مصر والمرأة في مواجهة التأسلم «1»



رفعت السعيد
2013 / 4 / 17

وما كان النضال المصري المتواصل من أجل حقوق المرأة سوي مجرد محاولة لاستعارة ما كان لها من حقوق ومكانة في الزمن الفرعوني. فالحضارة الفرعونية ما كانت لتنهض إلا عبر نهضة اجتماعية مثيرة للاعجاب. المسألة لم تكن مجرد اعجاب هندسي ناتج من فراغ، وإنما بني علي أسس حضارية كانت هي الاعجاز الحقيقي. ومن بين هذا الاعجاز الحضاري تألق الموقف من المرأة.

هذا التألق الذي أذهل فردريك انجلز في كتابه «أصل العائلة» وظل يحاول البحث عن بواعث هذا التألق وقال ربما كان السبب هو أن الرجال كانوا يتجهون في زمن الفيضان بمجموعات كبيرة للإسهام في بناء الاهرامات والمعابد تاركين الأسرة كلها في رعاية الأم التي تعلمت واتقنت كيف تدبر شئون الأسرة وتربية الابناء، وما كان للرجل أن يمنح للمرأة هذه المهام التي تتطلب سلطة آمره إلا بمنحها مكانة اجتماعية عالية.

وهو المبدأ الذي ترسخ عبر المسيرة الطويلة للنضال من أجل حقوق المرأة باعتبارها جزءا من حقوق الشعب بأكمله. فلا تحرير للمرأة وحدها وإنما حريتها وحقوقها جزء من حقوق الشعب كله، ويتحدث برستيد في كتابه «فجر الضمير» عن العلاقات الاجتماعية في مصر القديمة قائلا: «كان للعقل قيمة أساسية عند الفراعنة. فالقلب هو العقل، فالعقل قوة تفشي الكلمة التي تعلن الفكرة فتلبسها ثوب الحقيقة. فهو لم ينظر إلي المبادئ الأخلاقية في شكل كلمات مجرده، أو قيم كلامية بل في صور مجسمة فهو لا يفكر في السرقة وإنما في السارق، ولا في الحب دائما في المحبوب ولا في الفقر وإنما في الرجل الفقير» (ص55).

ولهذا فإن تكون الوازع الأخلاقي في العلاقات الأسرية يبرز في صورة مجسده تتلخص في الاحترام الشديد للأب والتقدير الكامل للأم بما تجسد في معاني الاحترام الكامل والمساواة للمرأة. ويتواصل الدكتور محمد سلام زناتي في كتابه الرائع (حقوق الإنسان في مصر الفرعونية) مع هذه الفكرة متحدثا عن حقوق المرأة في هذه المرحلة قائلا: «عندما تصور المصري القديم وجود أرباب تصور معها وعلي الفور وجود ربات، وكذلك ملوك وملكات، كهنة وكاهنات، وحتي في المهن المختلفة في إحدي مصاطب الأسرة الرائعة دفنت سيدة هي «بسشت» وكان لقبها رئيسة الطبيبات، وكانت هناك «نشأت» التي تولت منصب وكيلة أملاك الحاكم.

لكن الأهم من المناصب هو آداب وقواعد التعامل مع المرأة. يقول الحكيم آني «لا تكن فظا مع المرأة في بيتها، عندما تجد أنه حسن الترتيب، لا تقل لها أين ذلك الشيء؟ لأنها وضعته قطعا في المكان المناسب والآن وأنت مفعم بالسعادة ضع يدك في يدها، فهناك كثير من الناس لا يعرف كيف يتصرف الرجل مع المرأة.. «وللمرأة نصيب كبير في ميراث الرجل» ففي وصيته أوصي نيكاودع (ابن خوفو) لزوجته بنصيب يفوق نصيب كل ولد من أولاده.

ويقول ماسبيرو في كتابه (الحياة في مصر القديمة) «المرأة المصرية كانت أكثر احتراما واكثر استقلالية من أي امرأة أخري في العالم». ويقول الباحث الفرنسي باتوريه «لم تكن سلطة المرأة في مصر تستند إلي فكرة الأم وإنما إلي فكرة المرأة ذاتها، وكانوا يطلقون عليها «بانيت» أي ربة البيت، وهي مساوية للرجل سواء في الأسرة أو في المجتمع وتتمتع بأهلية قانونية كاملة بمجرد بلوغها سن الرشد (نقلا عن د. محمود سلام زناتي المرجع السابق- ص57) أما ديور دور الصقلي فيقول عند المصريين القدامي كان للملكة من القوي والمجد أكثر مما للملك ويتعهد العريس عند عقد الزواج بأن يستمع إلي رأي زوجته في جميع الأمور»، (هيردوت يتحدث عن مصر – ص 310).

وتمضي أزمنة عديدة تطمس فيها الحضارة الفرعونية، تبقي الأبنية الحجرية وتختفي الأسس الحضارية التي قامت هذه الأبنية علي أساسها. وإذ يعود رفاعة الطهطاوي من باريس يفزع إذ يجد أن الوالي محمد علي يتصرف في كثير من غير مكترث بقيمتها، فيكتب إذ علم أن محمد علي قد أعطي إحدي المسلات لفرنسا «حيث أن مصر أخذت الآن في أسباب التمدن والتعلم علي منوال أوروبا فهي أولي وأحق بما تركه لها اسلافها من أنواع الزينة والصناعة ، ويقول «ولم يكن بين الأمم مثل قدماء المصريين في قوتهم وكانت خيولهم تسبق سالفا خيول سائر الممالك في الركض في ميادين الفخار (تخليص الابريز في تلخيص باريز – ص299)، وفي كتابه (مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية) يقول «كانت مصر أيام الفراعنة أم أمم الدنيا وكانت شوكة سلاحها قوية، وهيبتها في القلوب متمكنة علية، ومصر أم الحضارات، لم تسبقها أمة في ميدان المدينة ولا في حرفة تقنين القوانين وتشريع الأحكام ولم تجحد نعمة اقتباس علومها أمة عاقلة» (ص194)، ويقول د. جمال الدين الشيال تعليقا علي كتابات رفاعة «فرفاعة هو أول مؤرخ مصري عرف تاريخ مصر القديم علي حقيقته وهو أول مؤرخ مصري آمن بأمجاد هذا التاريخ الفرعوني القديم» (د. جمال الدين الشيال- التاريخ والمؤرخون في القرن التاسع عشر- ص17)- وكثيرا ما صب رفاعة الطهطاوي غضبه علي أجيال مصرية عديدة اهملت الآثار، وقالت إنها مجرد مساخيط بل وابدي صراحة اعتراضه علي عزيز مصر محمد علي باشا إذ بعثر كثيرا من الآثار علي اصدقائه الأوروبيين.

وهكذا ومن باب الحضارة الفرعونية وآثارها أتي رفاعة الطهطاوي إلي قضية المرأة المصرية وحقها في المساواة وفي التوظف وفي التعليم.

وهو ما سنأتي إليه.