسه المجتمعات ضد المرأة، وأن هذه الممارسات التي تُرى على أنها قمعية إنما تنتمي إلى سمات ثقافية تختلف عن نظيراتها للمجتمعات الأخرى.

«قتل الشرف» جريمة بلا شرف يجب القضاء على كل مناخ مُفضٍ إليها. فالقتل هو القتل وجزاؤه يجب أن يكون بالعقوبة القصوى، ومحدداً قضائياً، ولا هوادة فيه. ومن الطبيعي أن يؤدي أي تراخ أو تهوين في التعامل مع جريمة القتل إلى تشجيع الآخرين في الحالات المشابهة لارتكاب ذات الجرم. وفي جرائم «قتل الشرف» هناك قصص يندى لها الجبين حيث قتل الإناث يتم لأسباب في غالبيتها الكاسحة لا تتعلق بـ«الشرف» المزعوم الذي انتهك، بل يكون القاتل نفسه عديم الشرف إما لأنه يريد أن يقتل أخته أو قريبته للاستيلاء على الميراث كله، أو لأسباب عائلية، أو لأنه اعتدى عليها جنسياً والوسيلة الوحيدة لإخفاء جريمته تكون القيام بجريمة أخرى هي قتل الضحية، وهكذا. وحتى في الحالات التي يثبت فيها الفعل الجنسي بين اثنين عاقلين ومن دون غصب أو إجبار فإن القانون يجب أن يتدخل هنا ولا يسمح لأي كان التصرف بالطريقة التي يريدها. إذ كيف لأي كان إن يتصرف إزاء حدث استوجب ثبوته وجود أربعة شهود يرون الأمر معاينة وبتفصيل، كما هو وارد ومعروف؟

في وسط الكآبة والضيق الذي يحدثه هذا الموضوع في الوجدان هناك بصيص عقلانية وأمل يستحق أن يُشار إليه هنا، وهو أن الحملة التي تنسقها بثينة وزميلاتها تثمر الآن، ومن المؤمل أن تتكرس حتى تصبح هذه القضية شأناً عاماً لا يتم تجاوزه إلا أن تواجه بالقانون والقضاء. وأهم إنجاز أثمرته الحملة حتى الآن تمثل في الفتوى التي أصدرها الشيخ يوسف إدعيس رئيس المحكمة العليا الشرعية، رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي، على الموقع الإلكتروني للمحكمة حيث بيّن موقف الشرع من جرائم الشرف في فلسطين، مؤكداً بالبينات أن هذه الجرائم تخالف الشريعة الإسلامية، وأنها ظاهرة تتزايد وتستهدف نساء بريئات ولا تستند إلى البينات المذكورة في القرآن الكريم، وأنها عادة جاهلية حاربها الإسلام.