ذاكرة كفاح النساء: صفحة المرأة بجريدة الاتحاد المغربي للشغل (الطليعة) و الاتحاد التقدمي للنساء المغربيات.



زكية داود
2013 / 3 / 29



منغمسة بالكامل في هذا العمل النقابي و النضالي، اقتربت من نساء الاتحاد المغربي للشغل. لسن عديدات. كانت مندوبة اسمها أمينة تمثل خادمات البيوت. وبدون وسائل، و عرضة لتهميش، وللمعاملة برأفة هازئة، في محيط الرجال الشاق ذاك، كانت تقوم بـ" نزاعاتها" ممتطية دراجة نارية، أي بدون سيارة، و تزور مصانع ضاحية الدار البيضاء. كان ذاك يقرب بيننا، لأني أنا أيضا كنت عرضة للسخرية، فعقيصتي [جديلة شعر ملتفة بمؤخرة الرأس] وجواربي الخضراء، كلها مثار تهكم. كانت هامشيتنا تقرب بيننا، و بفعل قراءاتي الكثيرة حول وضع المرأة، عقدت العزم على المساهمة في تغييره.

في متم العام 1961، طلبت أن أتناول بالعرض مشاكل النساء بالصفحة الأخيرة من الجريدة الأسبوعية للتقابة، وكان لي ذلك. لذا كنت أفحص الأماكن التي تعمل بها العاملات، و المعلمات، و الممرضات، والـُمجلسات بدور السينما، و عاملات فرز الزروع بالقنيطرة، و عاملات تصبير السردين بآسفي، و عاملات البريد، و الخادمات الصغيرات.

كانت عاملات التصبير بآسفي انتصاري الأول. وصفت بسخط ظروف عملهن الشاقة: يعملن في أسمالهن، و أرجلهن الحافية في الماء الوسخ، والأيدي غاطسة في أحواض تقشير السمك، و أطفالهن على ظهورهن. بعد التحقيق الصحفي، ُمنحت لهن جزمات و وزرات، و جرى تكليف إمرأة مسنة بحضانة أطفالهن في مقر ُخصص لذلك. كنت فخورة جدا. ودعاني عمال آسفي لتناول الكلمة في بورصة الشغل. كان المكان مكتظا بالحاضرين لدرجة أن ثمة من تسلق الزجاجية، منذرة بالانهيار. لا أتكلم العربية، وقد قمت مرارا بجهود لا سيما بمنهجية الأزرق حيث الكتابة بالحرف اللاتيني و إبراز الحركات لكن دون تسهيل النطق. هذا لدرجة انه كلما نطقت كان زملائي في جريدة الطليعة يقهقهون، مستشفين في أقوالي مدلولات ماجنة تستكمل شل قدرتي على الكلام. و لكثرة سخريتهم بي، أوقفت نهائيا تعلمي لبغة العربية. كنت أفهم بالاحرى الكلمات، لا الجمل، لكني لا اتمكن من التلفظ بوضوح.

في اسفي كنت هيأت بعناية خطابي حول التطور الذي غنى عنه لوضع النساء، لكن لم يكن لي بد من مترجمة. و قبل مناضل أن " يعيرني" زوجته بشرط أن تبقى محتجبة. نلنا تصفيقات بأدب. لكن أمكن ان ندرك أن الأمر بعيد عن الظفر به. كما قدمت لي مناضلة قديمة ، اسمها خدوج، مجعدة و بلا أسنان، و عيناها سوداوان تشعان عزما، و قيل لي أن هذه المرأة المثالية كسرت يد شرطي جاء لاعتقالها. لقد عثرت على بطلتي. و عدت بازدهاء الى الجريدة و معي صورة هويتها بقصد نشرها في صفحة المرأة. سخر مني المحررون الآخرون. و قال لي أحدهم، وهو من أسفي: لكن إنها قوادة، لقد تلاعبوا بك.استشطت غضبا، و مرت الصورة بالجريدة. لكن الذكوريين الصغار قاموا، بقصد الانتقام، بحشو التحقيق الصحفي، وما جاء بعده، بتعابير هي، هي ، هي و أوه، أوه ، أوه، من اجل تمرير نصوصي على أنها مزاح وذلك تحت غطاء أخطاء مطبعية.

