غزة.. جحيم من نوع آخر للنساء، و الأطفال



سونيا ابراهيم
2013 / 4 / 25

هذه ليست عائلتي
عاشت والدتي الفقر و المذلة منذ الصغر، لم أكن حتى مرحلة معينة أدرك معنى القصص التي كانت تحكيها لنا، و هي تحدثنا عن طفولتها، الأب الذي كان يمتلك قطعة أرض يعمل فيها بناته و أولاده، و يقسو على الجميع بتعليماته لإنهاء العمل قبل تناول الطعام؛ بل كان العمل عند جدي هو المقابل للمصروف الذي يأخذه الأبناء، و الطعام الذي يتناولونه، المسافة الطويلة التي مشيتها والدتي للمدرسة، و المصروف القليل الذي لم تحصل عليه في كثير من المرات في فصل الشتاء و البرد، الظروف التي كانت تصفها والدتي عند ميلاد جدتي لأخوتها الصغيرات.
****
مازوشية الفقر، و المذلة التي عايشتها والدتي لم تتخلص منها حتى بعد أن تزوجت من رجل ثري-أبي- بل جعلتها تشعر بهذه النقمة على الأبناء، و كنا نلاحظ- أنا و أخواتي- زيارات خالاتي التي كثرت بعد أن تولى والدي منصباً رفيعاً في إحدى مؤسسات العمل الخاص، و كانت خالتي الكبرى دائماً تجد طريقة لشتم والدي-العجوز الذي سترثه أختها الصغيرة- حتى بعد أن كانت تأتِ لزيارتنا لتناول الطعام كل يوم جمعة، و برفقتها عائلتها، و لم تكن ملاحظاتها على ملابسنا التي تظهر فرق بين عائلة والدتي و بين بناتها، تُخفِ أي نوع من الحقد الذي تمارسه علينا طبيعتها الحقودة. الفقراء عادة يستعفون، أو يطالبون بحقوقهم، و التاريخ ينسج قصصاً بطولية عن كرامة الفقراء، و الطبقات الكادحة بثوراتهم، و لكن خالتي الكبرى- و مثلها أمي البيولوجية- لم تكونا أي من هؤلاء.. مازوشية والدتي؛ بسبب تنشئتها في بيئة ذكورية فقيرة كونت لديها أفكاراً مخطئة حتى تجاه نفسها، المرأة تُنجب الأبناء و تربيهم، و يظل الولد أحسن من البنت، و باقي الأكليشيهات العربية الذكورية، و لكن ما لم أفهمه يوماً هو قتلها لمشاعرها بسبب هذا الفقر. لقد قابلت في حياتي و بكثرة نساء فقيرات، قهرتهن الظروف، و تغلبن عليها بالصبر و المثابرة، و لكن الكراهية التي لحقت بوالدتي و لم تتخلص منها حتى بعد أن تحسن مستوى معيشتها بزواجها من والدي، سببت تشوهاً في حياتنا كأسرة تربت على يد هذه الأم.
ليس وارداً علينا نحن النساء، و لا الأطفال في المجتمعات العربية أن نلوم الأم، فكل تعاليم الدين، و تعليم المدارس بمستوى لا يحترم فردية المواطن العربي، و لا يحترم وجودية المرأة، و اختياراتها في الحياة؛ حتى أنني أصير أتساءل يوماً بعد يوم هل سنصل نحن العرب لحالة نكتب فيها عن تقدم مجدٍ في حياتنا دون أن يحول أحد من الذكور، أو المسئولين تحطيمها، أو إعاقة تقدمها. مَن هو المسئول عن كل هذه الأنظمة التي فُرضت علينا سياسياً، و اقتصادياً، و حتى المنظومة الدينية التي تخلو من الأخلاق ؟ هل هم الضحايا الذين يحاولون التقدم في حياتهم أم المسئولين المستفيدين من جهل و ضعف الفئات العريضة من هذه المجتمعات؟ هل الأكاديميون و الأكاديميات، هم/نّ من يبني/نّ هذه المجتمعات، و أنظمتها الأخلاقية أم بقايا الأنظمة المهترئة، و باقي عملاؤها داخل الدول العربية، و حتى خارجها؟ المنظومة الأخلاقية التي تنجرف وراء كل هذه العاهات التي يعيشها المواطن/ة العربي/ة تلوثت منذ زمن بعيد، و لم تجد من يقيمها إلا و تعرض إما للإهانة أو التهميش.. الجادين وحدهم يخسرون، و النزيهين و حدهم في المنظومة الأخلاقية العربية يرفضون الانثناء عن قول الحقيقة و لكنهم غالباً يغادرون.. إما خوفاً على حياتهم، أو حياة أفراد عائلاتهم.
****
ما عانته والدتي- كامرأة تربيت مع والد يقسو عليها، و أم انحصرت وظيفتها بالصمت، و هي تنجب عدداً لا يقل عن عشرة أطفال- لم يتوقف فحسب على اعتمادها حتى سن الخامسة عشر على قرارات عائلتها؛ بل حتى عندما توفيت جدتي، تركت وصية للبنات: "خالاتي"؛ بألا يطالبن بحقوقهن في الميراث من إخوتهن الذكور، و تركت وصية لأبنائها الذكور؛ بألا يطالبوا بحق والدتهم بالميراث من أخوالهم.. تركت لهم الوصية التي نفذتها البنات بصمت، و نفاق شديدين، و التي لم ينفذها أبنائها الذكور حتى حصلوا على ميراث والدتهم، و وزعوه بينهم متجاهلين حصة أخواتهم البنات كالعادة.. تبين لي بعدما عانيتُ طويلاً أن المرأة غالباً -في مجتمعنا الشرقي- هي عدو نفسها، و أنها لا تحب الخير لنفسها؛ لذلك تميز أبنائها الذكور، وتؤثرُ عليها سلباً تنشئتُها في عائلة لا تحترم وجودها في الحياة. تضحكني وجهة النظر، التي تقتصر نفسها على أرائي و شخصيتي؛ حتى أجد أن نساء تربوا في ظروف ليست بأفضل حال، و لكنهن ما زالوا يغطين عقولهن بحجاب المجتمع و عادات العائلة و تقاليدها، و يدّعينَ سعادتهنّ في مجتمع يرتب لهن زواجاً مدبراً، و تُحَدَد قيمتهُنّ فيه بمبلغ من المال و الهدايا، التي تحول زواجهن لنوع من اتجار البشر.. الفقر و الجهل يتحدث عن حالنا نحن العرب، و لكن النساء يبدو لي أحياناً بسبب بعض النماذج السلبية هن من يسئن لصورة أنفسهن بقبولهن المساومة، حتى البرجوازيات منهن قد يستطعن الانتقال إلى بلدان يعشن فيها هجرتهن، أو يخترن الصمت للحصول على قبول المجتمع؛ فهن من الطبقة الراقية التي لا تتحدث إلا عن الحياة النظيفة السعيدة بعيداً عن ضوضاء و مشاغبة المظلومين! سوف أكون صادقة جداً و يغلبني الحزن، و أنا أعبر عن غياب دور النساء الفلسطينيات اللواتي يخرجن عن النمط، و يتحدثن بحرية عن متاعب حياتهن تحت الاحتلال.. الغريب منا نحن الفلسطينيون أننا نرفض التطبيع مع إسرائيل، و لكننا نمارسه على الضحايا كل يوم..
لا أستطيع أن أطلب من العالم أن يتعاطف مع قضيتنا، و رجالنا يمارسون الجنس مع شريكاتهم، خلف ألواح من ( الزينقو )، و خلفهم الأطفال يموتون جوعاً في صفوف مكدسة.. هل أستطيع أن أطلب من العالم أن يشفق على أرضنا، و النساء تُخترق أجسادها من خلال تلك الفتحات، والثقوب التي ترسمها جدرانهم الفقيرة، في ذلك العنف الذي تفرضه سنوات طويلة من الجهل و الفقر، الذي فرضوه حول رقابنا!
لا أستطيع أن أصفح عن جدي، الذي لم يرحم جدتي وهي تنجب خالتنا الصغرى تحت ألواح مثقوبة من المطر والبرد، و هو يمنعها عن زيارة الطبيب على الرغم من أني كنت سأتسامح مع الجارة، التي أنجبت نصف أبناء الحي من أرحام أمهاتهم، و هي تقطع الأجزاء الخارجة بالمشرط بدلاً من استخدام المقص!

