قسوة الأم



سونيا ابراهيم
2013 / 3 / 21

لعل أكثر ما يعجب القراء في الرواية الشهيرة لمكسيم غوركي " الأم " هو ذلك الشغف، و الحنان الذي تملأ به الأم أنحاء القصة، مما يجعلكِ كقارئة تشعرين بمدى انسانية المتحدث / الراوي، و هذا قد يكون رأيي البسيط أيضاً في بعض الروايات التي قرأتها لحنا مينة، نهاية رجل شجاع، و بعض الروايات الأخرى التي وصف فيها حالة الأم الفقيرة، التي تتحمل قسوة الأب، و غيابه من أجل تربية أطفالها.

****
الأم التي تستخدم الكبريت و تطفئه في أجساد أبنائها لتعلمهم النظافة، و الأم التي تهدد أبنائها بالدخول في النار، وهي تشعرهم باللوم لأنها أنجبتهم من جسدها، هي ما أتحدث عنه في هذه المقالة. و في البداية دعوني أكون صريحة معكم، ما شجعني على هذه الكتابة البسيطة هي مقابلة إذاعية سمعتها منذ بضع سنوات للكاتب اللبناني محمد أبي سمرا، عن روايته: سكان الصور .. و هو يتساءل فيها: كيف تجعلنا الحروب، و ظروف الظلم و الفقر نكره أجسادنا، و تُشعرنا إكراهاً بالمسئولية تجاه من هم حولنا؛ فيزداد شعورنا بالكره و بالتالي تعنيفهم لإبعادهم عنا رغم قرب الصلة بيننا؟

****
أتذكر كنت أستمع في الشرفة الضيقة إلى صوت طفلة الجيران الصغيرة، ضربتها والدتها بقوة و صرخت عليها، و عندما بكت الابنة ضربتها أمها و نهرتها لأنها فقدت السيطرة قبل وصولها الحمام، و دعوني أذكركم هنا أن الطفلة في الرابعة من عمرها !!
من خلال ملاحظتي للأم، التي أخبرتني في احدى المرات أنها لا تستطيع النوم براحة بسبب شعورها بالمسئولية، و صلتُ لاستنتاج بسيط أن الأمهات في حال المجتمعات الفقيرة المتدينة – غالباً – قد يشعرن بالذنب تجاه أجسادهن، و يكرهن أطفالهن الذين خرجوا من أرحامهن، و يحاولن ابقاءهم بعيدين عنهن بسبب غياب الراحة، و الأمان!
فنجد الأم تعامل أطفالها بقسوة، و تعنفهم معنوياً، و جسدياً دون ادراك منها، و كأنها تعاقب هذا الجسد في حالة من غياب الوعي؛ لتسيطر على المخزون الفكري و اللاشعوري الذي يسيطر عليها طيلة الوقت ( علاقة الجسد – الجنس – الأطفال الناتجين عن الزواج ) .

كان السبب الذي تزوجت من أجله الأم، و الذي جعلها تستمر في زواجها هو اشباع الحاجة الجنسية بطريقة مشروعة، و للأسف ظلت فكرتها متخلفة عن الزواج؛ لأن الزوج هو أيضاً كان محروماً من الجنس حتى تزوج منها! الأسوأ من ذلك هي أنها كانت تضرب ابنتها، و تمنعها من الصراخ و البكاء؛ حتى تُشعِر ابنتها أنها تستحق الإساءة الجسدية !
يجدر بالذكر هنا أيضاً أن معظم الأطفال المعنفين يعتقدون أن هذه هي الوسيلة الوحيدة للحصول على رضا الوالدين؛ فيصبحوا خائفين من التحدي و الإفلات من العقاب، أو التحدث عن الإساءة الجسدية و النفسية التي لحقت بهم؛ لأنهم يشعرون بالذنب.

****
أخبرتني صديقة لبنانية -مرتبطة بزوج فلسطيني، كنت قد تعرفتُ إليها مؤخراً في غزة- عن قسوة الحياة بعيداً عن أهلها، و لفت انتباهي ملاحظة قالتها لي عن النساء في غزة، و استمتعتُ بالإصغاء إليها: النساء في غزة بعد انجابهن أول طفل يفقدن الأمل من أجسادهن، و يصبحن بدينات .. و هي كانت تتحدث عن الغالبية – بشكل عام – و أنهن أقسى أمهات رأتهم في حياتها: "الأم هنا في غزة بدلاً من أن تمنع الأب من الاعتداء على فلذة كبدها، تقوم بتسليم العصا لزوجها و تقول له- ربّي ابنك!"

و بصراحة شديدة في الثلاث شهور الأخيرة قابلتُ ثلاث نساء – غير فلسطينيات – و هذا ما قالوه لي باختصار عن معاناتهن بسبب معيشتهن في غزة:

-السورية: اضطرت أن تعمل ( لفاية ) بعد أن كانت ممرضة في سوريا، و لم تستطع العودة لبلدها؛ بسبب وجود أبنائها ظلت تتحمل, و هي تعلم أن ( الزوج الغزي ) على قدر تعبيرها أكثر الرجال انكاراً للمعروف- يأخذ ولا يجد لديه ما يقدمه بالمقابل!

-اللبنانية: عرفتهم أول ما دخلت المعبر من رفح، و قلت هدول بيخوفوا .. و هي تبكي كل يوم بسبب تعاستها من المعيشة في غزة، فالناس هنا غير ودودين كأصدقائها و جيرانها في لبنان. ما أسعدني أنها استطاعت أن تخرج ابنها من غزة، و هو يدرس الآن في ألمانيا، و هي تخطط لإلتحاق به مع باقي عائلتها!