جعلتني صفحتي النسائية هزأتهم في المطبعة حيث نعمل يوما في الأسبوع، أيدينا سوداء بمداد حروف الطباعة و أشكال الرخام، هذا كله قبل النشر المعد بالحاسوب و الإعلاميات.

عنف العلاقات الإنسانية

العلاقات قاسية داخل الاتحاد المغربي للشغل، ما من أحد يمنح نفسه هدية. انه على نحو ما فيلم أمريكي من تلك الحقبة حول شيالة نيويورك، مع مارلون براندو، بعنوان على الأرصفة. لا شفقة على المناضلات الساذجات، المسلحات بحسن نيتهن لا غير، كأنهن نعاج ضالات في عالم الرجال المنخرطين في نضال سياسي و نقابي. كنت اذهب للجلوس في مكتب رئيس تحرير جريدة التحرير، يومية الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، عبد الرحمن اليوسفي الذي كان يتقاسم نفس المطبعة ابريجما مع جريدة الطليعة، بقصد التقاط الأنفاس، بعد إنهاك سببه نقص فهمي من طرف الآخرين. كان مجاملا،حسن الخلق، مطمئنا. كان ثمة أيضا بجريدة التحرير صحفي مراكشي يوقع نصوصه باسم ولد جامع الفنا، وصحراوي منتعل صندلات، مجعد الشعر، لم يكن يتنقل الا متأبطا كثرة من الكتب، انه محمد باهي. كانوا منفتحين، مثقفين، مؤنسين، أكثر من زملائي. وكان ثمة أيضا الصديق مارك أوليفييه Marc Olivier ،الذي امتنع عن الذهاب إلى الحرب بالجزائر، فوجد نفسه مناضلا و صحافيا بالاتحاد المغربي للشغل.

كما بنيت صداقات، مع مليكة، العالمة بالبريد التي تزوجت لاحقا المحجوب بن الصديق، و الضاوية عطار المندوبة النقابية بالقنيطرة التي اعتقلت بسبب تنظيمها حاجز إضراب مع عاملات قطاني ، فحظيت بمساندة مظاهرة 2000 امرأة أمام باب المحكمة، و غيرهما كثيرات، ممن كن يندهشن للاهتمام بهن ثم يسررن لذلك.

كانت صفحة المرأة مقروءة جدا. و عندما أمر صباحا بمقهى الاتحاد المغربي للشغل بالطابق الأرضي قبل ركوب المصعد، أو طلوع الأدراج ان كان معطلا، كنت أرى منذهلة العمال و المندوبين النقابيين يقرؤون صفحة المرأة. وعندما أثرت قضية الخادمات الصغيرات، كان كثيرون يتبعونني في الممرات ليقولوا لي ان لديهم خادمات لكنهم يعاملونهن جيدا. كنت حانقة و محبطة معا: لكن أيها الرفاق لم أكن أريد الكلام عنكم، لم أكن أتصور حتى أن تكون لديكم خادمات صغيرات. دون نسيان المجلسات بدور السينما، العاملات بلا أجر، و اللائي يعطى لهم عشرون سنتيما. أسبوعا بعد أسبوع، كنت من اجل مبادئ أساسية: أجر مساو لعمل مساو، إلغاء مناطق تخفيض الأجور، طب الشغل، إلغاء الطلاق التي كنت ألاحظ ما يسبب من كوارث اجتماعية، تغيير مدونة الأحوال الشخصية. وكان المسؤولون بدؤوا هم أيضا يهتمون بصفحة النساء التي لم تكن تتجنب أيا من المشاكل الوطنية و الدولية وكان لها بداية نتائج ايجابية على الصحة العمومية، بعد ست صفحات مخصصة لوضع الممرضات ألقت ضوءا على قدم المستشفيات و نقص الوسائل، لدرجة أن رضعا تعرضوا لعضاض الجرذان بالدار البيضاء. كان ذلك التحقيق الصحفي مضنيا جدا: اجتياح الجناح 36، تكدس المرضى، المعدومين من الانسانية، الذين يحاولون لمس الزوار، وكذلك شأن جناح النساء في برشيد، حيث تشبه المجنونات، او المعتبرات كذلك،وقد أصبحن بدينات بفعل الدواء، أسماك حوت جانحة على عشب هزيل. لكن عندما طُلب مني في السنة اللاحقة أن اعيد الغطس في الصحة العمومية، طالبت فضح بعض اختلاسات المستخدمين، و حالة اغتصاب، و سرقات، فلم يتبع ذلك شيء.