من الطبيعي أن تتنازل المرأة عن حقوقها، و من الطبيعي أن يقبل المجتمع وجود مجرمين لضحايا شرف، و يتصالح معهم، و من الطبيعي ألا يكون هناك عدالة إذا طلب أهل القتيل مبلغاً من المال للتعويض عن روح الفقيد، و لكن ما أعتقد أنه من غير الطبيعي هو أن نحاول أن ندّعي أن هذا هو المجتمع الطبيعي. على الرغم من هذه الموازنة السياسية، التي تختلف أبعادها اجتماعياً، و نفسياً عن الأوجاع، التي تعيشها المرأة الفلسطينية رغم كل تضحياتها، إلا أنهم لم يقدروا كل هذه الظروف؛ لذلك لا أستغرب، بل أحزن على حال باقي النساء العربيات في باقي الدول العربية.. أتساءل دائماً هل مشكلتي-كفلسطينية- هي إسرائيل، بل من يدعمها و يدّعي بعد ذلك الديمقراطية، والإنسانية؟ أم من يضطهد شعبه بالداخل، و يدعم الحكومات التي استبدلتها شعوبها بعد الثورات التي أزاحت رؤوس الأنظمة الفاسدة؟
اقتباس الفكرة التي طرحها عليّ رجلاً غزياً من عامة الشعب: "غالبية الأصوات التي فازت بها حكومة حماس جاءت من النساء أمثالكن، و ليس من الرجال أمثالنا".. هل ما تريده الغزيات جحيماً، و وجعاً بعد فساد السلطة الوطنية؟.. أليس الأجدر بكن أن تتحررن، و تربين أولادكن و بناتكن على مبادئ الحرية، و المساواة، و الكرامة بدلاً من الخضوع و الاستسلام؟ أليس الأجدر بكن البناء و المشاركة بدلاً من التواكل، و الاختباء في عباءة الخوف و التنازل؟ إن ما رأته المرأة الفلسطينية في غزة لمدة أكثر من ست سنوات لا يبشر بالخير.. و القادم أسوأ إلا إذا....