مكان أمي



جهاد علاونه
2013 / 3 / 21

تصدير: يقول أحد الفلاسفة: يبقى الإنسان طفلا إلى أن تموت أمه,فإذا ماتت شاخ فجأة.

مكانة أمي في القلب ومكان أمي بجانب خزانتها التي تتألم طوال الليل وهي تصرخ من ألم هشاشة العظام والتي لا تذوق طعم النوم إلا بعد إطلالة الفجر ..وفي أي بيت شرقي أو غربي أو شمالي أو جنوبي تجدُ فيه مكانا مخصصا لكبار السن يجلسون فيه ولا يبدلونه,كأن يتخذ أحدهم مقعدا على الشباك(النافذة) أو يتخذ مكانا إلى جانب خزانة ملابسه كما تفعلُ أمي هذا النمط من الجلوس ليلا ونهارا إلى جانب خزانتها ,وأمي في ذلك مثلها مثل كل الناس لها في بيتنا مكانا مخصصا تجلس فيه ولا يستطيع أحد أن يحتل هذا المكان أو أن يبني فيه مستوطنة له أو أن يقول هذا مكاني وليس مكانها ,أضف إلى ذلك أن أمي ترفض تغيير مكانها في الجلوس أو مكان نومها علما أنها تجلس وتنام وتصحو في نفس المكان تماما كما كانت جدتي من قبلها لها مكانها في البيت بحيث لا يستطيع أي أحدٍ أن يعبث به أو أن يرسل منه رسائل وكلام وأوامر فهي وحدها من كانت تجلس في مكانها لتصدر عنها أخطر الآراء والقرارات السياسية والقضائية والتنفيذية.

وحتى إن جلس في مكان أمي غيرها فمن المستحيل أن يكون منظر الجالس جميلا بل يكون منظره عبارة عن سخرية وتقليد ومحاولة تمثيل دورها بأسلوب تمثيلي هابط, كما تفعل كل أخواتي في الأوقات التي تتغيب فيه أمي عن مكانها,فأمي مثلا في مكان جلوسها تستطيع أن تحل كل المشاكل التي تقع تحت عينيها وخصوصا الخلافات العائلية بين الإخوة والأخوات أو بين الأزواج والزوجات.

وحين أعود من العمل إلى البيت أول شيءٍ أفعله هو البحث عن أمي في مكانها المخصص الذي تجلس فيه إلى جانب خزانتها حيث تتواجد في خزانتها كل مسكنات الألم والقهر وأدوية السُكري والضغط والمعدة,وإذا وجدتُها في مكانها ترتاحُ نفسي كثيرا وأنسى كل ما بي من عناء وتعب وجنون فآخذ نفسا عميقا ويطمئن قلبي بأن أمي في البيت وجالسة في مكانها حيث يتحول المكان إلى عرش إمبراطور أو أنبراطورة وليكن بعلم الجميع بأن أمي ترفض رفضا قاطعا تغيير مكانها أو غرفتها فهي تتخذ شعارا يقول بما معناه بأنها تنام وتصحو في نفس المكان الذي ستفيض في يوم من الأيام منه روحها إلى بارئها,ومهما قدمنا لها من مغريات لا تستطيع تلك المغريات تغيير لونها أو شكلها أو مكان جلوسها.


وحين لا أجدها في مكانها المعتاد أتوجه إلى زوجتي بالسؤال عنها قائلا:أين أمي؟ فتقول لي زوجتي:أول شيء قل السلام عليكم,فأقول:آسف جدا السلام عليكم,أين أمي؟ فتخبرني زوجتي مثلا بأنها خلف الدار جالسة تحت شجرة الزيتون أو أنها في بيت(خالي) وهو جار عزيز على قلبي وصديق لكل الناس,والمهم في الموضوع أنني حين لا أجدها في مكانها أشعر بالحزن الشديد ولا أحد يستطيع أحدٌ من الناس كان من كان أن يصف حزني وألمي حين تتحول الأفكار إلى تخيلات وأوهام سيئة وتحليلات مزعجة وتكهنات ليست بمحلها وبصريح العبارة حين لا أجدُ أمي في مكانها تضيق الدنيا بوجها وتصبح عندي تهيئات واحتمالات سيئة جدا وأشعر بالوحدة القاتلة,فأنا بدون أمي لا أساوي أي شيء ولا يمكن أن أجلس في البيت ولا مجرد ساعة واحدة فأذهب للبحث عنها خلف البيت إذا لم تكن زوجتي عارفة بمكانها, وأرتاد كل الأماكن التي تجلسُ فيها فأقف حائرا في كل مكان من البيت أو من حول البيت وأتحسس برفق مكانها وأقول:هنا كانت تجلس وهنا كانت تتكلم ومن هنا تتصل بها ملائكة الأرض والسماء, فإذا لم أجدها بمكانها المعتاد أجلس أنا فيه حزينا أتحسس الحنان والعطف وأشعرُ بأن البيت كله مظلم جدا وأشعر بأن الطقس باردٌ جدا حتى لو كان في فصل الصيف, وأحيانا إذا لم أجدها في مكانها ألوم زوجتي كثيرا وأطالبها بتفسير سبب غياب أمي وأحيانا أتهمها بأنها هي المتسبب بغيابها عن مكانها فتقسم لي بأنها ليست هي السبب وبأن أمي خرجت من البيت دون أن تقول لها شيئا ودون أن تحدد لها وجهتها, ولي خال يبعد عن منزلنا مسافة 3 كيلو متر ويحضر أحيانا منزلنا لأخذ أمي إلى بيته فتذهب أمي معه في الوقت الذي أشعرُ به بضيقٍ شديد بالنفس وأحيانا أتصل فيها على هاتفها النقال في كل ساعة أو ساعتين فيبتسم خالي ويقول لي:شو بدك فيها أي هي كاينه بدها تعطيك الرضعة؟ فأقول :لا,ولكني اشتقت لها جدا,وأحيانا تتغيب عن البيت في ضيافة خالي ليومٍ أو ليومين فتتحول حياتي إلى جحيم مطبق ولا أحلق ذقني وأظلُ مهموما حتى تعود إلى مكانها الذي تجلس فيه,وحين تحضر إلى البيت إحدى أخواتي وأمي غائبة في بيت خالي تتعمد الجلوس في مكان أمي ولكن نفسي لا تطيق هذا التصرف وأقول لها:هذا المكان مخصص لأمي وليس لك ومنظرك وأنت تجلسين بهم قرف جدا وغير ظريف.

وحين أدخل البيت أحملق بنظري إلى مكانها المعتاد الذي تجلس فيها فأسلم عليها ومن ثم أحمل بين يدي ابنتي(بتول) وأذهب بها إلى السوبر ماركت لكي تتسوق وتمارس متعة التسوق ب(شلن) أو بعشرة قروش,وأعود بها إلى البيت ثم أجلس إلى جوار أمي لكي ترتاح نفسي من كثرة التعب والتفكير,وأنا لا تستطيع لا زوجتي ولا حتى أكبر ملكة جمال في العالم أن تنسيني همومي ومشاكلي كما تنسيني أمي كل همومي وكل مشاكلي, وصحيح أنني لا أكلمها مطلقا عن همومي الفكرية إلا أنني بمجرد جلوسي إلى جوارها أشعر بالراحة التي ليس مثلها راحة