الاتحاد التقدمي للنساء المغربيات:

[...] عقد الاتحاد المغربي للشغل مؤتمره الثالث بالدار البيضاء. جاء مندوبون كثر من أفريقيا: و ملأت مقررات المؤتمر، القاسية جدا، أعدادا من جريدة الطليعة. سيكرس هذا المؤتمر الطلاق المضمر مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. صرح المحجوب بن الصديق: الساعة ليست ساعة المواجهة السياسية مع النظام. المغرب بحاجة إلى أبطال وزعماء اقل مما هو بحاجة إلى مواطنين واعين.

ترافق التحفظ المعبر عنه حول النضال السياسي بإرادة خوض نضال اجتماعي بهدف معقول من اجل تحسين ظروف حياة العمال. إجمالا لا يرى الاتحاد المغربي للشغل أن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية قادر على خوض مواجهة طويلة الأمد مع النظام، و يرفض التحول إلى أداة حزب سياسي كي لا يفقد مكاسبه. و باختيار مساومات معينة شدد الاتحاد النقابي التطهير في صفوفه. وتصلب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية و بات صراعه مع الحسن الثاني مواجهة. كان عبد الرحيم بوعبيد متشائما، و بنظره يعيش المغرب في وضع تقلب دائم. وطالب بإعادة تنظيم الدولة والقضاء على الرشوة و الفساد و توقع بأنه بدون ديمقراطية سيهاجم الملك اليسار و ستضطر منظمتنا الى السرية مضيفا: برنامجنا هو الكفيل وحده بإنقاذ الملكية. و ذكر أن محمد الخامس لم يكن قبل وفاته راضيا عن تجربته إشرافه المباشر على الحكومة و كان يتهيأ لينهيها.

ذات يوم دعاني المحجوب بن الصديق و أمرني بتجميع النساء في منظمة مستقلة مرتبطة بالاتحاد المغربي للشغل، كما فعل في الحقبة ذاتها بعمال الزراعة الذين بدا تنظيمهم في 1961 مع عبد الكريم بنسليمان. كان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يتهمه بالعلاقة مع رضا كديرة و بإلغاء مقصود للإضراب المرتقب في الوظيفة العمومية. أنشا إذن منظمته الفلاحية الخاصة. لم أكن على علم بالأمر، و بسذاجة و ابتهاج بالفكرة رأيت فيها نتيجة معركة العاملات و شجاعتهن. فوافقت بحماس. لكن المناضلين، قليلي الاهتمام بإعارة نسائهم كانوا أكثر تحفظا وحتى ساخرين.

سأعلم لاحقا أن الأمر مندرج في صراع داخلي مرتبط باقتراب المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية حيث تسعى كل من مكوناته، ومنها الاتحاد المغربي للشغل، إلى إظهار قوتها. لكن انشغالي المفرط في الحياة اليومية وفي الأحداث الوطنية و الدولية الواجب التعليق عليها جعلاني لا اعرف إلا القليل عن النقاشات الداخلية في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية التي لم تكن معروضة في الساحة العامة و لا حتى على المناضلين.