-المصرية: عايزة أهج من هنا. أنا معايا بنت منه. و مش عايزاه ياخدها. هو متجوز واحدة قبلي و عنده عيال كتير منها. طيب قوليلي أعمل ايه مع مراته اللئيمة ؟

ضحكت كثيراً بعد محادثتي للصديقة المصرية، و أخبرتُها أنه اذا كان زواجها مصرياً ربما استطاعت أن تحصل على حقوق وصاية ابنتها الوحيدة ! لم أنس ما قالتْه عن الفلسطينيات: احنا المصريات دمعتنا قريبة، و قلبنا رهيف، بس الفلسطينيات قويات .. و لئيمات !

****

لم أجد ما أقوله لأواسي به الثلاث الصديقات التعيسات، و لكني أعلم أنه في بلدي فلسطين نشعر نحن أبنائها و بناتها بالغربة، و بقسوة ظروف هذه الأرض علينا، فماذا عن المغتربات ؟؟
هل يعقل أن تقسو الأرض علينا، و نقسو نحن النساء على أطفالنا؟ أم هو تقسيم الذكور من أبناء الأرض لما هو عليها- جعل النساء بهذه الخشونة و القساوة؟؟ لن أكتفي بأن أقول أنه على الرغم من التضحيات، التي قدمتها نساء فلسطينيات من أجل البقاء على هذه الأرض؛ إلا أنني لم أجد أكثر تخلفاً، و انكاراً للمعروف من مجتمع غزة! و هذا سيجعلني أبدو للحظة و كأني أغرق في التعميم و الانطباعية البديهية، و لكن سوء المعاملة و محاولة اخفائها من قبل حكومات القمع تحت الاحتلال تمنح المسئولين و
أولياء الأمور في المجتمع غطاءً لقمع مزيد من الحقوق للأطفال و النساء؛ الفئات المهمشة في المجتمع!

****
المشكلة حتى الآن في مجتمعاتنا العربية لا تقتصر على الحروب، و الفقر، و البطالة، و الفتاوي التي تصيب عامة الناس من البسطاء بالإرهاب الفكري و البارانويا، بل هي أنه لا يوجد دور للمجتمع المدني في منع تعنيف الأطفال و النساء، و العمل على نشر الوعي، و سن القوانين في المدارس أيضاً لمنع المعلمات و المعلمين من استخدام الضرب أو التعنيف المعنوي !
أليس غريباً كيف أنه في دول متقدمة – تحترم حقوق الطفل - تجد مؤسسات رعاية الأسرة قد تمنع الأم أو الأب من الاقتراب من ابنته أو ابنه في حال اساءة معاملة الطفل، بينما نجد الآباء العرب يقذفون في مهابل نسائهم، اللاتي ينجبن الأطفال بهدف اشباع غريزتهم، و التتابع البيولوجي فقط ؟؟ هذا الفارق الكبير بين أب يفكر و يخطط لعائلة يدعمها و يساندها، و بين أب آخر أنجب طفلاً عربياً محظوظاً؛ ليعلمه أول كلمة ينطق بها : يل..عن أب..اك !

****
أعتقد أن ما يحتاج أن يدركه أبناء الجيل الجديد من الفلسطينين هو تحمل المسئولية، وبناء الاستقلالية بعيداً عن عائلتهم فكرياً، واقتصادياً، وحتى اجتماعياً. الأمر الذي لا يدركه معظم الشباب الفلسطيني أن قبولهم بالرضوخ لأساليب القمع في العائلة الأبوية سوف يساعد ذلك على تكوين مؤسسات، و دوائر حكومية تستفيد من قمعه، و عزله عن اتخاذ القرار. الفردية هي شئ مهم يجب أن ينهم منه الإنسان العربي؛ حتى يستطيع أن يصحح مسار حياته بعدما دمرها فكر معظم الآباء و الأمهات بسلطويتهم، و خوفهم التقليدي من تفوق أبنائهم!
لذلك نجد أن أخطاء آباءنا و أمهاتنا، و معتقداتهم التقليدية – الغير قابلة للنقد من وجهة نظرهم – هي ما أسكتت ضمائرهم، و كتمت أصواتهم عندما وجد الجيل الجديد نفسه يعاني من فساد الحكومات، و عدم ديمقراطية التعليم، و انعدام استقلالية مؤسسات المجتمع المدني، و سوء الخدمات الحكومية، و عدم ارتقاءها بمستواهم الانساني! لقد أورثتنا هذه المجتمعات السلطوية نظرة دونية، و شعوراً بعقدة النقص أمام مجتمعات تحترم الطفولة، و المرأة، هذه المجتمعات تحفظها قوانين مدنية تساعد العائلة في بلدان قادها مفكرون متحرورن، و ثائرون للتقدم إلى الأمام.

****
يؤسفني أن أقول أنه أصبحنا في الأراضي المحتلة سكاناً أكثر ما يكونوا بعيدين عن أنفسهم: منا الجبناء و منا الكسولين، و منا المتسلطين، ومنا القادة – تحت وطأة الاحتلال - .. و كثير منا غائبون عن الادراك و الفهم العام أيضاً سقطوا بأمراضهم و تحليلاتهم الذكورية .. حتى أصبحت أمهاتنا تتمنى فراقنا و هن يتمنين أن يخلصهن الله من همنا! ما المشكلة اذن عندما يكون الله يكرهنا، و نحن نخرج إلى هذا العالم بجنسيات ثقيلة العبء علينا، و تنتمي لهذا البلد المحتَل من حكوماته و فسادها، بعد الاحتلال : ف ل س ط ي ن ؟