أصبحنا إذن، أمينة و أنا، و بعض المناضلات اللائي لقين تشجيعا من فروعن، و صديقات تعرفت عليهن في أثناء التحقيقات الصحفية بالقطاعات النسائية، منخرطات في تنظيم إحدى عشر مؤتمرا اقليميا، بمساعدة بعض المناضلين المتفانين مثل عبد الصمد الكنفاوي، ثم في تحضير مؤتمر وطني. كان واجبا العمل بسرعة، و لم أكن آنذاك أدرك السبب، لكن إيماني بالتغيير كان يحدوني. جرت الأمور على نحو جيد ما عدا ان وعيي بجهلي التام للغة العربية و هيئتي كسيدة نصرانية جعلاني امضي وقتي في الاختفاء وراء باقات الزهور عندما أكون جالسة بالمنصة.

وأخيرا يوم 22 أبريل 1962 اجتمعت نساء من كامل المغرب، منتدبات من تلك المؤتمرات الإقليمية، بقاعة الأفراح بالدار البيضاء بشارع الجيش الملكي لتأسيس الاتحاد التقدمي للنساء المغربيات الناشئ، كما جاء في كراسة كتبتها و احتفظ بها بعناية كبيرة، عن إرادة النساء الانخراط أكثر في معركة الشعب برمته و و توقهن إلى العدالة و الديمقراطية و الحرية و الاعتراف بمكانتهن العادلة في الأمة. و طالبن بتحسين ظروف عملهن و بالمساواة و بتشريع اجتماعي جديد و إلغاء كافة أشكال الميز. و نصت أنظمة الاتحاد على العمل للرقي بالمرأة و على دراسة مصالحا المادية و المعنوية و الدفاع عنها. و ذكر التقرير التوجيهي بمشاركة المرأة في المعركة من أجل الاستقلال، و أكد أن المرأة لا تزال مهضومة الحقوق وان ثمة سعيا إلى كبح تطورها بوسائل قانونية مع عدم تطبيق الحقوق التي يعترف بها القانون، هذا الذي يحتاج بدوره إلى تغيير. و وجه الاتحاد التقدمي للنساء المغربيات نداء من اجل التحرر و المكانة المستحقة والديمقراطية و العدالة و الحرية و التوزيع العادل للثروات و حياة لائقة...

لا تزال لدي صورة هذا المؤتمر الأول للاتحاد التقدمي للنساء المغربيات. في المنصة أجلس أنا و مليكة مستخدمة البريد و أمينة عاملة التنظيف و ممرضة و الضاوية من القنيطرة و أخريات. كان عمري 25 سنة و كنت منذهلة. عشية المؤتمر قال لي زوجي: ماذا ستفعلين إذا لم تعيني في منصب مسؤولية، و أنت تعلمين أن ذلك غير ممكن؟ لم أفكر في ذلك في غمرة العمل. هكذا تم إرجاعي إلى ما سيكون دوما وضعي في هذا البلد: مغربية طبعا لكن أجنبية مع ذلك. لحسن الحظ لم يطرح المشكل ذلك اليوم. وبحذر عين المؤتمر ثمانية مسؤولات منهم أنا عن العلاقات الدولية، وهذا طبيعي بالنسبة لأجنبية. ثابرت إذن على الكتابة في العالم برمته لإعلان ميلاد الاتحاد التقدمي للنساء المغربيات و لمواصلة تحضير المؤتمرات الإقليمية التي تتابعت في مناخ غريب: ففي القنيطرة جرت مشادات بين نساء الاتحاد التقدمي لنساء المغربيات و نساء بن بركة العائد من المنفى و المنكب هو أيضا على التعبئة لمؤتمر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.

المصدر : Les années Lamalif

1958-1988 Trente ans de journalisme au Maroc

Tarik Editions- 2007

تعريب المناضل-ة